كانت تجربة النظام الرئاسي المحور في السودان قصيرة الأمد ولكن عيوبها في التطبيق كانت ظاهرة. فعلى الرغم من تعديل الدستور وتعديل قانون السلطة التنفيذية لتكون سلطة رئيس الوزراء بتخويل من الدستور وليس بتفويض من الرئيس فإن ذلك لم يحصن سلطة رئيس الوزراء من تدخل الرئيس مباشرة وغير مباشرة في سلطة رئيس الوزراء.
وصل التدخل إلى حد اجتماع الرئيس مباشرة مع موظفين من الخدمة العامة لاصدار توجيهات مباشرة لهم في غياب الوزير المختص وغياب رئيس الوزراء بل عدم التشاور معه مسبقا وهكذا إنتهت المحاولة إلى فشل ذريع لم يعترف به أحد واختار أول رئيس وزراء التنحي بهدوء دون إثارة ضوضاء في وقت كان تقديره له أن إثارة اللغط في إبانه سوف تضر ولا تصلح.
عيوب النظام الرئاسي المحور
أشرنا إلى ثلاثة نماذج للنظام الرئاسي المحور في السودان ومصر وأندونيسيا، وعيوب هذا النظام هي تركيز غالب الصلاحيات في يد السلطة التنفيذية التي يملكها كاملة رئيس الجمهورية، ومبدأ التمييز بين السلطات القائم على مبدأ التكابح المتبادل أو الفصل بين السلطات على الطريقة الأمريكية شديد الوهن فى هذا النظام المحور.
وهو يكرس تركيز السلطات في يد السلطة التنفيذية. التي تسيطر علي قدرِ كبير من الصلاحيات والتشريعات. وتملك منفردة الحق في تعيين قيادة السلطة القضائية وبذلك تؤثرعلي المبدأ المطلق لاستقلال السلطة القضائية ويجعل من كونها تقف محايدة بين السلطات أمراً مشكوكاً بشأنه.
وفي النماذج الثلاثة فإن لرئيس الجمهورية الحق في تعيين وإقالة الوزراء والوزير الأول إن شاء أن يفوض بعضاً من سلطاته لوزير أول. وفي الدستور المصري لعام 2014 فإن الرئيس ملزم بتعيين رئيس للوزراء يتشاور بشأنه مع مجلس النواب. ولكنه يملك حق إقالته والتقدم بتعديل جديد لمجلس النواب والذي يُعرض نفسه للحل إذا لم يوافق على التعديل في المرة الثانية في فترة لا تتجاوز الشهرين من اقتراح الرئيس للتعديل.
وهذا الأمر من آثار ثورة 25 يناير فهو لم يكن موجوداً في الدستور على عهد الرئيس مبارك والذي كان يملك مطلقا حق تعيين الوزراء ورئيسهم وإقالته وإقالتهم متي شاء. وتحمل الكتلة الموالية للرئيس فى البرلمان الحالى تعديلا قد يغير وشيكاً الوضع الذى يعطى البرلمان هذا الحق فى المصادقة على الحكومة.
بيد أنه وفي حال تكليف وزير أول فإن ذلك لا ينقص من سلطة الرئيس في المبادرة بالسياسات الكلية وهو يكاد ينفرد بالشؤون الدفاعية والأمن الداخلي والشؤون الخارجية والتي يملك هو وحده حق اختيار وزرائها دون التشاور مع رئيس الوزراء أو أية جهة أخرى ولكن في واقع الحال لم يكتف الرؤساء بالتوجيهات الكلية بل تدخلوا في صغائر التفاصيل.
إنه في تقدير من خط هذه الكلمات أن النظام الرئاسي المحور لا يصلح للتطبيق في العالم الثالث والذي لا تزال سلطة وسطوة القانون والمؤسسات فيه ضعيفة وواهية.
وبينما استطاعت تجربة النظام الرئاسي المحور الحد من السلطات الواسعة للرؤساء في بلدان أوروبية بسبب رسوخ سلطة الدستور والقانون وقوة المؤسسات فإن محاولات استنساخه في العالم الثالث واجهت فشلا لا يماري فيه إلا مكابر.. والأنموذج الأصل للنظام شبه الرئاسي هو النظام الرئاسي الفرنسي. وقد تطور بتغيير النظام البرلماني الذي كان سائداً في فرنسا قبل العام 1958. والرئيس فيه يتمتع بصلاحيات واسعة في الأمور الدفاعية والخارجية والأمن الداخلي والتخطيط الكلي.
ذلك على الرغم من أن الاحتمال يرد بأن تكون الحكومة ذات أغلبية برلمانية من خارج حزبه كما حدث بين الرئيس ميتران وشيراك. والرئيس ينتخب مباشرة من قبل الجمهور وهو يحتكر السياسة الخارجية والدفاع والأمن. وهو المسؤول عن تعيين الطاقم الحكومي فهو يعين رئيس الوزراء ويقيله ويعين الوزراء بناء على اقتراح رئيس الحكومة الوزير الأول ويقيلهم. ويرأس مجلس الوزراء إن شاء حضور جلساته. ويوقع المراسيم والاتفاقيات والتشريعات وللرئيس حق طرح مشاريع قوانين للاستفتاء العام وله المبادرة في مراجعة الدستور وله حق دعوة الجمعية الوطنية إلى دورة استثنائية.
وهو مخول بحل الجمعية الوطنية وهو أيضاً رئيس مجلس القضاء الأعلى. والوزير الأول هو من يرأس في المعتاد مجلس الوزراء ويقوم بتوجيه الوزراء وتنسيق أعمالهم سواء تعلق الأمر باقتراح السياسات أو التشريعات أو أية برامج اخرى. ويقوم كذلك بما يتماشى لتوجيهات رئيس الجمهورية. والبرلمان يتكون من الجمعية العمومية ومجلس الشيوخ واختصاصات الجمعية الوطنية التشريعية واسعة وفق المادة 37 من الدستور. أما السلطة القضائية فمستقلة والتعيين فيها مشاركة بين الجمعية الوطنية والرئيس ولا تخضع للاجراءات المعتادة في الخدمة العامة.
والنظام شبه الرئاسي مطبق في البرتغال والنمسا وفلندا. وقد أخذ به الدستور التونسي الجديد والذي يخول لرئيس الجمهورية صلاحيات غير منتقصة في مجالات الدفاع والخارجية والأمن. وهو يتولى التعيينات والإعفاءات في كل الوحدات التابعة لهذه الدوائر. كذلك يعين رئيس البنك المركزي بترشيح من رئيس الحكومة. ويقوم بجميع التعيينات المتعلقة ايضاً بهيئات رئاسة الجمهورية. بينما يعين رئيس الوزراء في دوائر الوزارات الأخري وعليه اخطار الرئيس باعماله في هذا المجال. ويرشح رئيس الحكومة وزراءه بعد التشاور مع الرئيس. وقد نقلت الجمهورية التركية تجربة النظام الرئاسي المحور ولا يزال الوقت مبكرا للحكم على تجربة وليدة هنالك.
وعودا على بدء القول فإن اختيار النظام الرئاسي مع ولو كان مشروطا باختيار لرئيس وزراء يعني الآتي:
1 ـ إن النظام في السودان ليس نظاماً برلمانياً بل هو رئاسي والبرلمان يملك فيه التشريع والرقابة وليس كل التشريع، وكما أن البرلمان لا يملك حق الشراكة في إنشاء السلطة التنفيذية إلا في بعض مواقع من باب الاستثناء مثل تعيين المراجع العام والمحكمة الدستورية ومفوضية قسمة الموارد بالتشارك مع الرئيس.
2 ـ إن اختيار النظام الرئاسي يعني استبعاد النظام شبه الرئاسي الذي تتم فيه المقاسمة في السلطة بين الرئاسة والحكومة الخاضعة للبرلمان والمؤسسة بموافقته والتي يملك حق سحب المصادقة عليها وبالتالي إسقاطها متي حظى ذلك بالاغلبية الكافية لذلك. وإن السلطة التنفيذية تقتسم بين مجلس للوزراء مخول بالدستور ومعين من البرلمان وخاضعا لرقابته ورئيس منتخب من الشعب انتخابا مباشرا.
3 ـ إن اختيار النظام الرئاسي يعنى أن لرئيس الجمهورية أن يختار رئيساً للوزراء قد يكون نائباً له أو قد لا يكون. وأن يفوضه ببعض سلطاته التنفيذية خارج مجالات الدفاع والأمن القومي والتخطيط الكلي وهذا أمر يحدث في غالب الانظمة الرئاسية وفي هذه الحال يكون اقتسام الصلاحيات بالتفويض من الرئيس وتجاوز فيه المراجعة للرئيس متى شاء.
أو قد يختار أن يترأس هو بنفسه مجلس الوزراء ولا فرق فرئيس الوزراء إن وجد بغير تخويل من الدستور وصلاحيات مستقلة سيكون مجرد كبير للوزراء ويبقى الصيد كله في جوف الفرى وتبقى السلطة كاملة في يد الرئيس.
4 ـ أما إذا أختار رئيس الجمهورية رئيساً للوزراء فسوف يكون مساءلاً لدى رئيس الجمهورية ومسؤولاً أيضاً أمام البرلمان. وفي هذه الحالة لابد من النص على سلطاته في الدستور تأمينا لها من إفتئات الرئيس عليها ويحق للبرلمان أن يوصي لدى رئيس الجمهورية باستبداله بعد استجوابه أمامه واخفاقه فى الحظوة برضا البرلمان.
5 ـ يكون لرئيس الوزراء سلطات مخولة بالدستور والقانون في مجال كافة السياسات التنفيذية والتعيينات والقرارات المتصلة باداء الوزارات. وعليه اخطار رئيس الجمهورية بهذه السياسات والقرارات والتعيينات. ويكون الوزراء مسؤولون أمام رئيس الوزراء مباشرة ويجوز لرئيس الجمهورية مساءلتهم عبر رئيس الوزراء. ويجوز له طلب إعفائهم من مناصبهم من رئيس الوزراء. ولا يجوز للوزراء تجاوز رئيس الوزراء لتلقي التوجيهات مباشرة من الرئيس ولا رفع تقاريرهم مباشرة إليه بل الي رئيس الوزراء.
وقد كانت تجربة رئيس الوزراء بكري حسن صالح محصنة بنصوص استحدثت في الدستور وقانون السلطة التنفيذية لكن ذلك لم يحصنها فى واقع الحال من تدخلات فظة من الرئيس وانتهى الامر الى تنحي اول رئيس وزراء في عهد الإنقاذ ولم تخلو فترة رئاسة معتز موسي من تدخلات عقدت مهمة رئيس الوزراء رغم العلاقة الوطيدة مع الرئيس.
مما جعلها قناعة مستقرة عندي بعد تجربة نميرى الذي حكم منفردا كما حكم مع رئيس وزراء هو الرشيد الطاهر ثم تجربة البشير الذي حكم مع ثلاثة رؤساء في غضون أقل من عامين ولم تكن تجربة قد يحكم عليها بأنها قاربت النجاح، أن طبيعة النظام الرئاسي تجنح في جوهر فكرتها الى احتكار سلطة واسعة للرئيس وكل سلطة كبرى هي سلطة مطغية مهما ظن الناس الخير في صاحبها فان لم يستخدمها هو استخدمها الملأ المقرب من سدة حكمه.
في بلدان العام الثالث حيث ثقافة المؤسسة واهية وسلطة الدستور والقانون أوهى فإن وضع سلطات واسعة في يد شخص واحد هي بلا شك وصفة مؤكدة للاستبداد والاستبداد هو صنو الاضطراب وفساد الأمر إن هو بقي وإلا فإن ما يأتي من بعده بعد انتفاضة غضب قد يكون أسوأ وأنكى..
إقرأ أيضا: هل يصلح النظام الرئاسي لمواجهة الاستبداد عربيا؟ (1 من 2)
هل يصلح النظام الرئاسي لمواجهة الاستبداد عربيا؟ (1 من 2)
الجغرافيا السياسية في عالم ما بعد الجائحة.. قراءة استشرافية
قراءة في المحددات السياسية والطائفية للمشهد اللبناني