تبلور النظام البرلماني في سياقه الغربي في إطار تجربة تاريخية عاشتها الحياة السياسية البريطانية أساسا، حيث ترسخت قواعد هذا النظام في بريطانيا التي يجمع الفقه الدستوري على نعتها بـ"أم البرلمانات"، فمن داخل هذا البلد ولدت جل مقومات النظام النيابي، وتأصلت لتصبح تراثا مشتركا للإنسانية.
لقد عرفت بريطانيا خلال القرن 17 و18 بروز ثلاث مشروعيات متنافسة ومتصارعة، فمن جهة: الملكية التي تستمد مشروعيتها من التاريخ وتعد تجسيدا واستمرارية له، وهناك البرلمان لا سيما مجلس العموم الذي يعد الشعب مصدر وجوده، وهناك النبلاء اعتبارا لمكانتهم الاجتماعية.
فمن داخل هذه المشروعيات، واستنادا إلى ميزان القوى بينهم تشكلت العناصر الدستورية الأساسية القادرة على تأطير العلاقة بين الأطراف الثلاثة (الملكية، الشعب، النبلاء)، وتشكلت القواعد الأساسية للنظام الدستوري البريطاني، وهي: قاعدة انبثاق الحكومة عن البرلمان وقاعدة المسؤولية السياسية للحكومة. ويتميز النظام البرلماني في بريطانيا بالفصل المرن بين السلطات التي تتقاسم بينها الاختصاصات بشكل سلس، فرغم قيام السلطة التشريعية بوظيفة التشريع فإن السلطة التنفيذية لها حق المبادرة التشريعية واقتراح مشاريع القوانين على البرلمان، وبالمقابل فإن للسلطة التشريعية الحق في مراقبة أعمال السلطة التنفيذية، ذلك أن تنظيم العلاقة بين السلطتين قائم على فكرة الفصل والتعاون بينهما، فهي علاقة تعاون ورقابة، بحيث يتم اختيار أعضاء السلطة التشريعية من قبل المواطنين بالاقتراع العام المباشر، ولأعضاء البرلمان الحق في توجيه الأسئلة واستجواب الوزراء والتحقيق معهم وتقرير المسؤولية الوزارية بالإضافة إلى حجب الثقة عنهم.
وبغض النظر عن السياقات التي انتقلت فيها الفكرة البرلمانية للعالم العربي، فقد عاشت معظم البلدان العربية تجارب نيابية معتبرة، لم تنجح في التطور بالشكل المطلوب رغم الدينامية السياسية القوية التي عاشتها بلداننا على إيقاع ما اصطلح عليه بالربيع العربي.
وهكذا لم تكن القرارات الغريبة التي أقدم عليها الرئيس التونسي قيس سعيد معزولة عن سياق إقليمي عربي يعاني من صراع مرير ضد الفكرة البرلمانية، وإن جاءت معاكسة للتراكم الاستثنائي الحاصل في التجربة التونسية بعد الرجة الثورية التي أثمرت دستور 2014، هذا الدستور الذي بوأ البرلمان التونسي مكانة محترمة ومكنه من صلاحيات تشريعية ورقابية هامة تجعله بمثابة التجسيد المؤسساتي للنظام البرلماني الذي يعتبر من أعرق الأنظمة الدستورية، ومحاولة جادة لترسيخ مبدأ الفصل بين السلطات في التربة العربية. في هذه المقالة نستعرض محنة الفكرة البرلمانية من خلال بعض النماذج في العالم العربي..
في تونس
استند الرئيس التونسي قيس سعيّد على قراءة خاصة للفصل 80 من الدستور التونسي ليقوم بإنهاء مهام رئيس الحكومة وتجميد عمل البرلمان، ورفع الحصانة عن نوابه، على أن يتولى هو بنفسه سلطة التشريع عبر مراسيم بناء على أمر رئاسي، كما جمع بيده السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة تعمل بصلاحيات محدودة تحت إشرافه المباشر وبحضور رمزي لرئيستها أستاذة الجيولوجيا نجلاء بودن.
وبالرجوع لمنطوق الفصل 80 من الدستور التونسي، الخاص بالإجراءات الاستثنائية، فإنه يمكن "لرئيس الجمهورية في حالة خطرٍ داهمٍ مهددٍ لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدّستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب".
ووفق الفقرة الثّانية من نفس الفصل "يجب أن تهدف هذه التّدابير إلى تأمين عودة السّير العادي لدواليب الدّولة في أقرب الآجال، ويُعتبر مجلس نواب الشعب (البرلمان) في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة".
بغض النظر عن السياقات التي انتقلت فيها الفكرة البرلمانية للعالم العربي، فقد عاشت معظم البلدان العربية تجارب نيابية معتبرة، لم تنجح في التطور بالشكل المطلوب رغم الدينامية السياسية القوية التي عاشتها بلداننا على إيقاع ما اصطلح عليه بالربيع العربي.
ووفقا للخطة التي أعلن عنها قيس سعيّد بعد ذلك، فإن التونسيين سيكونون على موعد مع استفتاء شعبي حول مشاريع الإصلاحات الدستورية وأمور أخرى في 25 تموز (يوليو) 2022.
وستنظم قبل الاستفتاء استشارة وطنية إلكترونية تنطلق مطلع كانون الثاني (يناير) 2022 وتنتهي في 20 آذار (مارس) و"ستتولى لجنة تأليف مختلف المقترحات حتى نهاية حزيران/يونيو". وفي السابع عشر من كانون الأول (ديسمبر) 2022، ستنظم انتخابات تشريعية وفقا لقانون انتخاب جديد تنهي تجميد عمل البرلمان.
ودونما حاجة للرجوع إلى الأسباب التي كانت وراء تعطيل إخراج المحكمة الدستورية إلى الوجود، يبدو من الواضح أننا أمام قراءة فيها الكثير من التعسف على مقتضيات الدستور، وأن هناك محاولات من طرف الرئيس لتغيير فلسفة النظام البرلماني التي يستند عليها الدستور التونسي، في أفق تكريس نظام دستوري جديد بفلسفة جديدة لم تعد خافية على أحد بعد التصريحات المتتالية للرئيس التونسي التي تفيد رغبته في تغيير دستور 2014، والعودة بالبلاد إلى ما قبل 2011، كما أن هناك غموضا كبيرا يلف طبيعة القانون الانتخابي الجديد والجهة المشرفة على الانتخابات، دون الحديث عن التساؤلات المحيطة بطبيعة هذه الاستشارات الإلكترونية والتخوفات المشروعة حول إمكانية انتهاكها للمعطيات الشخصية الخاصة بالمواطنين والمواطنات، وهو ما دفع بالبلاد إلى توترات سياسية حادة زاد في تغذيتها القرارات والتصريحات المتتالية للرئيس سعيد والتي تتحرش بالقضاء وتحاول تحجيم سلطته ليقوم بدور وظيفي في إطار سلطة الدولة التي تقترب في تصور أستاذ القانون الدستوري من شعار "الدولة أنا وأنا الدولة L'État, c'est moi" التي رفعها الملك لويس الرابع عشر الذي حكم فرنسا 54 عاما بين 1661 ـ 1715م في إطار ملكية مطلقة تعد من النماذج البارزة للاستبداد السياسي في أوروبا...
في ليبيا:
وغير بعيد عن تونس، تعيش ليبيا تجربة برلمانية عجيبة على إيقاع تجاذب قوي بين مجلس النواب الذي يجتمع في طبرق بعيدا عن العاصمة وعن بنغازي أيضا ولا يحظى باعتراف عدد من القوى السياسية سواء في الداخل أو من طرف عدد من برلمانات العالم، وبين المجلس الأعلى للدولة الذي تشكل استناداً إلى الاتفاق السياسي الموقع في مدينة الصخيرات المغربية بتاريخ 17 كانون الأول (ديسمبر) 2015 م، والذي دخل حيز التنفيذ بعد التوقيع عليه من طرف أقطاب الحوار، ووفقاً لوثيقة الاتفاق تحول "المؤتمر الوطني العام" إلى صفته الجديدة "المجلس الأعلى للدولة"، وينظم الاتفاق علاقة المجلس الأعلى للدولة بمجلس النواب والمجلس الرئاسي في صياغة التشريعات واستشارته المُلزمة في إدارة شؤون البلاد، ومن بين اختصاصاته إبداء الرأي الملزم لحكومة الوفاق الوطني في مشاريع القوانين قبل إحالتها لمجلس النواب.
وقد تعثرت عملية تنظيم الانتخابات التي كان من المفروض أن يجري تنظيمها قبل حوالي شهر، وذلك بسبب الصعوبات التقنية والتنظيمية التي تخفي وراءها تجاذبات سياسية قوية تتضارب فيها مصالح داخلية وخارجية، وتعبر عن نفسها في الخلاف الحاد حول القوانين الانتخابية، وقد أخذت العملية أبعادا خطيرة عندما صادق مجلس النواب على قانون انتخابي مثير للجدل من دون تصويت، وقد اعتبر هذا القانون مفصلا على مقاس المشير خليفة حفتر قبل ترشحه.
لم تكن القرارات الغريبة التي أقدم عليها الرئيس التونسي قيس سعيد معزولة عن سياق إقليمي عربي يعاني من صراع مرير ضد الفكرة البرلمانية، وإن جاءت معاكسة للتراكم الاستثنائي الحاصل في التجربة التونسية بعد الرجة الثورية التي أثمرت دستور 2014، هذا الدستور الذي بوأ البرلمان التونسي مكانة محترمة ومكنه من صلاحيات تشريعية ورقابية هامة تجعله بمثابة التجسيد المؤسساتي للنظام البرلماني الذي يعتبر من أعرق الأنظمة الدستورية،
أمام هذه المعطيات وغيرها، لم تعد المؤسسات التمثيلية قادرة على احتضان النقاش السياسي بين أطراف الخلاف وجرى تعيين الأمريكية ستيفاني وليامز مستشارة خاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، حيث قامت بعقد لقاءات مكثفة بين مختلف الجهات الليبية مما يؤشر على المزيد من تدويل الملف الليبي، والمزيد من إضعاف المؤسسة البرلمانية وأدوارها في الوساطة والتمثيل السياسي للمواطنين.
في السودان:
وفقا للوثيقة الدستورية الخاصة بالمرحلة الانتقالية، كان من المفروض الإعلان عن تشكيل البرلمان من 300 عضو بعد ثلاثة أشهر من توقيع الاتفاق، لكن ذلك لم يحصل إلى حدود كتابة هذه السطور، وقد اصطدمت العودة إلى الحياة السياسية المدنية بعدة صعوبات واجهت الفترة الانتقالية التي ابتدأت مباشرة بعد الإطاحة بنظام الرئيس عمر البشير في نيسان (أبريل) 2019، وبالرجوع إلى الوثيقة الدستورية يتشكل المجلس التشريعي من 67 في المائة من قوى "إعلان الحرية والتغيير" و33 في المائة من القوى الأخرى المشاركة في الثورة.
ورغم طبيعته الإقصائية في حق القوى السياسية الأخرى فلم تنجح التوازنات الدقيقة بين المكون العسكري والفاعلين السياسيين من تشكيل البرلمان سواء عن طريق الانتخاب المباشر أو عن طريق المحاصصة الحزبية، وازداد الوضع تعقيدا باستقالة رئيس الوزراء حمدوك، علما أن الوثيقة الدستورية حينما تناولت موضوع المجلس التشريعي، أعطت صلاحيات التشريع لمجلسي السيادة والوزراء، وبالتالي عملت هذه الأطراف على تمرير القوانين والتشريعات اللازمة، خاصة اتفاقية السلام والوثيقة الدستورية، وهي خطوة أفرغت البرلمان السوداني من أهم وظائفه المتمثلة في التشريعات، ومراقبة أداء مجلس الوزراء ومساءلته، وإجازة الموازنة العامة للدولة، والمصادقة على الاتفاقيات والمعاهدات، ويبقى الأمل في برلمان يمثل كل مكونات الشعب السوداني مطلبا بعيد المنال بالنظر للنفق المسدود الذي يتجه نحوه التقاطب السياسي في سودان ما بعد الثورة..
في العراق ولبنان واليمن وبشكل ما سوريا..
من الصعب الحديث عن الفكرة البرلمانية أصلا في هذه البلدان، ففي العراق تمسك عدد من الأحزاب السياسية بموقفها الرافض لنتائج الانتخابات وقدّمت طعناً للمحكمة الاتحادية لإلغائها، ورغم رفض المحكمة إلغاء نتائج الانتخابات استمر التوتر في المنطقة الخضراء لعدة أسابيع تنديداً بالنتائج، وبلغ ذروته مع محاولة اغتيال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في نوفمبر الماضي. وبينما يتشبث التيار الصدري الكتلة الأكبر في البرلمان بتشكيل حكومة أغلبية برلمانية بالتحالف مع أحزاب سياسية مختلفة، يصر منافسوه من الإطار التنسيقي الذي يضم القوى السياسية الشيعية الأخرى الخاسرة في الانتخابات على تشكيل حكومة توافقية شبيهة بجميع الحكومات التي تشكلت في العراق بعد عام 2003، وهو ما يعني ضياع الفكرة البرلمانية في جوهرها وعدم ربط المسؤولية بصناديق الاقتراع والاستسلام لمنطق المحاصصة..
أما في لبنان..
فإن الحياة البرلمانية لا زالت محكومة بنص وثيقة اتفاق الطائف الذي صادق عليه مجلس النواب سنة 1989، والتي يتم توزيع المقاعد النيابية على أساسها بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين، ونسبياً بين طوائف كل من الفئتين (سنة وشيعة) ونسبياً بين المناطق، وقد كانت إرادة المشرع آنذاك تتطلع إلى الوقت الذي يتم فيه انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، على أساس أن يستحدث بعد ذلك مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية. وهو ما لم يتحقق إلى حدود الساعة، ليتم تكريس البعد الطائفي للحياة السياسية والبرلمانية اللبنانية، ومعها يتم إعدام جوهر الفكرة البرلمانية المتمثلة في ربط المسؤولية بالمحاسبة وضمان انبثاق السلطة التنفيذية عن الأغلبية البرلمانية دونما اعتبارات طائفية أو عرقية أو دينية..
أما في اليمن وسوريا وغيرها..
فقد باتت مسرحا لتدخلات خارجية سياسية وعسكرية وهو ما يضع إشكالا عريضا يتجاوز الفكرة البرلمانية ليطرح سؤال السيادة الوطنية في هذه البلدان..
وتبقى حالات أخرى تتأرجح بين إرادة التطلع للنظام البرلماني وإرادة السلطوية الناعمة في إطار نوع من الديموقراطية المهندسة التي تبقى محكومة بمجموعة من الاعتبارات السياسية العصية على التلاؤم مع مستلزمات النظام البرلماني كما تبلور في سياقاته الغربية، على غرار تجربة الأردن والكويت..
أما في المغرب..
الذي يؤرخ لعشر ولايات تشريعية كاملة منذ الاستقلال إلى اليوم، فقد أفرزت الانتخابات التشريعية الأخيرة التي شابتها الكثير من العيوب التنظيمية والقانونية برلمانا جديدا كشف عن هشاشة النخبة المتوجة يوم 8 أيلول (سبتمبر) 2021، والتي يتصدرها الأعيان من أصحاب الجاه والمال، والذين يفتقر معظمهم للخبرة السياسية اللازمة في العمل البرلماني مما جعل البرلمان مسرحا للكثير من الوقائع والقفشات التي أصبح يتندر بها المواطنون في مجالسهم، وهو ما سيساهم في تعميق الهوة بين المواطن والسياسة، ويعقد محنة الفكرة البرلمانية في هذا البلد..
وفي الختام:
يجدر التساؤل بعد هذا الاستعراض السريع لمظاهر محنة الفكرة البرلمانية في العالم العربي: هل المشكلة في تربة الاستبداد المتجذرة في العالم العربي والتي لا تستطيع استنبات الفكرة البرلمانية داخل صحراء ثقافية قاحلة من حيث تجذر قيمة الديموقراطية واحترام كرامة الإنسان وقيمة صوته الانتخابي؟ أم المشكلة في قيمة الديموقراطية كمنتوج حضاري غربي غير قابل للعبور بين الثقافات مما يستدعي إعادة النظر في تمثلنا لقيمة الديموقراطية وتبيئتها مع خصوصياتنا التاريخية والسياسية؟
هي إشكاليات جديدة وقديمة لا تنفصل كثيرا عن السؤال التاريخي الذي طرحه علماء النهضة في بداية القرن العشرين: لماذا تخلف العرب والمسلمون وتقدم غيرهم؟
علي سالم البيض.. فقد مناصبه السياسية بسبب زواجه ثانية
"الجندرية".. تحديات أمام تجديد الفكر الإسلامي
رأي في العلاقة بين إضراب الجوع وإضراب الوعي في تونس