منذ ما يقرب من ستين عاما أي في بدايات الستينيات من القرن الماضي قدر لي أن أطلع على نسخ قديمة من عدد من الصحف المصرية التي كانت تصدر في مصر، مثل "الأهرام" و"الأخبار" وغيرهما.. وكانت تلك الصحف تغطي أخبار المحاكمات التي تعرض لها الإخوان المسلمون في مصر عام 1954 والتي سميت بمحكمة الشعب بعد أحداث المنشية بالإسكندرية في أكتوبر 1954.. وكان يرأسها جمال سالم وعضوية أنور السادات وحسين الشافعي وهم كانوا أعضاء مجلس قيادة الثورة وقتها.
ولا أنسى سؤالا وجهه جمال سالم للشهيد يوسف طلعت رحمه الله: هل تم التفكير في قتل عبد الناصر؟ وكان الشهيد يوسف طلعت مسؤول الجهاز الخاص في الإخوان وقتها فأجابه الشهيد يوسف طلعت بأنه تم عرض الموضوع عليه ولكن قبل مناقشته أو رفعه للأستاذ المرشد قام بالاستخارة فلم يسترح لأخذ القرار ـ وبالتالي لم يرفع الأمر للأستاذ الهضيبي، والذي قد أكد أيضا خلال جلسات المحاكمة رفضه وعدم موافقته على مثل هذه الفكرة.
وأضاف الأستاذ يوسف طلعت: إن ما تم في أحداث المنشية لم يكن بعلم الإخوان أو تخطيطهم أو موافقتهم. فماذا كان رد جمال سالم؟ فوجه خطابه للحضور في جلسة المحكمة وقال ضاحكا مستهزئا: أنظروا إلى أكبر مسؤول في النظام الخاص لأكبر جماعة كانت تريد أن تحكم مصر يتخذ قراراته بالعودة للشعوذة وفتح المندل فضجت القاعة بالضحك كما ذكر المحرر الصحفي وقتها. وقد حكم عليه وعلى خمسة آخرين من إخوانه بالإعدام وتم تنفيذ الحكم فيهم.
رحم الله الأستاذ البنا عندما بدأ في وضع ملامح وهيكلة جماعة الإخوان المسلمين وقال: أركان بيعتنا عشرة أولها الفهم ثم تلا باقي الأركان من إخلاص وعمل وجهاد وتضحية.. وحتى الأخوة والثقة وهم عشرة أركان. وقد أكد في البدايات أن هذه الجماعة هي واحدة من الجماعات التي تعمل لنشر الإسلام بشموليته ورؤيته المتكاملة للحياة وبالتالي توعية الناس بهذا الدين الذي فيه النجاة في الدنيا والآخرة. وقد قام بتفصيل هذه الأركان في رسالة التعاليم وقد خص ركن الفهم بتفصيل فيما يطلق عليه الأصول العشرين، حيث قال: "إنما أريد بالفهم: أن توقن بأن فكرتنا إسلامية صميمة وأن تفهم الإسلام كما نفهمه، في حدود هذه الأصول العشرين الموجزة كل الإيجاز".
ولأهمية الفهم كما ذكرت وأنه العنصر الأساسي والأول للاشتراك والانضمام لهذه الجماعة قام الأستاذ البنا بتوضيح هذا الركن في عشرين أصلا تناولت عدة جوانب. وفي تقديري فإن عنصر الفهم هو العنصر الذي ميز جماعة الإخوان على أي جماعة أخرى لأن باقي الأركان من عمل وجهاد وإخلاص وحتى الأخوة والثقة كلها أركان تنفيذية تجدها في أي جماعة أخرى.
مرت الجماعة منذ تأسيسها عام 28 بعدة ابتلاءات في حياة الأستاذ البنا وبعد وفاته رحمه الله، وكان أولها انفصال عدد من المؤسسين وإنشاء جماعة شباب محمد وتضخم دور النظام الخاص وعمليتي قتل الخزندار والنقراشي..
والجيل الأول لهذه الجماعة بايع الأستاذ البنا على الالتزام بهذه الأركان وقد تقابلت مع العديد منهم وتعاملت معهم منذ بداية السبعينيات عندما قام السادات بنقلهم من سجن قنا في صعيد مصر إلى سجن طره في حلوان بعد وفاة عبد الناصر عام 70 وتم السماح لذويهم بزيارتهم، وكنا نزورهم مرة كل شهر وبدأ في الإفراج عنهم على مراحل حتى تم الإفراج عن آخر خمسة في النصف الثاني من عام 1974 وهم كانوا الأستاذ صلاح شادي والأستاذ على نويتو والأستاذ مهدي عاكف والمهندس محمد سليم والأستاذ محمد العدوي رحم الله من توفي منهم ومتع من يعيش منهم بالصحة والعافية.
وقد مرت الجماعة منذ تأسيسها عام 28 بعدة ابتلاءات في حياة الأستاذ البنا وبعد وفاته رحمه الله، وكان أولها انفصال عدد من المؤسسين وإنشاء جماعة شباب محمد وتضخم دور النظام الخاص وعمليتي قتل الخزندار والنقراشي.. وبعد قتل واستشهاد الأستاذ البنا بدأ الخلاف داخل الجماعة وحدثت انقسامات مختلفة حول من يقود الجماعة وأزمة النظام الخاص وقتها، ثم تلا ذلك ابتلاء أحداث 1954 وفتنة التأييد وهم داخل السجون وما تلاها من فتنة التكفير.. ثم حدثت عملية الإفراج والخروج من السجون والانتشار في العالم في السبعينيات من القرن الماضي وبداية ما أطلق عليه بالمرحلة الثانية للجماعة ودخول عدد كبير من الأجيال الشابة والانضمام للجماعة وانفتحت الجماعة عالميا على أكثر من سبعين دولة وكان الجميع يبايع المرشد على نفس أركان البيعة العشرة وأولها الفهم.
بلا شك حدثت عدة مشاكل في عدد من الأقطار وحدثت انشقاقات وخرج عدد من التنظيمات القطرية وحدثت انقسامات في عدد آخر من الأقطار مثلما حدث في مصر سواء في عهد الأستاذ البنا أو بعده.
وهذا شيء طبيعي أن يختلف الإخوة لأنهم بشر وبالتأكيد ليسوا معصومين، وبالتالي تختلف الاجتهادات وكما ذكرت حدث هذا في عهد وحياة الإمام المؤسس وفي عهد من تلاه ومن المنطقي والطبيعي أنه في حالة حدوث الاختلاف فإنه يجب العودة إلى أركان البيعة لأن جماعة الإخوان ليست جماعة المسلمين ولكنها جماعة من المسلمين، فمن يخرج منها لا يعتبر خارجا عن الإسلام.
وكان الذي يحدد ذلك هو مدى الالتزام بأركان البيعة وأهمها الفهم والأصل الخامس بالتحديد الذي ينص على أن رأي الإمام ونائبه فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوها عدة وفي المصالح المرسلة معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات، والمقصود بالإمام هنا هو إمام الجماعة أو المرشد. فما يراه فيما لا نص فيه معمول به وملزم للجميع.
وهذا ما رأيناه في الكثير من الأزمات التي مرت بالجماعة، وكان هناك خلاف بين أعضائها فالأصل بأن قرار المرشد أو نائبه أو من يحل محله ويقوم بأعماله هو القرار الملزم للجميع ولم يذكر في أركان البيعة أن هذا القرار يجب أن يكون بالإجماع أو من خلال الأغلبية أو حسب اللوائح أو غيره. ولكن البعض يفترض أنه مع انتشار الجماعة أصبحت كالمؤسسات الدولية غير الحكومية وبالتالي يحكمها كل المشاركين فيها من خلال انتخابات أو نظم داخلية، وهذا إسقاط فيه خلل أساسي في الفهم. لأن الجماعة كما ذكرت ليست مؤسسة تقليدية وأن أعضاءها ليسوا أعضاء لأنهم يريدون العضوية ويؤيدون أهدافها ولكن هناك التزام وبيعة يلتزم بها كل فرد يريد الانضمام وهذا ما نسميه البيعة للمرشد أو نائبه بأركانها العشرة وأولها الفهم. وهذا قد يأخذنا لحديث آخر عن قضية الشورى في مقال قادم إن شاء الله.
أعضاء الجماعة على مدى السنوات التسع الماضية ومنذ تغيير الأوضاع في مصر يعيشون مرحلة غير متزنة وغير واضحة المعالم وكأنهم ما زالوا لم يصدقوا ما حدث عام 2013 بعد.
أعود مرة أخرى إلى موقف الأستاذ يوسف طلعت في المحكمة ورده على جمال سالم وموقف الأستاذ الهضيبي تجاه قضية التكفير وموقف الأستاذ عمر تجاه انضمام الدكتور الترابي وموقف الأستاذ مصطفى مشهور تجاه قضية حزب الوسط وغيره على مدى تاريخ الجماعة. إنما هو تطبيق لركن الفهم وأصوله العشرين بداية من ـ الفهم الشامل للإسلام ومرورا برأي الإمام أو نائبه ونهاية بألا نكفر مسلما أقر بالشهادتين ـ وهذا هو الفهم الذي ينقصنا كثيرا هذه الأيام.
جانب آخر فيما نراه اليوم أن أعضاء الجماعة على مدى السنوات التسع الماضية ومنذ تغيير الأوضاع في مصر يعيشون مرحلة غير متزنة وغير واضحة المعالم وكأنهم ما زالوا لم يصدقوا ما حدث عام 2013 بعد. بالإضافة إلى خروج عدد كبير خارج مصر مقارنة بما حدث في أزمة 54 و65 وللأسف لم يجد من خرج من مصر أنشطة تستوعبه وتوظف طاقاته وبالتالي لم يجدوا ما يشغلهم فانشغلوا بأنفسهم. مع أن العالم بأطرافه المترامية ومع التغيرات المتسارعة فيه والتطور التكنولوجي الهائل الذي يحدث كل يوم في أمس الحاجة بل ويتطلع إلى من يقدم له نظام الحياة الذي يحقق له السعادة والطمأنينة.
كلمة أخيرة.. لقد اقتربت الجماعة من المائة عام منذ تأسيسها ـ والتي قد بدأنا الاحتفال بها بشكل غير تقليدي ـ وكما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه وأن كل رواته ثقات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". فهل اقترب موعد من يجدد للأمة أمر دينها، وبالتالي فإن أخشى ما أخشاه أن نقول وداعا جماعة الإخوان المسلمين؟ وختاما فإنني أدعو الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا على الحق وينير بصيرتنا حتى نلقاه وهو راض عنا والله المستعان وهو من وراء القصد وهو يهدي السبيل..
*مدير مركز الدراسات الحضارية
أخطاء السيسي الأربعة التي أطاحت بالاقتصاد المصري
فوائد البنوك وتبجح مشايخ السلطة في مصر!!