لا يمكن للباحث الأنثروبولوجي أو السوسيولوجي الجاد، أن يَقِف من ظاهر التحولات الدينية المصريَّة إلا موقف الدهشة، خصوصا إن كان غير مصري؛ فلم يُدرِك أبعاد "التديُّن المصري" ومُحدداته وخصائصه، من خلال التأمُّل في واقعه، أو كان مصريّا قد حُجِبَ بحجاب العادة والتقليد؛ فصار يَلوكُ الصور النمطية الشائهة، نقلا عن الإعلام والتعليم، بغير أن يَعي أنها زيفٌ مُحقَّق؛ ليست له أيَّة مقدرة تفسيرية ولا قيمة معرفيَّة.
ولا يُمكن لباحث جاد، إلا أن ينتبِهَ إلى أن موجة التفلُّت من الدين، التي فاضَت رغوة زبدها خلال العقد الأخير؛ إنما هي تكرارٌ لموجة مُماثلة، اجتاحت هذا القُطر قبل قرنٍ بالتمام (إبَّان تآكُل النظام العالمي للإسلام، الذي بلغ مآله بإلغاء "الخلافة")، وموجة أضعف بعض الشيء، مرَّت سريعا قبل ما يربو قليلً على نصف القرن (إبَّان محاولة دمج الإسلام في النظام العالمي للشرك، بتوظيف ما سُمي بـ"الصحوة الإسلامية").
ومن ثم؛ يتعيَّن على الدارِس عدم تبديد طاقاته في تفنيد مقولات هؤلاء "المخيِّبين"، أو تشقيق "الكلام الجديد"؛ لإقناعهم، وإنما النظر برويَّة "نظرا مُتجردا" في الأسباب النفسية والاجتماعيَّة، التي راكمها السياق المهزوم؛ فانصبَّت على تديُّننا الهَشَّ تُحطمه، كأن لم يَغنَ بالأمس! والعجيب المريب أن جمهرة الدارسين المحدَثين، الذين صدَّعوا رؤوسنا بالحديث عن الأسباب الاقتصاديَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة لما يُسمونه بـ"التطرُّف" ـ أو الغلو في الدين إفراطا ـ، لا يكاد أحدهم يُشير إلى شيء من الأسباب نفسها، إذا ما تعلَّق الأمر بالطرف الآخر من الغلو؛ أي: التفريط في الدين! وما ذلك ـ عندنا ـ لجهل منهم، وإنما هو رغبة في تفكيك الإسلام نفسه ـ بوصفه سببا ذاتيّا لهذا التفريط عندهم! ـ وإعادة بناء "دين جديد" مُختَلَق مُلفَّق، ينسجم مع أهواء القائم بترشيد الواقع!
وللأسف الشديد، فإن أكثر السذَّج "المدافعين عن الإسلام" بالسجال، لا يُدركون أنهم بهذا اللغو إنما يُسهِمونَ في "التفكيك"، حين يزيدون ـ بحُمق تناولهم! ـ أدلجة الدين واختزاله إلى محض مقولات جدليَّة، عقليَّة نظريَّة؛ يُراد الاستدلال عليها منطقيّا، وليس حاجة فطريَّة "طبيعيَّة" مجبولة؛ يَئنُّ وجود الإنسان كله طلبا لها.
بيد أن الناظر المتأمِّل؛ سيجد أن ذلك نتيجة طبيعيَّة ومآل متوقَّع، لكون جمهرة المتصدرين لـ"محاربة الإلحاد"، ليسوا من أبناء المؤسسات الدينية "التقليديَّة"، أو من أصحاب "الرؤى التراثية" ـ إن كان قد بقي من هؤلاء اليوم بقية! ـ بل هم مِنْ غُلاة "المهنيين" الحداثيين ـ خصوصا المهندسين والأطباء والقانونيين! ـ وهذا مبلغ علمهم، ومُنتهى فهمهم: إعادة صياغة الإسلام نفسه في "قوالب منطقيَّة"؛ إلحاديَّة بطبيعتها!
إن أكثر السذَّج "المدافعين عن الإسلام" بالسجال، لا يُدركون أنهم بهذا اللغو إنما يُسهِمونَ في "التفكيك"، حين يزيدون ـ بحُمق تناولهم! ـ أدلجة الدين واختزاله إلى محض مقولات جدليَّة، عقليَّة نظريَّة؛ يُراد الاستدلال عليها منطقيّا، وليس حاجة فطريَّة "طبيعيَّة" مجبولة؛ يَئنُّ وجود الإنسان كله طلبا لها.
ودع عنك فشل "المؤسسات التقليديَّة" في مواجهة الأزمة، أو في توليد "علم كلام" جديد؛ فإنه ليس فشلها الأول منذ داهمتنا الحداثة؛ إذ الأخطر كون جمهرة المهنيين المتصدرين لهذا الأمر من "المُتسلِّفة"، الذين تغذَّوا بمؤثرات وهابية، وتُنفِقُ عليهم السعودية مئات الملايين، لعقد محاضرات وتنظيم ندوات، ونشر كُتب؛ تُغذي هذه "الموجة الدفاعيَّة"! وليس ذلك فحسب لأن النمط نفسه قد شاع هناك وتفشَّى عندهم، كما تفشى في مصر ـ وأكثر! ـ وإنما لأن المشروع برُمَّته محاولة لتأخير إعلان فشلهم الكامل، منذ تصدَّروا للقيادة بعد إزاحة مصر؛ فشلهم داخليّا وخارجيّا، وهو فشلٌ بنيوي عميق، وثيق الصلة بسبب وجود النظام ذاته وطبيعة تكوينه، ووجهته واستراتيجية بقائه، وليس مُجرَّد فشل إجرائي/ تقني أو خطأ سياسي/ سلوكي، يُمكن تدارُكه!
فبعد أن كانت المملكة تُنفِقُ مليارات النفط لتعزيز نفوذها المذهبي، وتمكين رؤيتها الدينية؛ صارت اليوم تُنفِقُ المليارات مُحاوِلَة تأخير إعلان فشلها المريع، بـ"مقاومة الإلحاد" داخل حدودها، وفي الأقاليم كافة، التي تَغلغَلَ فيها نفوذها الديني، تغلغُلا حقَّقت به ارتباطا اجتماعيّا وسياسيّا واقتصاديّا عميقا. وبعبارة أخرى؛ فإن إنفاقها اليوم على "مقاومة الإلحاد"، يَستبطِنُ إثبات عدم تسبُّب رؤيتها الدينية ووجهتها ـ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ـ في هذا المروق العابِث المأزوم، أي إنه إنفاقٌ متأخِّر يُعزِّز الإنفاق المتقدِّم، وإمعانٌ في مواصلة السير على الطريق المنتكس نفسه!
وقد سبق منَّا التفصيل ـ في مقالنا السابق ـ في آثار انتقال النسق السلفي ـ الوهابي إلى الحواضر، ومن ثم؛ فلن ننشَغِل هاهُنا بتكرار ما أسلفناه، وإنما بمحاولة تتبُّع ممهدات هذا الانتقال وآلياته، ودوره في زيادة عُمق أزمة التديُّن، واستفحال مُعدَّلات العلمَنة أنَّى شاع. وسنستعمل "خصائص التديُّن المصري" ـ التي بسطناها في المقال المذكور ـ لنكتشف أولا ماذا حدث لهذا التديُّن، بمحاولة تبيُّن مدى مُفارقتنا اليوم لهذه الخصائص التاريخية.
فإذا كان "التديُّن المصري" ثمرة تعدُّد الروافد، وتلاقي شتى تيارات الفكر الإسلامي؛ فإن الانغلاق "القومي" على الإقليم الجغرافي للدولة القُطرية، والانكفاء ـ إفلاسا ـ على ما اعتُبِرَ "مصلحة وطنيَّة" ـ منذ نُكبنا بالناصرية! ـ قد أدَّى إلى اختناق تام لهذه التيارات، وقطيعة جليَّة في الفكر الإسلامي؛ إذ صار الملتقى حائط صدّ لا يُمكن المرور عبره، والتأثير فيه والتأثُّر به! وهو ما أثمر يُبوسَة ظاهرة في القلب المصري وتديُّنه؛ إذ توقَّفت التيارات التي تُغذيه باختلافها، وهو ما أشرنا إليه عند حديثنا على روافد هذا التديُّن.
بعد أن كانت المملكة تُنفِقُ مليارات النفط لتعزيز نفوذها المذهبي، وتمكين رؤيتها الدينية؛ صارت اليوم تُنفِقُ المليارات مُحاوِلَة تأخير إعلان فشلها المريع، بـ"مقاومة الإلحاد" داخل حدودها، وفي الأقاليم كافة، التي تَغلغَلَ فيها نفوذها الديني، تغلغُلا حقَّقت به ارتباطا اجتماعيّا وسياسيّا واقتصاديّا عميقا.
وقد عطَّل هذا الانقطاع بوتَقَة الصهر كُليّا؛ فصارَت برَّادا يتيبَّس كل ما احتُبِسَ فيه، إذ فقدت حرارة كفاءتها بتوقُّف مرور هذه التيارات، بل صارَت طبلا أجوَفَ، وماعونا لا باطن له ولا قلب ـ ولا حتى ميتافيزيقا ـ كما يليق بالنسق السلفي ـ الوهابي، الذي أريد له الهيمنة على هذا السياق المنغَلِق قهرا؛ فصار طاردا لكُلِّ ما عداه، ولافظا لتنوِّع الروافد باسم "إسلام معياري" مُتوهَّم؛ مهيئا الساحة ـ بضجيج طبله المعدني! ـ لانتكاس الخصيصة الثالثة، وهو ما تجلَّى في محاولة النظام السياسي المصري (منذ 1952م) فرض سرديَّة دينيَّة أحادية، كانت اختلافاتها بين مبارك والسادات وعبد الناصر مجرد اختلافات تكتيكية إجرائية في تغيير وجوه اللاعبين، الذين يسمح لهم النظام بالحركة تحت إشرافه.
فإذا كان عبد الناصر قد سعى جاهدا إلى تحويل مؤسسة الأزهر إلى "كنيسة حكومية"، تحتكر الغُفران على الطراز الكاثوليكي (على نمط التنظيم السياسي الأحادي، الذي جسَّده الاتحاد الاشتراكي!)، فإن السادات قد سعى مُخلصا لتحقيق تعدُّد المراكز التي يَحِلُّ فيها المقدَّس، على الطراز البروتستنتي، شرط أن تظل كلها في يد الدولة (وهو عين نمط "التعدُّدية الحزبية" الذي اعتمده!)؛ فصارت جماعة الإخوان الجديدة تعمل بدعم علني من الدولة، مثلها في ذلك مثل جماعة شكري مصطفى (المسمَّاة بالتكفير والهجرة!)، وهو ما هيَّأ الأرضية للاجتياح السلفي الميسور لاحقا، بوصفه بديلا فوقيّا، رأت فيه السلطة إذعانا غير مسبوق لرغباتها؛ فأزاحت في سبيله كل عقبة اختطتها!
لقد أدرَكت الجمهوريَّة ضَعف الأزهر بوصفه مؤسسة حكومية، وأن قوته لا تكون إلا ببأس شيخ فرد قد يُنازِع السلطان؛ فأفسحت المجال للاعبين أوطأ و"أكفأ" اجتماعيّا في تحقيق تغلغُلها، لاعبين تستطيع التحكم فيهم دوما بوصفهم لاعبين "غير رسميين"؛ يلهثون كالعبيد ـ استرضاء! ـ داخل مضمارها، وتحقيقا لمصالح نُخبتها، ظنّا أن هذا الهزل المخزي قد يُحقِّقُ لهم "الشرعية القانونية" ـ بالمعنى الحديث ـ ويُكسِبهم "الصفة الرسمية" يوما!
إذا كان "التديُّن المصري" ثمرة تعدُّد الروافد، وتلاقي شتى تيارات الفكر الإسلامي؛ فإن الانغلاق "القومي" على الإقليم الجغرافي للدولة القُطرية، والانكفاء ـ إفلاسا ـ على ما اعتُبِرَ "مصلحة وطنيَّة" ـ منذ نُكبنا بالناصرية! ـ قد أدَّى إلى اختناق تام لهذه التيارات، وقطيعة جليَّة في الفكر الإسلامي.
وكان المآل الأخير لهذا العبث، هو تسليم مفاتيح الحياة الدينية للسلفيين، عشية غزو البعث العراقي للكويت، إذ غَضِبَت السعودية على تنظيم الإخوان وحرَمَتهم "شرف" خدمة مُلكها، واستبدلتهم بالجيب المدْخَلي! لكنَّ عملاءها الجُدد ـ من الشيوخ السلفيين المصريين! ـ الذين بَنوا سُمعتهم الدعويَّة المبكرة على سبِّ أمثال الشيخين الغزالي والشعراوي، والطعن في عقيدتهما ـ مثلهم في ذلك مثل الصحفي إبراهيم عيسى آنذاك!! ـ لم يستطيعوا الانفراد بالساحة إلا حين توفَّى الله الشيخين الأخيرين تحديدا.
وكما كانت وفاة الشيخ عبد الحليم محمود (وحصار الثُلاثي: عبد الحميد كشك، وحافظ سلامة، وأحمد المحلاوي، منذ أواخر السبعينيات) إفساحا لما صار يُعرَفُ لاحقا بـ"الإسلام السياسي" ـ بأطيافه المختلفة! ـ وتمكينا لتسلُّطه الإعلامي، وكبحا لدور ممكن للأزهر والتصوف في الحياة العامة، بعد أن كانا قد دخلا طورا من التعافي الاجتماعي؛ كذلك كانت وفاة الشعراوي والغزالي ـ إبَّان النصف الثاني من التسعينيات ـ تمكينا إعلاميّا "نهائيّا" للنجوم السلفيين الجُدد، الذين كانوا قبلها يتحركون في دوائر ضيقة، وعلى استحياء!
وسنزيدك تفصيلا في مقالنا التالي ـ إن شاء الله ـ إذ نتتبَّع باقي ملامح خارطة التغييرات في الحياة الدينيَّة المصريَّة.
أخطاء السيسي الأربعة التي أطاحت بالاقتصاد المصري