رغم المقاومة الشرسة التي أبداها الأوكرانيون في مواجهة التوغل الروسي لبلادهم، يتوقع معظم الخبراء العسكريين الغربيين في نهاية المطاف أن تحقق القوات الروسية الانتصار والفوز، نظرا لاختلال ميزان القوى وفارق الإمكانيات الهائل بين الجانبين في العدة والعدد والعتاد، ورغم ما يصفه الخبراء العسكريون الأمريكيون "بالأداء الضعيف للغاية للجيش الروسي" والمقاومة الشرسة من الجانب الأوكراني. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا، والغرب عموما، يعملون على إطالة أمد الحرب في أوكرانيا إلى أبعد مدى ممكن، ذلك أن الغرب ينظر إلى الهجوم الروسي لأوكرانيا الذي بدأ في 24 شباط/ فبراير الماضي، والذي يسميه الغرب غزوا وتصفه موسكو بالعملية العسكرية الخاصة، من خلال منظورات مزدوجة تبلغ حد المقاربة الجيوسياسية واللعبة السياسية الكبرى من جهة، ومن خلال الحصول على مكاسب انتخابية شخصية أو حزبية ضيقة من جهة أخرى.
تصر
روسيا على أن ما يحدث في أوكرانيا هو "عملية عسكرية خاصة"، تهدف إلى نزع سلاح أوكرانيا و"تخليصها من النازية"، بعد أن أصبحت تشكل خطرا وجوديا على روسيا، كقلعة متقدمة للغرب تعمل على تفكيك وتقويض الاتحاد الروسي، بينما تصف أوكرانيا وحلفاؤها الغربيون ما يحدث بالغزو بهدف تقويض النظام العالمي وإضعاف الغرب وتقسيمه. وفي سياق اللعبة الجيوسياسية، تعرضت روسيا لأكبر حملة عقوبات فرضها الغرب منذ بدء الهجوم على أوكرانيا، وطالت العقوبات الرئيس فلاديمير
بوتين ودائرته المقربة من رجال الأعمال، منذ أن أعلن بوتين، في 21 شباط/ فبراير 2022، الاعتراف باستقلال لوغانسك ودونيتسك في إقليم دونباس الأوكراني، وتصاعدت وتيرة تلك العقوبات وحِدتها وشمولها مع بدء الهجوم.
يعمل الغرب على تقويض إمكانية تحقيق روسيا أهدافها بسهولة ويسعى إلى استنزاف القدرات الروسية، وقد تحدث الغرب منذ البداية عن خطة روسية للقيام بحرب خاطفة، تحقق أهداف موسكو في أوكرانيا في غضون أيام قليلة من خلال فرض سيطرة كاملة على البلاد، أو على الأقل إسقاط الحكومة وإقامة حكومة أخرى بديلة عنها في كييف، وهي منظورات تحليلية تفتقر إلى أبسط قواعد الحروب
ورغم الخسائر الكبيرة لأوكرانيا في الممتلكات والأرواح، والخسائر الروسية العسكرية، فإن الغرب لا يبدو مكترثا سوى بتحقيق مصالحه، حيث يقوم بدعم أوكرانيا عسكريا دون الانخراط في الحرب، ويعرقل أي جهود للتوصل لحل دبلوماسي.
يعمل الغرب على تقويض إمكانية تحقيق روسيا أهدافها بسهولة ويسعى إلى استنزاف القدرات الروسية، وقد تحدث الغرب منذ البداية عن خطة روسية للقيام بحرب خاطفة، تحقق أهداف موسكو في أوكرانيا في غضون أيام قليلة من خلال فرض سيطرة كاملة على البلاد، أو على الأقل إسقاط الحكومة وإقامة حكومة أخرى بديلة عنها في كييف، وهي منظورات تحليلية تفتقر إلى أبسط قواعد الحروب ولا تخرج عن كونها دعاية حرب، إذ لم تتمكن أمريكا وحلفاؤها من السيطرة على بلدان أصغر مساحة وأقل سكانا وأضعف حالا، من فيتنام إلى أفغانستان فالعراق. وفي الأزمة الحالية، يتحد الغرب وراء شعار الدفاع عن أوكرانيا، ويقدم الدعم الاقتصادي والعسكري لمساعدة البلاد على المقاومة.
خلال العقود الثلاثة الماضية من الهيمنة الأمريكية، دخلت الولايات المتحدة حربين كبيرتين في العراق وأفغانستان، تحت ذريعة حرب الإرهاب، وتكبدت خسائر فادحة، ورغم تمكنها من الإطاحة بالنظام في البلدين بسهولة نسبيا، لكنها لم تتمكن من تحقيق أهدافها بنصر نهائي. وبصرف النظر عن الذرائع الواهية لغزو العراق حول إثبات وجود أسلحة دمار شامل لدى نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، أو تورط حركة طالبان بهجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، فقد أجبرت على الانسحاب من كلا البلدين بصورة مذلة. وقد برهن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان على تآكل الهيمنة الأمريكية. ورغم ذلك، فقد تراجعت ذريعة حرب الإرهاب لحروب الهيمنة الأمريكية وتبدلت أولوياتها الاستراتيجية بعودة منظورات المنافسة بين الدول، بأولوية الحد من صعود الصين وإضعاف روسيا، وعملت على إعادة تفعيل وتوسيع مظلة الناتو، ورفع حالة تطويق الصين وروسيا وتعزيز البنية العسكرية في الجوار الصيني الروسي.
أهداف الغرب واضحة من إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، وذلك بتثبيت قواعد الهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والحيلولة دون بروز أي قوة منافسة للغرب، وذلك برفع كلفة الحرب الأوكرانية، بل وإلحاق هزيمة بروسيا من خلال حرب وكالة، وإغراق روسيا أكثر وتوريطها واستنزاف مواردها
إن أهداف الغرب واضحة من إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، وذلك بتثبيت قواعد الهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والحيلولة دون بروز أي قوة منافسة للغرب، وذلك برفع كلفة الحرب الأوكرانية، بل وإلحاق هزيمة بروسيا من خلال حرب وكالة، وإغراق روسيا أكثر وتوريطها واستنزاف مواردها، وإضعاف قدرات الدولة الروسية واقتصادها، إلى جانب استنزاف شعبية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصيا، والدفع باتجاه خلق تمرد داخلي ضده، وإظهار الحرب بأنها حرب بوتين وطموحاته الشخصية، وإفقاد الجيش الروسي هيبته وسمعته، وإظهار ضعفه وهشاشته أمام قوة إقليمية صغيرة.
لا تبدو لعبة إطالة أمد الحرب أحادية الجانب وتصب في مصلحة الغرب، فبإمكان روسيا وبوتين شخصيا الاستفادة منها، فأوكرانيا لن تستطيع مستقبلا استرداد أراضيها التي أخذتها روسيا حتى الآن ومنذ عام 2014. وكما كشفت حروب روسيا الطويلة الأخرى في الجوار، فإنها قادرة على استدامة عمليتها العسكرية لمدة طويلة، وتوفير كل الإمكانات اللازمة لها. وبهذا، سوف تتمكن روسيا من تحقيق أهدافها رغم التكلفة العالية والمدة الطويلة، والأكثر خطورة أن الغرب وخصوصا أوروبا سوف تتضرر من طول أمد الحرب، من خلال تدفق اللاجئين، وزيادة التضخم وشتى أنواع الضغوط الاقتصادية والسياسية، التي قد تخلق مشكلات وانقسامات سياسية حول سبل التعامل مع الأزمة، وقد تؤدي إلى مشاكل داخل دول الاتحاد الأوروبي وتهدد وحدته.
فمع طول أمد الحرب سوف تبرز الخلافات والتجاذبات وتبدأ كل دولة تبحث عن مصالحها، وهكذا تكون روسيا قد حققت نصرا استراتيجيا، ويخرج بوتين بطلا منتصرا على الصعيد الشخصي بازدياد شعبيته باعتبار الحرب ضد روسيا حرب وجودية. إذ تصر روسيا على تصوير الحرب على أنها حرب ضد الغرب عموما، وهيمنته وثقافته وقيمه، تدار بالوكالة على الأرض الأوكرانية، وهو ما يعزز الشعور القومي الروسي.
مع طول أمد الحرب، سوف تبرز الخلافات والتجاذبات وتبدأ كل دولة تبحث عن مصالحها، وهكذا تكون روسيا قد حققت نصراً استراتيجيا، ويخرج بوتين بطلا منتصرا على الصعيد الشخصي بازدياد شعبيته باعتبار الحرب ضد روسيا حرب وجودية
لا شك أن إطالة أمد الحرب تنطوي على احتمالات مفتوحة، لكن الخاسر الأكبر هي أوكرانيا، بينما تنفتح احتمالات الربح والخسارة على مصراعيها بالنسبة لأوروبا وروسيا، وتبدو أمريكا أكثر حرصا على ديمومة الحرب، إذ يبدو الرئيس الأمريكي جو
بايدن سعيدا في إدارته للأزمة الأوكرانية، فقد خلصته وإدارته من أعباء الفشل في إدارة الكثير من الملفات الداخلية، مثل التضخم وارتفاع الأسعار وتدني شعبيته منذ الانسحاب الفوضوي من أفغانستان في آب/ أغسطس 2021.
فحسب مجلة "بولتيكو" الأمريكية، فإن "رئاسة بايدن لم تكن أبدا محمومة كما هي الآن، لكنها لم تكن أكثر ارتياحا" منذ ما قبل بدء الهجوم الروسي، وهو الأداء الذي اتسم بالثقة والوضوح والحسم والقدرة على المناورة، وهو ما أدى إلى ارتفاع ولو طفيف حتى الآن في شعبية الرئيس، التي كانت قد وصلت لمستويات قياسية في التدني منذ صيف العام الماضي. وكان بايدن قد واجه انتقادات عنيفة من أعضاء حزبه الديمقراطي في أعقاب الخسائر التي مني بها مرشحو الحزب لصالح الجمهوريين في انتخابات حكام بعض الولايات، في تشرين الثاني/ نوفمبر، وهي أول انتخابات كبرى منذ وصوله للبيت الأبيض. ويخشى الديمقراطيون من فقدان أغلبيتهم الضئيلة أصلا في الكونغرس لصالح الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي، في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم.
إلى جانب الحسابات الجيوسياسية، فإن الرئيس الأمريكي بايدن يستثمر شخصيا في الحرب الأوكرانية، فمنتقدو بايدن كانوا قد اتهموه باستغلال الأزمة الأوكرانية، قبل أن تندلع الحرب فعلا، للهروب من مشاكله الداخلية، وهو الاتهام الذي وجهه زيلينسكي نفسه لبعض القادة الغربيين -دون أن يسمي أحدا-، إذ قال سابقا؛ إن البعض يثير الفزع ويتحدث عن أوكرانيا فقط للتغطية على "مشاكلهم السياسية الداخلية". وقد أشارت تقارير عديدة إلى مقامرة بايدن المرعبة في أوكرانيا، التي تتلخص بعدم وجود خطوات جدية من جانب إدارة بايدن للتفاوض مع روسيا، بشأن حل دبلوماسي يوقف الهجوم على أوكرانيا، ولا نية مطلقا للدخول في حرب مباشرة ضد روسيا، والهدف هزيمة بوتين في نهاية المطاف.
تبدو الولايات المتحدة الأكثر حماسة لإطالة أمد الحرب، وخصوصاً إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن التي تعاني من مشكلات داخلية عميقة، بينما أوروبا أكثر قلقا من إطالة أمد الحرب، فقد تؤدي إلى خلافات وانقسامات تهدد الوحدة الأوروبية، وتخلق مشكلات سياسية وضغوطات اقتصادية
وإذا كانت تلك هي استراتيجية الولايات المتحدة بالفعل في التعامل مع أكبر حرب تشهدها أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فهذا يعني أن الرئيس بايدن ربما يكون المستفيد الوحيد من إطالة أمد الهجوم الروسي على أوكرانيا، بحسب ما يراه كثير من المحللين، خصوصا أن ذلك قد يعني ارتفاع شعبيته أكثر كلما اقتربت انتخابات التجديد النصفي.
خلاصة القول؛ إن إطالة أمد الحرب في أوكرانيا تنطوي على مقاربات جيوسياسية وأخرى شخصية، لكن لا يوجد يقين لدى أطراف الصراع حول الآثار والنتائج، وحسابات الكلف والمنافع. وتبدو الولايات المتحدة الأكثر حماسة لإطالة أمد الحرب، وخصوصا إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن التي تعاني من مشكلات داخلية عميقة، بينما أوروبا أكثر قلقا من إطالة أمد الحرب، فقد تؤدي إلى خلافات وانقسامات تهدد الوحدة الأوروبية، وتخلق مشكلات سياسية وضغوطات اقتصادية تتكشف في كل دول الاتحاد، وتنعكس على توجهات القوى السياسية.
وقد برهن التاريخ القريب قدرة روسيا على تحمل أعباء حروب الجوار، بل والاستفادة منها واستثمارها على المدى المتوسط والبعيد، وهو ما يعزز مكانتها وقوتها الدولية.
twitter.com/hasanabuhanya