منذ 1991، وبروز فكرة توسيع الناتو كأداة سياسية واقتصادية وعسكرية للهيمنة العالمية، برزت اتجاهات عدة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، أهمها التيار الأطلسي، الذي اعتبر الفرصة ملائمة لأن يكون الحلف قوة توحيد وجمع لمكوناته، تحت قيادة أمريكية، تشكل قوة التدخل الأكبر في مختلف مناطق التوتر من جهة، والجبهة المتضامنة في مواجهة أي محاولات تؤثر على الخارطة الجيو سياسية التي تبعت انهيار الاتحاد السوفييتي وسمحت بقيام نظام القطب الواحد. في حين كانت هناك مقاومات أوروبية لهكذا هيمنة/ تبعية للقارة الأوروبية للولايات المتحدة الأمريكية، بشكل خاص داخل فرنسا وألمانيا، الرافضتين للذوبان في محيط يهمّش بالضرورة كلا البلدين، اقتصاديا وعسكريا وسياسيا.
هل استطاعت الحرب الأوكرانية ضرب التوجهات الاستقلالية لأوروبا؟ وكيف ستنعكس نتائج الحرب على كلا التوجهين، اللذان يقفان معا في جبهة واحدة اليوم؟
حلف الناتو بعد سقوط جدار برلين
بعد وفاة معسكر وارسو، كنتيجة طبيعية للتحولات السلمية الكبيرة التي حدثت في بلدان شرقي أوروبا، لم يبق في العالم سوى حلف عسكري واحد هو حلف شمال الأطلسي (الناتو).
من الضروري العودة إلى أعمال مراكز البحث الاستراتيجية الأمريكية وأجهزة المخابرات والعاملين على إنتاج "مفهوم الأمن القومي" في العشر الأواخر من سنين القرن العشرين. وما خلص إليه الجيل الأخير من دبلوماسيي "الاتحاد السوفييتي"، لفهم النقاشات / الخلافات الأمريكية الداخلية في عملية بناء التحالفات الضرورية لعولمة السيادة الأمريكية من جهة، أو اعتبار تعزيز الأمن القومي "صناعة حصرية بالأقوى".
فقد تحققت مقولة ألكسندر أرباتوف، المستشار الدبلوماسي للرئيس ميخائيل غورباتشوف: "سنقوم بتقديم أسوأ الخدمات لكم، ذلك أننا سوف نحرمكم من "العدو". بمعنى آخر، وبالعافية، ستذهب مع الاتحاد السوفييتي، حقبة الحرب الباردة، ولن يعاد بناء العالم على نفس قواعد اللعبة التي سادت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وكما لخص المفكر الأمريكي إيمانويل وايرلستين: "عام 1989 "أنهى" الحرب الباردة والمعارضة ثنائية القطب منذ عام 1945، هذا صحيح إلى حد ما. لكن هذا هو بالضبط سبب كون هذا التاريخ مأساويا للولايات المتحدة. كان القصد من الحرب الباردة أن تستمر إلى الأبد. تذكّر، ظلت باردة حتى النهاية. أي أنه لم تكن هناك مواجهة عسكرية جادة بين الشريكين المتواطئين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. تكافح الولايات المتحدة منذ ذلك الحين لخلق "عدو" بديل، دون نجا ".
في عالم الصواريخ العابرة للقارات، لم تكن المؤسسة العسكرية الأمريكية تتوقف عند عدد الكيلومترات التي تبعد مدن البلطيق عن سان بطرسبورغ، بقدر ما ترى في دول الجوار الروسي الصغيرة، عبئا اقتصاديا وعسكريا، لذا تركز أنظارها إلى بولندا وأوكرانيا وبريطانيا، باعتبارها نقاط ارتكاز محتملة ما وراء الأطلسي، يمكن الإعتماد عليها مستقبلا.
هكذا، جرت عملية بناء استراتيجيات الصراع، بالمعنى العسكري والاقتصادي والثقافي عند الإدارات الأمريكية المتتابعة، في "البيت الداخلي الأمريكي" أولا، واعتمدت استراتيجيات مراكز البحث والدولة الأمريكية العميقة على أربعة نقاط ارتكاز، تغيرت في الأهمية والترتيب، ولكنها بقيت في صدارة السياسة الخارجية الأمريكية:
1 ـ إعادة رسم الخارطة الأوربية تحت جناح حلف الناتو.
2 ـ بناء شرق أوسط مختلف وحليف.
3 ـ احتواء الوضع الأوكراني في سقف حلف شمال الأطلسي.
4 ـ وضع استراتيجيات تعامل مع التنين الصيني الصاعد.
لم يكن التوسع شرقا لحلف الناتو موضوع إجماع على طول الخط، ولن يغيب عن الذهن التصريحات الأمريكية حول أوروبا القديمة وأوروبا الجديدة، بل الجمل التحقيرية التي استعملها عدد من مسؤولي البنتاغون. قبيل الحرب على العراق: تحدث جامعي زائر في ندوة حول حلف شمال الأطلسي عن أهمية دول البلطيق في دخول الحلف، كان تعليق الجنرال الأمريكي مهينا: "تقصد إمارات البلطيق غير المتحدة، دون غاز أو نفط أو دبي"(كذا)..
ففي عالم الصواريخ العابرة للقارات، لم تكن المؤسسة العسكرية الأمريكية تتوقف عند عدد الكيلومترات التي تبعد مدن البلطيق عن سان بطرسبورغ، بقدر ما ترى في دول الجوار الروسي الصغيرة، عبئا اقتصاديا وعسكريا، لذا تركز أنظارها إلى بولندا وأوكرانيا وبريطانيا، باعتبارها نقاط ارتكاز محتملة ما وراء الأطلسي، يمكن الإعتماد عليها مستقبلا. وقد تعززت هذه الفكرة إبان في غزو العراق، حين حرم الموقف الفرنسي الولايات المتحدة من غطاء أممي لاحتلال العراق. الأمر الذي عزز موقف تيار المحافظين الجدد القائم على الجملة المأثورة لدونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأسبق للرئيس جورج دبليو بوش، ليس التحالف هو الذي يحدد المهمة ولكن المهمة التي تحدد التحالف.
هكذا، لم تعتمد زعيمة حلف الناتو، الولايات المتحدة الأمريكية عليه، في مختلف النزاعات المسلحة التي وقعت أو شاركت فيها بعد سقوط جدار برلين، بقدر ما لجأت الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى مبدأ تحالف ad hoc، أي التحالف "الأنسب" في كل حالة وقضية محددة. رأينا ذلك بوضوح في الحروب العراقية، حيث شكلت في كل مرة تحالفا مختلفا تماما في مكوناته، وفي حين شاركت فرنسا في تحرير الكويت، وقفت ضد إعطاء غطاء أممي للاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق.
الناتو والاتحاد الأوروبي
انطلاقا من حلف الأطلسي الموقع في عام 1949، أصبحت منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في السبعينيات من عمرها. مثل الأمم المتحدة (UN)، ومثل بناء أوروبا، يعود تاريخ إنشائها إلى إعادة تنظيم العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية. الأمم المتحدة تقوم بالدفاع الجماعي عن النفس لأعضائها المنصوص عليه في المادة 51 من الميثاق، البناء الأوروبي لأنه في البداية يهتم قبل كل شيء بأمن أوروبا الغربية، في وجه المخاطر المحتملة من اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية والمعسكر الاشتراكي. ومع ذلك، يبتعد الناتو عن مُثُل الأمم المتحدة والأمن الجماعي ذي البعد العالمي، والذي استند إلى اتفاق وثيق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، كان مؤتمر يالطا (1945) هو التوليفة.
أدى الفشل السريع لهذا المشروع بعد انتهاء الحرب، والستار الحديدي بين أوروبا الغربية والشرقية، وولادة الكتلتين المتعارضتين إلى إنشاء تحالف عسكري دفاعي لتوحيد استراتيجيات الولايات المتحدة، والدول الأوروبية المهددة بالتوسع السوفييتي. سمح الناتو للبناء الأوروبي بالتطور دون أن يعيقه القلق على الأمن العسكري للدول المؤسسة، لأن الولايات المتحدة مدعوة لتوفيره. كما كان الحال بالنسبة لحلف وارسو الذي تكفلت موسكو بهيكلته.
كانت الدول الأوروبية الخارجة من حرب كونية، بالفعل الأكثر اهتمامًا بهذه الحماية والمطالبة بها. ومع ذلك، فإن المشاركة الأولية في حلف الأطلسي وفي الناتو، تغطي جزئيًا فقط مشاركة البناء الأوروبي الوليدة. لم تكن جمهورية ألمانيا الاتحادية (FRG) في البداية جزءًا منها، في حين أنه بالإضافة إلى الولايات المتحدة وكندا، هناك دول خارج المعاهدة الأوروبية الأولية، وهي الجماعة الأوروبية للفحم والصلب (ECSC ، 1951)، مثل الدنمارك وأيسلندا والنرويج والبرتغال والمملكة المتحدة. ومنذ البدء، أوضح الأمين العام الأول لحلف الناتو هذا التكوين: الغرض من الاتفاقية هو إبقاء الولايات المتحدة في أوروبا، وإبقاء الاتحاد السوفييتي بعيدًا وترك جمهورية ألمانيا الاتحادية تحت السيطرة .
بقاء الناتو، ينبع من عدم قدرة الأوروبيين على تنظيم نظامهم الأمني بعد الحرب الباردة: الفشل المزدوج لـ "البيت المشترك" الذي دعا إليه ميخائيل غورباتشوف والاتحاد الأوروبي الذي اقترحه فرانسوا ميتران، وضعف مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا (مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا الذي أصبح منظمة الأمن والتعاون في أوروبا عام 1994)، وأوجه القصور وغياب استراتيجية عمل مشتركة في الدول الأوروبية، في مواجهة تفكك يوغوسلافيا، الأمر الذي ترك المجال مفتوحًا أمام الناتو.
قبل نقطة التحول الحاسمة للمنظمة المتمثلة في اختفاء جدار برلين في عام 1989 ثم اختفاء المعسكر الاشتراكي واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية في عام 1991، كان الناتو قد شهد بعض الامتدادات: اليونان وتركيا في عام 1952، ألمانيا الاتحادية في عام 1955 وإسبانيا في عام 1982 إلى الأعضاء المؤسسين الإثني عشر. ومع ذلك، لا يمكن مقارنة ما حدث، بالتوسع الهائل الذي، في غضون سنوات قليلة في مطلع القرن الحادي والعشرين، تضاعف عدد الأعضاء تقريبًا، اليوم ثلاثين، في انتظار انضمام عدد قليل في المستقبل، ربما دول البلقان التي بقيت حتى الآن منفصلة ـ صربيا، البوسنة، كوسوفو.
هكذا، عاش الناتو، كما يختصر الباحث الفرنسي سيرج سور حياتين على الأقل، الأولى في إطار سياسات الكتلة الأطلسية حتى اختفاء الاتحاد السوفييتي، والثانية خلال العقود الثلاثة التي أعقبت ذلك حتى يومنا هذا. خلال الأولى، كان الوضع واضحًا ومقررًا. قبل كل شيء مناهض للسوفييت، كان الناتو درعًا في أوروبا ضد النوايا العدوانية المفترضة للاتحاد السوفييتي، وكان يحظى بقبول سياسي هام. باعتباره منظمة وقائية بطبيعتها، حيث لم يكن على المنظمة أن تتدخل عسكريا، ولا تتعدى وظيفتها الردع.
الحياة الثانية، الثلاثون سنة التي تلت ذلك، وهي أكثر تعقيدًا وغموضًا. أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون، في 7 نوفمبر 2019 في الإيكونوميست، أن الناتو في حالة "موت دماغي"، وهي صيغة تم تجاهلها بدلاً من الجدل بشأنها. لقد قوبل التصريح من المنظمة وأعضائها بالصمت والجمود، خاصة وأنه جاء في حقبة الرئيس رونالد ترامب، الذي لم يكن قد وضع "الناتو" في برنامج أولوياته، لكن من الواضح أن الناتو لم يحدد دوره في الفوضى الدولية الحالية. إذا كان درعًا فعالًا لمدة أربعين عامًا، ألم يصبح مصراعًا استراتيجيًا غير فعال في مواجهة التهديدات الأمنية الجديدة مثل الإرهاب الدولي والصراعات المجتمعية والهجرات الجماعية والأمن السيبراني على وجه الخصوص؟ فيما يتعلق بهذه النقطة الأخيرة، فإن دليل تالين، الذي وضعه مجموعة خبراء بتكليف من الناتو في عام 2013، لا يقدم لنا سوى مساهمة جد محدودة.
تبدو المفاهيم الإستراتيجية التي تحدد أولويات وأهداف الناتو دائمًا واقعة تحت وطأة الأحداث، بينما ممارساته، التفاعلية، لا تستجيب لأي غرض منظم. التوسعات الهائلة التي عرفتها تجاه أوروبا الوسطى والشرقية، نحو البلقان، واندماج معظم الدول الاشتراكية السابقة، بما في ذلك الجمهوريات السوفييتية الانفصالية، لم تضعف تماسكها وتحجب أهدافه دون زيادة قدراته.. هذه، على الأقل، هي الانتقادات التي يكررها عدد هام من محللي تقييم السياسات وبناء الاستراتيجيات.
مع ذلك، يجب ملاحظة أن بقاء الناتو، ينبع من عدم قدرة الأوروبيين على تنظيم نظامهم الأمني بعد الحرب الباردة: الفشل المزدوج لـ "البيت المشترك" الذي دعا إليه ميخائيل غورباتشوف والاتحاد الأوروبي الذي اقترحه فرانسوا ميتران، وضعف مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا (مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا الذي أصبح منظمة الأمن والتعاون في أوروبا عام 1994)، وأوجه القصور وغياب استراتيجية عمل مشتركة في الدول الأوروبية، في مواجهة تفكك يوغوسلافيا، الأمر الذي ترك المجال مفتوحًا أمام الناتو. كذلك التبعية للسياسات الأمريكية في "الحرب على الإرهاب"، بعد غياب المقاومات العقلانية التي بلغت قمتها في 14 فبراير / شباط، 2003 مع خطاب دومينيك دوفيلبان التاريخي في الأمم المتحدة ضد احتلال العراق ، ولم تلبث في التراجع منذ ذاك الحين، من هنا نشاطر الباحث الفرنسي سيرج سور، أهمية تجميع مختلف الأسئلة اليوم حول ثلاثة ملفات: التمييز بين الحلف الأطلسي وحلف شمال الأطلسي؛ التردد بين المفاهيم والممارسات؛ العلاقات بين الناتو والاتحاد الأوروبي.
*عضو فريق البحوث في المعهد الدولي للسلام والعدالة وحقوق الإنسان، وباحث في المعهد الاسكندنافي لحقوق الإنسان.
هل تساير مقاصد الشريعة دعوات إلغاء عقوبة الإعدام؟ نقاش هادئ
مقاصد مفهومي الإسلام السياسي والإسلام الديمقراطي (1 من 3)
نقاش علمي هادئ حول مراجعة أو تعليق عقوبة الإعدام (2 من 2)