مع توافر النشر على مواقع التواصل الاجتماعي المفتوحة كمنصات متاحة للجميع، تنامت ظاهرة القول في دين الله بغير علم، والتي أفضت إلى ظهور طبقة من المتعالمين، المتشبعين بما لم يُعطوا، والخائضين في المسائل الدينية الدقيقة بجرأة بالغة.
وما يلفت الانتباه أن غالب العلماء والدعاة وطلبة العلم اختاروا التغافل والسكوت عن ذلك، وهو ما زاد، حسب مراقبين من توسع مساحات انتشار تلك الظاهرة بكل تداعياتها ونتائجها المؤسفة، ما نتج عنه التطاول على العلماء، وعدم احترام المؤسسات الدينية الرسمية والشعبية على حد سواء.
ومن الواضح أن خيار السكوت عن تلك الظاهرة، وعدم الاشتباك الفكري والديني معها من قبل المؤسسات الدينية، والعلماء والدعاة لم يعد، وفق باحثين خيارا ناجعا ولا مقبولا في ظل تنامي تلك الظاهرة، ما يضع عموم الجهات والمؤسسات والشخصيات المعنية بالشأن الديني أمام تحديات حقيقية، تتطلب وضع تصورات وبرامج عملية للتصدي لتلك الظاهرة، والاشتباك المدروس معها.
ومع أن العلماء وطلبة العلم عادة ما يحذرون في دروسهم ومحاضراتهم ومواعظهم من القول في الدين بغير علم، ويبينون خطورة ذلك على دين المسلم، وتعرضه للإثم جراء ذلك، إلا أنهم في غالب الأحوال ينأون بأنفسهم عن الاشتباك العلمي والفكري مع تلك الأقوال المتداولة، بإظهار وجوه مخالفتها للمقررات الدينية الثابتة، وبيان ضعفها وتهافتها.
في تحليل تلك الظاهرة وبيان مدى خطورتها وطرق مواجهتها، رأى الأكاديمي والباحث الشرعي المغربي، الدكتور محمد رفيع أن "ظاهرة القول في الدين بغير علم في مجتمعاتنا العربية المعاصرة على الأقل نوعان، أحدهما يصدر من صاحبه عن جهل وغفلة، وهذا النوع ينفع معه التنبيه والتحذير من خطورة فعله".
محمد رفيع.. كاتب وأكاديمي مغربي
وأضاف: "أما ثاني النوعين فيصدر من أهله عن جهل حاصل مع عناد وتآمر مقصود، وهذا النوع الأخير ينفع في علاجه القول البليغ الواضح في فضح صنيعه والكشف عن مغالطاته على نحو متزن غير منفعل، إذ المقصود إقناع كل من يسمع أو يقرأ أو يتابع المتجرئين على القول في الدين بغير علم".
وقال رفيع لـ"عربي21": "إن مما يسعف في ذلك عمليا: تجنيد أهل العلم لتتبع هذه الظاهرة ونقدها عبر تغريدات وتدوينات وفيديوهات قصيرة، وإعداد برامج تلفزيونية تبين كل سقطة من سقطات القوم، وتفصل القول بشأنها".
ووصف جهود العلماء وطلبة العلم، والدعاة المبذولة في هذا الإطار بأن "معظم مسلك القوم في مقاومة الظاهرة هو الخطابة المشحونة بالعاطفة، ونظرية المؤامرة، وذلك راجع لما انجروا إليه من حالة الاستفزاز وردود الأفعال غير المحسوبة، وغياب استراتيجية ذكية واضحة في مقاومة الظاهرة".
من جهته قال الباحث والداعية اليمني، عبد الله النهيدي: "في تقديري أن تلك الظاهرة ناتجة إما عن الجهل والمحاكاة، تماما كما يقول المثل الدارج (مع الخيل يا شقرا) أو من قبيل المماحكات، أو إشغال للفراغ وتزجية للوقت من قبل من ليس لديه ما يشغله، وقد يكون بعضها نوعا من التذاكي".
وأردف: "قد لا يكون الحل بالتأصيل للظاهر بقدر ما يكون بوضع مشاريع عملية مضادة، لأن هؤلاء يدركون مدى إفلاسهم، فضلا عمن يتلقى عنهم، فهو يدرك أنهم ليسوا أصحاب تخصص، ولا خبرة، وبالتالي فالسواد الأعظم من المسلمين لا يلجأون إليهم في فتاويهم وحاجاتهم الدينية، بل الكل يدرك من يسأل، وإلى من يرجع في مسائل الحلال والحرام".
عبد الله النهيدي.. باحث وداعية يمني
ورأى "أن الحل يكون بظهور العلماء والدعاة، وخروجهم للناس بمشاريع توعوية نافعة، ومشاركة الناس في أفراحهم وأتراحهم، ونزول بعضهم من بروجهم العاجية القابعين بها، فالناس يريدون العالم الذي يعيش همومهم، ويشاركهم في أحزانهم بالتعزية والمواساة، حتى يكون العالم مقبولا عند الناس، ومن ثم يأخذون عنه، ويتلقون كلامه بالاحترام والتقدير".
ولفت النهيدي إلى أن "من الأهمية بمكان تخصيص العلماء والدعاة أوقاتا للرد على الناس، ومناقشة ما يثيرونه ويتداولونه، ويبين لهم إن كان موافقا للشريعة أم مخالفا لها، بأسلوب سهل ميسر، فهم بهذا يكسبون القلوب، ويفتحون العقول".
وعن الدخول في حوارات دينية، وسجالات جدلية مع من يتحدثون في الدين بغير علم، رأى النهيدي أنها "لن تفضي إلى نتيجة، لأن من تحاوره يفتقد لأدبيات وأبجديات وأصول العلوم الشرعية، لذلك كان السلف يعرضون عنهم، ويتجهون إلى مجال التأثير الحقيقي في عوام الناس".
وتأكيدا لرؤيته تلك نقل عن التابعي مطرف بن عبد الله قوله: "من جلس للناس جلس الناس له"، وذاكرا أن "الإمام أحمد كان في مناظراته لا يرد إلا على من يحتج بآية أو حديث، وكان يقول: آتوني بآية من كتاب الله، أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرد عليكم".
بدوره شدد الأكاديمي الشرعي الأردني، المتخصص في العقيدة الإسلامية، المقيم في أمريكا الدكتور أحمد الحنيطي، على "ضرورة قيام العلماء وطلبة العلم بواجب البيان، وعدم السكوت عن كل مظاهر القول في دين الله بغير علم، لأن السكوت عن ذلك يفضي إلى مفاسد كثيرة، وتجاوزات عديدة، تشوه صورة الدين بنقائه وصفائه".
وأضاف: "إن سكوت العلماء عن ذلك قد يكون من بعض وجوهه مشابها لسكوت فئة من بني إسرائيل عن الذين اعتدوا في السبت، إذ لم يكونوا من المدافعين عن الدين في ذلك، وهذا نقص في دينهم بسبب سكوتهم عن مثل هؤلاء، كما قال عليه الصلاة والسلام "الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم"".
أحمد الحنيطي.. أكاديمي أردني
وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول: "ومن المؤكد أن سكوت العلماء عمن يتكلم في دين الله بغير علم من المتفيقهين، والمتطفلين على أسوار الدين والعلم الشرعي، ترك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي من درجاته الإنكار باللسان، وهذا واجب العلماء والدعاة وطلبة العلم، بعدم السكوت عن ذلك، وبيان فساده وتهافته وتنبيه عامة المسلمين عليه".
وعن منهجية وطرق مواجهة ظاهرة القول في دين الله بغير علم بكل تجلياتها، أوضح الحنيطي أن "ذلك لا يكون عبر ردات الفعل الآنية، وإنما يكون بالطرق العلمية الصحيحة، ببيان أهمية التعلم وفق منهجيات العلم الشرعي المقررة، ومناقشة الأقوال والأفكار المتداولة وبيان ضعفها بالأدلة الشرعية".
ونبه في ختام حديثه إلى "أهمية عدم شخصنة القضايا، وأن تكون المعالجة منصبة على الأفكار والمقولات، ولا يكون ذكر الأشخاص إلا عرضا، إذ ليس المهم ذكر الأشخاص، ولا يجب أن تختزل القضية بأشخاص بأعيانهم، وإنما المهم تعرية النهج والأفكار، والتحذير من القول في دين الله بغير علم، مع إيراد شواهد على ذلك مما هو شائع ومتداول بين الناس".
التطرف العلماني.. كيف يُكبح جماحه حتى لا يزيد الغلو الديني؟
جماعات الإسلام السياسي.. هل تتبع بالفعل إسلاما متخيلا؟
التصدي للتطرف الديني بين أسئلة الجدوى وابتذال المعالجات