قضايا وآراء

تفوق التقليد على الحداثة في تعليم القرآن الكريم

تم إهمال الطرق التقليدية في حفظ وتعليم القرآن- الأناضول
من أعظم المناهج العلمية في الحضارة والعلوم الإسلامية أنها اعتمدت على السند المتصل، وهو ما يعني أن هناك سلسلة بشرية عبر عدة قرون تتوارث العلم كابرا عن كابر، وفقا لضوابط واضحة تقل فيها نسبة الخطأ والتحريف إلى درجة تقترب من الصفر. والاعتماد الأكبر هنا يكون على الرواية الشفوية في النقل، فإذا افترضنا أن أعمار الناس خلال القرون الماضية ما بين 60 و70 فإن أي سلسلة بشرية متصلة تقتضي قسمة التاريخ الهجري على هذا الرقم، لتكتشف أننا بصدد نحو 20 شخصا بين عصرنا الحالي والعهد النبوي الشريف. وهو عدد ليس بالكبير من البشر ويسهل تاريخيا في كل جيل أن يتعلم ويستوثق ويعايش الجيل الذي سبق ويشرب منه العلم، بل ويشهد السابق للاحق وهكذا دواليك.

وقد طور العلماء المسلمين الأوائل هذه الآلية بشكل واضح في علوم الحديث الشريف عبر علوم الجرح والتعديل وعلوم الرجال والرواة، كما أنه أمر معتاد في المدارس الفقهية، حتى إن الدراسات الأكاديمية المعاصرة وإن كانت لا تعتمد نفس المنهجية إلا أنها تشترط وصل اللاحق بالسابق، ودراسة الباحث أو الطالب لنظريات وآراء الجيل السابق له وهضمها في كل بحث قبل أن يقدم طرحه العلمي.
م يصل إلينا القرآن الكريم الذي في أيدينا إلا عبر سلسلة من السند المتصل، والشهادة المختومة المرفقة في آخر معظم المصاحف ما هي في الحقيقة إلا توثيقا لهذه السلسلة وليست إنشاء لتصريح رسمي وإيداعا في دار الكتب كما هو الحال في معظم الكتب المنشورة

والعلوم المتعلقة بالقرآن الكريم ليست استثناء من هذا المجال، فلم يصل إلينا القرآن الكريم الذي في أيدينا إلا عبر سلسلة من السند المتصل، والشهادة المختومة المرفقة في آخر معظم المصاحف ما هي في الحقيقة إلا توثيقا لهذه السلسلة وليست إنشاء لتصريح رسمي وإيداعا في دار الكتب كما هو الحال في معظم الكتب المنشورة.

وبعد أن توسع التعليم المدني والحديث على حساب الأشكال التعليمية الدينية التقليدية دخلت مشكلة جديدة على طرق تعليم القرآن الكريم للكبار والصغار، وتوارت الطرق التقليدية في التعليم لضيق الوقت تارة ولعدم إدراك أهميتها التعليمية والروحية والنفسية على الأطفال خاصة تارة أخرى، حتى صار تعليم القرآن الكريم يتم بطريقة تلقينية تثمر كثيرا أو قليلا من الحفظ لكنها منزوعة أساسيات تعليم علوم القرآن؛ بالطريقة التي عرفها الأوائل وطوروها في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية وجعلها الله سببا في حفظه، وكانت تضمن تحقيق أهداف منها الحفظ؛ وعلى رأسها الفهم والأدب والتربية وتعظيم كتاب الله.

في كتابه "كيف تحفظ القرآن الكريم، قواعد أساسية وطرق علمية" يرصد الدكتور يحيى الغوثاني أساليب تعليم كتاب الله تعالى التقليدية في عدة مناطق حول العالم، والتي تقتضي أن تكون بادئ ذي بدء على يد محفّظ لديه إجازة بالسند المتصل، وأن تحاط بدراية ببركة وأهمية كتاب الله ثم بأوقات وأوضاع التعليم واستقاء علوم التجويد والأدب مع القرآن الكريم والتعامل معه، وكلها من لوازم العملية التعليمية قبل الدخول إلى تفاصيل كل طريقة.

الطرق التقليدية التي تجمع بين الذاكرة البصرية والنشاط البدني والجماعي وتعليم الأدب والتربية مع تعليم القرآن الكريم وحفظه. وهي أساليب ليست بالصعبة على التطبيق، ولكن الجهل بها جعلنا ندور في حلقات مفرغة من إرهاق الكبار والصغار، معلمين وطلابا، في التعامل مع تعليم القرآن الكريم، وابتعدنا عن كثير من الطرق المبدعة والممتعة

فالطريقة التركية التقليدية مثلا تقتضي تدريب الطلاب فترة طويلة على قراءة القرآن الكريم بالنظر قبل أن ينتقل لمرحلة الحفظ، وبعد ذلك يبدأ بحفظ الصفحات الأخيرة من كل سورة في المصحف، على اعتبار أن أوائل السوَر غالبا لا تُنسى وأن أواخر السور تكون ضعيفة في التثبيت.

أما في السودان فيجلس الشيخ وسط دائرة ويدور حوله الطلاب يراجعون ما تلقونه على يد الشيخ، والشيخ يراقبهم ويحمسهم ويزجر كل من يخرج عن النظام.

انظر إلى هذه الأمثلة من الطرق التقليدية التي تجمع بين الذاكرة البصرية والنشاط البدني والجماعي وتعليم الأدب والتربية مع تعليم القرآن الكريم وحفظه. وهي أساليب ليست بالصعبة على التطبيق، ولكن الجهل بها جعلنا ندور في حلقات مفرغة من إرهاق الكبار والصغار، معلمين وطلابا، في التعامل مع تعليم القرآن الكريم، وابتعدنا عن كثير من الطرق المبدعة والممتعة. إن كنوز التراث العلمي التاريخية للمسلمين مليئة بكثير من الكنوز في مناهج التربية والتعليم، خاصة فيما يتعلق بتعليم العلوم الإسلامية وغض الطرف عنها باعتبار كل ما هو قديم متخلف وكل ما هو جديد متقدم، هو عين الخطأ.

twitter.com/HanyBeshr