سجلت المشاركة الشعبية في الانتخابات البرلمانية
التونسية بدورتيها
الأولى والثانية نسبة متدنية جدا وصلت إلى 11٪، وهي الأقل في أي تصويت شعبي منذ
الثورة، فيما وصفتها بعض الصحف بالنسبة الأقل في أي انتخابات في العالم. دفعت هذه
النسبة المتدنية عددا من المراقبين والكتاب حول العالم لاعتبارها مؤشرا على فقدان
الرئيس قيس سعيد لشرعيته. بدون شك يمكن اعتبار هذه الانتخابات نوعا من التصويت على
شرعية سعيد وما يسميه "الإصلاح" السياسي والدستوري، ولكن هذه الانتخابات
ليست سوى خطوة جديدة في طريقه الطويل للفشل منذ انقلابه.
أصبحت شرعية سعيد محل تساؤل منذ تعليقه للبرلمان، وإقالته لرئيس
الحكومة الحاصل على ثقة نواب الشعب، وتعيين نفسه نائبا عاما خلافا للدستور. رغم أن
سعيد استخدم ـ بدون حق ـ البند 80 من الدستور لتبرير انقلابه، إلا أنه لم يلتزم لا
بهذا البند ولا بغيره من بنود الدستور أثناء مسار الانقلاب منذ 25 تموز/ يوليو
2021 وحتى الآن، وهو ما يطعن بشرعيته.
شرعية التصويت
فقد سعيد شرعيته عندما فشل في تنفيذ أحد الأهداف الرئيسية التي قال
إنه قام بانقلابه لأجلها، وهو تمكين الشعب من حكم نفسه بدلا من "البرلمان
الفاسد" حسب
رأيه. وبدلا من منح السلطة للشعب، فقد ركز سعيد كل أنواع السلطة
بيديه، بما يشمل السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية.
وإضافة لذلك، رفض سعيد الاستماع لغالبية التونسيين الذين عبروا عن
رأيهم من خلال "المقاطعة" في عدة مناسبات "انتخابية"، هي
التصويت على الدستور بنسبة مشاركة 30.5٪، والمشاورة الإلكترونية بنسبة لا تتجاوز
10٪، وأخيرا الانتخابات البرلمانية بنسبة مشاركة 11٪. وإذا كان سعيد يريد ـ حقيقة
ـ أن يمنح السلطة للشعب لكان استمع لـ"صمت" هذا الشعب في أيام التصويت،
وهو ما يدل على أن الشعب في واد وسعيد في واد آخر!
فقد سعيد شرعيته عندما فشل في تنفيذ أحد الأهداف الرئيسية التي قال إنه قام بانقلابه لأجلها، وهو تمكين الشعب من حكم نفسه بدلا من "البرلمان الفاسد" حسب رأيه. وبدلا من منح السلطة للشعب، فقد ركز سعيد كل أنواع السلطة بيديه، بما يشمل السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية.
وقد يقول البعض إن إجراءات سعيد الانقلابية تمتعت بدعم شعبي في تموز
2021. وعلى الرغم من أن كثيرا من التونسيين فقدوا ثقتهم في العملية السياسية
والأحزاب بسبب عدم قدرة الأحزاب على حل الأزمات التي يعاني منها الشعب بعد الثورة،
وعلى الرغم من أن بعض الاستطلاعات أظهرت ـ وقت الانقلاب ـ أن هناك تأييدا شعبيا
له، إلا أن التعبير الحقيقي عن موقف الشعب ورضاه عن أداء سعيد وشرعيته لا يمكن أن
يظهر إلا من خلال تصويت شفاف، وهو ما لم يحدث منذ الانقلاب.
فشل اقتصادي
فشل سعيد أيضا في المجال الاقتصادي على الرغم من أنه قال في تبريره
للانقلاب بأنه يريد حل المشكلات الاقتصادية "التي تهدد مستقبل البلاد".
وبعد أكثر من عام من انقلابه فإن الأرقام والمؤشرات تقول بأن الوضع الاقتصادي
للبلاد ازداد سوءا تحت قيادته.
وبحسب تقرير البنك الدولي في "صيف 2022" فقد بلغ معدل
النمو للاقتصاد التونسي 2.7٪ وهو أقل بقليل من التوقعات السابقة. وقال التقرير إن
هناك حاجة لإصلاحات اقتصادية لمعالجة الارتفاع بأسعار السلع. وفي نفس الوقت، فقد
ارتفعت نسبة الدين العام من 40.7٪ من مجمل الناتج المحلي في عام 2010 إلى 84.5٪ في
عام 2021، فيما زاد "اختلال الميزان التجاري" بنسبة 61٪ في الأشهر الثمانية
الأولى من عام 2022 لتصل إلى نسبة 11.6٪ من الناتج المحلي. أما البطالة، فهي
تتراوح حول نسبة 15٪.
لقد دفعت الأزمة الاقتصادية الحكومة التونسية لطلب قرض من صندوق
النقد الدولي، ووصل الطرفان لتوقيع اتفاقية أولية في تشرين أول/ أكتوبر الماضي
لمنح تونس قرضا بقيمة 1.9 مليار دولار. ولكن الصندوق أجل اجتماعا ثنائيا في كانون
أول/ ديسمبر الماضي "لمنح السلطات وقتا إضافيا لمراجعته" بحسب وكالة
رويترز. ولكن المؤشر الأكبر على عمق الأزمة الاقتصادية تحت سلطة قيس سعيد هو
"التضخم"، حيث تجاوزت نسبته 10٪ وهي الأعلى منذ عام 1948، في ظل أزمة اقتصادية
خانقة أدت إلى حصول نقص في السلع الأساسية.
محاربة الفساد؟
عند إعلانه للانقلاب، أكد سعيد أنه اتخذ هذه الإجراءات لمحاربة
الفساد والفاسدين، ولكنه فشل بعد حوالي سنة ونصف من انقلابه في محاربة الفاسدين من
رجال الأعمال والسياسيين. وبدلا من ذلك، فقد حارب سعيد واستهدف معارضيه ومن ضمنهم
رئيس الحكومة السابق ونائب رئيس حركة النهضة علي العريض.
واجهت تونس ـ بلا شك ـ حالة من عدم الاستقرار بعد الثورة، ولكن ذلك كان ثمنا متوقعا لأي مرحلة انتقالية من الديكتاتورية للديمقراطية. ومع ذلك، فإن سعيد فشل في توحيد البلاد وإعادة الاستقرار، بل على العكس، قد زاد من حدة الانقسام من خلال تقويض الأحزاب السياسية ومعاداة القضاء والبرلمان، وأخيرا الصراع مع اتحاد الشغل الذي اتهمه بإعلان حرب على النقابات.
وفي نفس مسار محاربة المعارضين بدلا من الفاسدين، فقد عقد صفقات مع
عدد من المتهمين بالفساد وصفتها "المدونة العالمية لمحاربة الفساد" بغير
الطبيعية، وفي نفس الوقت شن حملة جديدة ضد معارضين خلال الأسبوع الماضي. وشملت
الحملة الجديدة اعتقال سياسيين ورجال أعمال وقضاة عزلهم سعيد سابقا بتهم
"غامضة" تتعلق بـ"التآمر على أمن الدولة". ومن بين المعتقلين
في الحملة الجديدة عبد الحميد الجلاصي القيادي السابق في حركة النهضة ورجل الأعمال
كمال لطيف ومؤسس إذاعة موزاييك إف إم والناشط السياسي خيام تركي. وقد سببت
الاعتقالات موجة من الانتقادات من قبل الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية محلية وعالمية.
استقرار البلاد؟
كانت إحدى حجج قيس سعيد لتبرير إمساكه بكل مفاصل السلطة هي تحقيق
"الاستقرار"، لدرجة أنه استخدم مصطلح "الحرب الأهلية" خلال
محادثاته مع وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن في كانون الأول / ديسمبر الماضي، حيث قال إن
"تونس كانت على شفا حرب أهلية في مختلف أنحاء البلاد، ولذلك فلم يكن لدي أي
خيار سوى حماية الشعب التونسي من مواجهة أي أعمال شريرة".
واجهت تونس ـ بلا شك ـ حالة من عدم الاستقرار بعد الثورة، ولكن ذلك
كان ثمنا متوقعا لأي مرحلة انتقالية من الديكتاتورية للديمقراطية. ومع ذلك، فإن
سعيد فشل في توحيد البلاد وإعادة الاستقرار، بل على العكس، قد زاد من حدة الانقسام
من خلال تقويض الأحزاب السياسية ومعاداة القضاء والبرلمان، وأخيرا الصراع مع اتحاد
الشغل الذي اتهمه بإعلان حرب على النقابات. لقد فقد سعيد شرعيته عندما ناصب كل
الأطراف السياسية والنقابية والقانونية بما في ذلك من دعموه في بداية فترة
الانقلاب، لأنه فشل في توحيد الأمة وإعادة الاستقرار للبلاد.
فقد قيس سعيد شرعيته، إذن، قبل مدة طويلة من الانتخابات الأخيرة التي
لم تكن سوى تفصيلة صغيرة في طريقه الطويل للفشل. حدث هذا عندما فشل في تحقيق
الأهداف التي طرحها كمبرر لانقلابه مثل تحسين الاقتصاد، وتوحيد الأمة التونسية،
ومحاربة الفساد، والاستماع لنبض شعبه. لقد فقد سعيد شرعيته في نفس اليوم الذي أعلن
فيه انقلابه، وأدخل فيه نفسه وبلده في "متاهته"!