في متلازمة ستوكهولم يتعاطف الرهائن مع مختطفيهم، أو الضحايا مع
جلاديهم؛ وفي الاستبداد السياسي المديد يتماهى مضطهَدون مع المضطَهِدِ المستبد،
وفي سياسات تفضي إلى حروب عدوانية ومهالك وكوارث بشرية، ترفع شعوب ساسة طامحين
وطغاة بُغاة، يقودونها إلى حروب عدوانية تفتك بمئات الآلاف من البشر وتسبب المآسي
والكوارث للملايين منهم.. ترفعهم أبطالاً مبجلين وقادة ملهَمين، وتنصاع لهم وهي في
مستنقعات الدم والمعاناة.. ويعلي العالم شأن مجرم حرب ينتصر على مجرم حرب وكل منهم
قادهم إلى الموت.. في ظاهرة غريبة أشبه بـ" مازوخية" رهيبة مرصَّعة
بالأوسمة البراقة والشعارات الجذابة.
وفي عالمنا توجد متلازمة
سياسة أو متلازمة حُكم، تقترن بالدولة
والحياة المدنية، وتشبه متلازمة ستوكهولم لكن على أوسع وأبشع وأشنع. حيث يحيل ساسة
طغاة بُغاة حياة شعوبهم وشعوب غير شعوبهم إلى مستنقعات بؤس ومناقع دم نتيجة قمع
واضطهاد وقتل وعدوان على آخرين يجرون إليه الناس ويتعاطف معهم ضحياهم ممن يدفعون
الثمن أحياءً ويُساقون إلى الموت ضحايا. وتلك متلازمة حياة في سياسة ملازمة للحياة
إذ لا بد من سَوْسِ الناس في التجمعات والمجتمعات الحية، فقبَّحَ الله من يجعل
سياسته قمعاً للناس ورضطهاداً لهم ورعباً يلاحقهم، ومستنقعات بؤس، ومقابر حريات
وحقوق وأحلام وأجسام؛ وقبح الله السياسة حين تكون خداعاً وعدواناً، وضلالاً
وتضليلاً، وأقنعة ونفاقاً، وقتلاً للحق ومناصريه في العتمة، وأنفاقاً مظلمة ينتشر
فيها الظلم، وينعدم العدل، ويتشَمْرخ الباطل، ويختنق الخلق، وتصبح مراتع للفُجار،
وإفلاساً أخلاقياً وروحياً، وتجارة بالناس والقيم والدماء والأروح.. وقبَّح الله
من يكون في هذه الأحوال والشؤون والشجون: " أداة ومخلباً لجلادة ودريئة
وداعية له، وصَنَّاجاً وبواقاً في موكبه، وكاتماً لجرائمه وفساده، وغطاء لأفعال
وإجرامٍ يجلب العار، وعوناً للطغيان والطغاة الذين يجعلون الأبرياء حطب نار تحرق
الحرية والأحرار".
إن السياسة في مثل هذه الأحوال لا تصبح متلازمة مَرَضيَّة فقط بل
محنة تَلْبَس الناس لُبوساً وتُبلِسُهم إبلاساً.. [إذ هي لا غنى عنها ولا مندوحة
منها ولا منجاة من حبائلها حين تَفْسُد وتُفْسِد حياة المجتمعات والشعوب والأمم
والدول، وتصبح محكومة بالعقم والبؤس والإفلاس]. يوجد دوماً عشاق للسياسة ومن يرغب
فيها ويقاتلون من أجل الوصول إلى سدتها ومَن يفسدونها حين يملكونها ويحكمون باسمها
ويستقتلون للاحتفاظ بها.. إذ هي لا غنى عنها ولا مندوحة منها ولا منجاة من
حبائلها.
وحين تَفْسُد تلك "الجليلة المرغوبة المهابة" تُفْسِد حياة
مجتمعات وشعوب وأمم ودول، وتتفسَّخ في مناخ الفساد والإفساد جيف تنشر العفن
والوباء، ويتماهى معها بعض الناس ويشقى الكثيرون بهم وبها، ويضطر الناس إلى العيش
في مناخ الوباء الفتاك الذي تنتجه وتعيد إنتاجه، وتصبح محكومة بالبؤس والإفلاس
والعقم.. ولا مخرج للناس من فسادها ومن البيئة التي تنحدر إليها والمناخ الذي
تخلقه إلا بإصلاحها.. لكن نادراً ما يأتي إصلاحها بخير، لأن من يركب موجة إصلاحها
ويتفوق يتقوقع في جوفها، وهو جوف تتخمر فيه رغائب الأنفس وينمو فيها الكبر والغرور
والسوء الشر.. ويكون لكل من يدخل ذلك الجوف سياسته، وكل سياسة ترفع راياتها
وشعاراتها وأسلحتها وتباهي بذاتها، وتتمترس في مواقعها وتخوض حربها من هناك، وتطل
برأسها من ذلك الجوف لتعلن عن" حِكَمها وأَحكَامها وأوامرها وقواعد عملها،
والأصول التي تعتمدها، والمرجعيات التي تأخذ بها وتحكُمها.. فتضع المصالح والمطامح
والمطامع والحُكم والتَّحكم أساس الأسس، وتأخذ بمقولة " الغايات تبرر
الوسائل"، وتجد ما يسوِّغ الفتك وسفك الدم ونشر الرعب والبؤس.. وكل من وما يعارض
ذلك أو ينتقص منه، مرفوض ومغضوب عليهم ومدان ومُستَهدَف ومنكوب..؟!
ما رأيناه وقرأنا عنه في عالم السياسات، وما نراه اليوم من ساسة في سياسات لا يختلف كثيراً عمَّا يزخر به التاريخ البشري، حسب النتائج العامة التي تصيب الأحياء والحياة والعمران والحضارة.. من سفك للدماء، وتدمير للعمران والحضارة، وفظائع ومذابح ارتكبَت في تاريخ الدول والشعوب..
وفي هذه الأحوال تستنفر وتستقتل، وترفع راياتٍ وتلبَس تيجاناً مكتوب
عليها بخيوط الذهب نحن الوطن والعدل والحق و.. و.. وفي السر والعلن يتم العمل
بالقاعدة المتعرف عليها بين الساسة وفي مجالات السياسة وهي: "أن لا أخلاق في
السياسة، وأنهما تسيران في خطين متوازيين.".. والخطان المتوازيان، كما
تعَلَّمنا ونَعلَم ونُعلِّم، لا يلتقيان.
لا أظن أنَّ إنساناً سويَّا، ذا عقل وضمير وقيم، مهما كان عِرْقه
وجنسه ولونه وانتماؤه، ومهما كانت
مسؤوليته ومكانته، وسواء أكان من أصحاب الدين أو من الملحدين.. يبيح أن يتعرَض
الأبرياء خاصة والناس عامة، للقتل والتعذيب والإرهاب والقهر والتنكيل والحرمان من
الحقوق والحريات ومقومات الحياة، في الشراكة الاجتماعية و المسؤولية عن/ وفي كيان
ذي وجود وعقود وقيود وحدود.. ولا أن يقبل أو يسكُت على أن يتعرَّض بشر بعشرات
الألاف أو بمئاتها أو بالملايين للكوارث في البوادي والبيد، في المَدَرِ والحَضَر،
لأنوع من الموت البطيئ بسبب فقدان أدنى مقومات العيش المادية والمعنوية، وأن يُسمع
شهيقُهم وهم في الرمق الأخير، ينازعون الموت حياة.. من دون أن تتحرك فيه إنسانيته
ويتحرك لكي يخفف عنهم بعض ما يعانون، ويحفظ لهم حقَّ الحياة..
لكن السياسة تفعل
ذلك ببرودة أعصاب عجيب، بل وبشيئ غير قليل من اللامبالاة، وبالتشفّي والإذلال
والتحقير الذي لا يسلم منه حتى الأموات في قبورهم.. إنها لا تسأل عن موت ولا عمَّن
يموت، بل وتسعى لأن يكثُر من يعانيون ومن يموتون لكي تضمن " شَلايا" من
البشر، قطعاناً من الأغنام تمشي وراء " المِرياع" الذي يتبع الراعي
وحماره.. قطعاناً تسوقها إلى العذاب والإرهاب والدمار والتدمير، إلى حروبهي محارق
للبشر وأشكال من الإبادة يعجز عنها الوصف، تقضي على حياة عشرات الملايين من البشر،
وتدمر العمران والقيم وإنسانية الإنسان. وبعد كل حرب إبادة من تلك الحروب أو في
خِضمِّها تنتصب السيدة " سياسة" فخورة بما أنجزت، فقد انتصرت على
الإنسان بقتل الإنسان، وقهرت الخصوم بتدمير الحياة والحضارة والقيم."؟!..
ما رأيناه وقرأنا عنه في عالم السياسات، وما نراه اليوم من ساسة في
سياسات لا يختلف كثيراً عمَّا يزخر به التاريخ البشري، حسب النتائج العامة التي
تصيب الأحياء والحياة والعمران والحضارة.. من سفك للدماء، وتدمير للعمران
والحضارة، وفظائع ومذابح ارتكبَت في تاريخ الدول والشعوب.. بسبب الطغيان والطغاة
والحروب التي خاضها وأنتجها ساسة وقادة تخمروا في أقبية السياسة وجوفها المظلم،
وأطلوا منه على بشر وأطل عليهم ساساة وبشر بأدوات قتل وتدمير، تعبيراً عن مطامح
وتحقيقاً لمطامع وحماية لمصالح وتوسيعاً لنفوذ واستعماراً لشعوب وهيمنة على دول
وسيادات وقرارات و.. إلخ.
ومِن الغريب العجيب أن تستمر وتتعاظم: "تجارة مكشوفة، تبلغ
حدود القِحَة، ليس بالسلاح والأرواح والأجساد فقط، بل بالمعتقدات والقيم والمُثُل
والحقوق والحريات، وبمصائر جماعات وشعوب وبلدان"، تتجاوز حدود الإجرام
والقِحَة، وتنطلق من اعتبارات ومعايير وتطلعات ما أنزل الله بها من سلطان، وتبقى
محمية ومرعية الاعتبار في أسواق السياسات التي تسعى إلى تحقيق المكاسب على حساب
الدماء والجراح والأرواح، وعلى حساب العدالة والقيم وأمن الناس وسعادتهم. كل أنواع
الشر هنا واضحة ومفهومة جيداً ومُقرَّة، ومتجسدة في قامات ومقامات تُداجي وتضع
أقنعة.. تَلْبَس لَبوس الخير وتدلج في الشر، وتركض ركض الحريصين على الحق والعدل
والإنسان والحضارة وهي المستهين بذلك كله حين تزدهي بنفاق فضاح وإجرام سفاح وتدمر
من ذلك ما تدمر.. تلك دول وكيانات وقامات ومقامات في السُّوق، تعلن قانون"
الربح" وتتاجر بالأرواح والدماء والسلاح، بالحقوق والحريات والقيم والإنسان،
وتبسط أجنحة القوة المتوحشة في الآفاق.. تقمَع وتظلم وتَنهب وتُرهب وتقتل وتدمر.
الاستغلال والاستعمار والاستعباد والإذلال عندها غاية، والتجويع
والتركيع والإخضاع والتعذيب والتغييب التام والقتل بقوة السلاح أو بقوة الضلال
والتضليل إحدى وسائلها، والساحات الضعيفة والمجتمعات المسالمة مباحة لها ومستباحة
من قِبَلها، والأدوات كل الأ دوات متاحة، وكل الأساليب مباحة.. والذرائع على كفِّ
مَن يشيل. وكل ما يتطلع إليه الأقوياء وما يطمحون إليه يدخل في دائرة ما يرونه حقوقهم
الطبيعية، و" دفاعهم عن أنفسهم وأمنهم القومي ومصالحهم ووجودهم؟!" وهو
بقانونهم وعرفهم وعقيدتهم أمر مشروع ومطلوب من أقصى الأرض لأقصى الأرض، مِن القطب
الشمالي إلى القطب الجنوبي عبر خطوط الطول والعرض في أرض البشر.. وكل مِغَزِّ إبرة
فيها مباح مستباح.. و"يحق، ويحق، ويحق لها وحدها؟!" أن تخوض فيه حروباً
استباقية، لا تُسمَّى عدواناً بقانونها لأنها وقائية ودفاعاً مشروعاً عن النفس حسب
ما ترى وتقرر"؟!
وقد أصبح هذا الحال سيد الأحوال ومآل الأقوال والأفعال بين القوى
العظمى التي تحرث الأرض والفضاء، وتجر البشر إلى المهالك.. من دون التفات لِخَلْقٍ
وخُلُقٍ وقيمة وحق وعدلٍ، وسيادة دول واسْتَهْدَاف شعوب، ووجود بشر.