دخلت العلاقة بين الاتحاد العام
التونسي للشغل وسلطة 25 تموز (يوليو)
منعرجا يبدو حاسما باتخاذ كلا الطرفين إجراءات عملية تجاه الآخر بدأت من جانب
السلطة بإصدار الحكومة منشورا يمنع الوزارات من التفاوض مع القطاعات منذ أشهر ثم
تكثفت في الآونة الأخيرة بإثارة موضوع التعددية النقابية والاقتطاع الآلي والدور
السياسي للاتحاد.. ثم اعتقال كاتب عام نقابة الطرقات السيارة وآخرها استدعاء
مجموعة من نقابيي قطاع النقل للتحقيق معهم. أما من جانب الإتحاد فقد قررت الهيئة
الإدارية تنظيم تحركات جهوية ميدانية تنطلق يوم 11 شباط (فبراير) الجاري مع
الاستمرار في التمسك بمبادرة الإنقاذ التي أطلقها مع شركائه في المجتمع المدني
والتلويح في تصريحات جانبية بفتحها لمشاركة الأحزاب السياسية .
هذه التطورات المتسارعة في ظل أزمة تزداد تفاقما يوما بعد يوم تطرح
التساؤل القديم المتجدد حول دور الإتحاد العام التونسي للشغل في هذه المرحلة؟
وتتطلب الإجابة على هذا السؤال العودة إلى الدور الوطني الذي لعبته
المنظمة ضمن الحركة الوطنية والذي جعلها تتبوأ ما بعد الاستقلال مكانة الشريك في
بناء الدولة وتعتبر جزءا من منظومة الحكم وعاملا مهما من عوامل استقرارها
واستمرارها، حيث استمر الأمين العام عضوا في الديوان السياسي للحزب إلى حدود سنة
1977، كما كان للإتحاد درو في حسم الصراع داخل الحزب الدستوري الجديد في مؤتمر
صفاقس بين بورقيبة وبن يوسف.. وعايش مرحلة التعاضد التي تولى قيادتها أمينه السيد أحمد
بن صالح بعد إزاحته من المسؤولية النقابية. وقد كانت لقياداته مشاركة في حكومات ما
بعد الاستقلال وفي المجلس القومي التاسيسي ومجلس الأمة والنواب في كل المراحل.
إلا أن الدور والمكانة التي حازت عليها المنظمة جعلت تاريخها منذ
التأسيس صراعا بين الاستقلالية والتبعية
كما جعلتها في كل المحطات المفصلية المتعلقة خاصة بالجانب الاقتصادي والاجتماعي في
التاريخ الحديث للبلاد في وضع صعب بداية من
سياسة التعاضد التي انبنت على ما ورد
في البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للاتحاد وما خلفته من مآسي رغم قصر مدتها.. ولم
يسجل للاتحاد أي موقف ناقد لها..
ثم كان برنامج الانفتاح الاقتصادي للوزير الأول السيد الهادي نويرة وانعكاساته
السلبية على المقدرة الشرائية للعمال التي بدأت تظهر منتصف سبعنيات القرن الماضي
والتي أدى الخلاف حولها إلى أحداث 26 كانون الثاني (يناير) 1978 الدموية والتي كان
للصراعات داخل أجنحة السلطة حول خلافة الرئيس الحبيب بورقيبة دور في إذكائها،
والتي حسب ما يروى أن أمين عام الاتحاد السيد الحبيب عاشور كان منخرطا فيها.
حافظ الاتحاد العام التونسي للشغل أثناء عشرية الانتقال الديمقراطي على موقعه التاريخي كجزء لا يتجزأ من منظومة الحكم التي تشكلت ما بعد الاستقلال بمختلف مكوناتها الدستورية ثم التجمعية وحلفائها العضويين من اليسار الوظيفي واليسار الدغمائي وارتباطاتها الإقليمية والدولية.. وساهم مساهمة فعالة في إنهاك الانتقال الديمقراطي بالمطلبية المشطة والإضرابات التي لا تحصى وإعاقة أي توجه نحو الإصلاح الاقتصادي
وقد أدت أحداث 1978 إلى تدجين المنظمة وسجن قياداتها الشرعية وتنصيب
قيادة برئاسة التيجاني عبيد لتعود الشرعية إلى الاتحاد في مؤتمر قفصة بعد تولي الأستاذ
محمد مزالي الوزارة الأولى والدخول في سياسة الانفتاح السياسي وانخراط المنظمة
بقيادة الطيب البكوش في الجبهة الوطنية مع الحزب الدستوري في انتخابات 1981.
أما في أحداث الخبز 3 كانون الثاني (يناير) 1984 والتي حصلت بسبب رفع
الحكومة للدعم عن المواد الأساسية ورغم الصراع المحتدم بين الحبيب عاشور وخصومه من
الأعضاء السبعة للمكتب التنفيذي للإتحاد المحسوبين على الجبهة الوطنية بقيادة
السيد عبد العزيز بوراوي والذين وقع طردهم ليكونوا سنة 1985 الإتحاد الوطني للشغل
بدعم مباشر من السلطة، فإن قيادة الإتحاد لم تعترض عن رفع الدعم بل طالبت بتعويض
الشغالين عن ذلك بالزيادة في الأجور ووجدت نفسها على هامش الأحداث.
ثم سرعان ما تجدد الخلاف بينها وبين الحكومة حول ربط الأجور بتدهور
المقدرة الشرائية أو بالإنتاج والإنتاجية كما تطرح الحكومة. واحتد الصراع بين
الطرفين الذي أدى إلى وضع رئيس المنظمة الحبيب عاشور في الإقامة الجبرية وافتكاك
مقرات الإتحاد وتسليمها إلى ما سمي "بالنقابيين الشرفاء" بقيادة إسماعيل
الأجري المدعومين من الحزب الحاكم ليندمجوا فيما بعد مع مجموعة السبعة بعد أن تخلت
عن الإتحاد الوطني للشغل، وذلك في إطار قيادة موحدة للإتحاد موالية للسلطة التي أعلنت
بعد إقالة السيد محمد المزالي وتولي السيد رشيد صفر الوزارة الأولى عن برنامج الإصلاح
الاقتصادي (PAS) الذي جاء استجابة لتوصيات صندوق النقد
الدولي وتركز حول خصخصة المؤسسات وتأهيل الاقتصاد التونسي للمنافسة.
بعد 7 تشرين الثاني (نوفمبر)
1987 تمت إعادة الشرعية للاتحاد بعد تعهد الزعيم الحبيب عاشور باعتزال العمل
النقابي وتشكيل لجنة مؤقتة بالتناصف بين الشرعيين والمنصبين للإعداد للمؤتمر الذي
انعقد في سوسة وتم التدخل في هندسته بإفراز قيادة موالية للسلطة أغلبيتها من غير
العاشوريين على رأسها إسماعيل السحباني الذي كرس التبعية التامة للسلطة ثم تبعه في
ذلك عبد السلام جراد الذي قامت الثورة وهو على رأس المركزية النقابية التي كان
موقفها داعما لنظام بن علي في قمعه للاحتجاجات .
إلا أن ذلك لم يمنع بعض القيادات الوسطى القطاعية والجهوية والقواعد النقابية
من المشاركة في الأحداث وقيادتها بالانطلاق من بعض مقرات الاتحاد وخاصة صفاقس
وتونس العاصمة .
لقد حافظ
الاتحاد العام التونسي للشغل أثناء عشرية الانتقال
الديمقراطي على موقعه التاريخي كجزء لا يتجزأ من منظومة الحكم التي تشكلت ما بعد
الاستقلال بمختلف مكوناتها الدستورية ثم التجمعية وحلفائها العضويين من اليسار
الوظيفي واليسار الدغمائي وارتباطاتها الإقليمية والدولية.. وساهم مساهمة فعالة في إنهاك
الانتقال الديمقراطي بالمطلبية المشطة والإضرابات التي لا تحصى وإعاقة أي توجه نحو
الإصلاح الاقتصادي وقد اندرج دوره ضمن الرباعي في الحوار الوطني سنة 2013 في هذا
السياق من خلال ما ورد بالخصوص في خارطة
الطريق .
لذلك سارعت المركزية النقابية من البداية إلى إعلان دعمها لمسار 25
تموز (يوليو) 2021 سعيا منها لأخذ موقعها الطبيعي من مظومة الحكم وتصرفت طيلة
السنة والنصف الماضية بتذبذب وارتباك جعلها تنتهي إلى وضع لا تحسد عليه بين مطرقة
السلطة التي ليس لها سوى الانصياع لطلبات صندوق النقد الدولي في ظل وضع اقتصادي
على حافة الانهيار وبين الشارع الاجتماعي الذي يكتوي بنار غلاء الأسعار وفقدان
المواد الأساسية وتدهور المقدرة الشرائية والشعور بخيبة أمل تجاه كل المنتظم
السياسي من سلطة وأحزاب ومنظمات على حد السواء.
فهل تساهم المركزية النقابية في إنقاذ البلاد والاتحاد من الحلقة
المفرغة التي باتت تدور فيها؟ وذلك بالتعاطي بشجاعة وجدية مع الأوضاع وإعلان
الانطلاق في حوار وطني شامل ومفتوح يطرح خارطة طريق للإنقاذ السياسي والاقتصادي
والاجتماعي والكف عن المناورات الصغيرة التي لا تقدم ولا تؤخر ولا تجمع ولا توحد
ولا تسمن ولا تغني من جوع.
*كاتب وناشط سياسي تونسي