قضايا وآراء

متى يُهاجر المثقَّف؟ (2-3)

يرى الكاتب أن بقاء محمد قطب في بلده كان سيعيد تشكيل جيل الصحوة- موقع محمد قطب
كانت هجرات المثقفين العرب إلى الأستانة -وغيرها من حواضر الإسلام- قبل سقوط حكم العثمانيين وتمكُّن الغرب وتحديثه، أشبه شيء بالهجرة النبويَّة الشريفة إلى المدينة المنورة؛ فهي هجرة داخل السياق، إذ كانت العربية لغة العلم والثقافة لا تُنازعها في ذلك اللغات المحلية، وكان المثقف المفكر، أو الكاتب الذي ينتقل إلى سياق إسلامي جديد؛ يستطيع الانتقال انتقالاً ميسوراً من الهامش إلى المركز الفاعل المؤثر. بل إن الكافر الذي أتقن العربية أو الفارسية في حواضر الإسلام الكبرى؛ كان يشق طريقه "الوظيفي" بسهولة نسبيَّة بين النُخبة المسلمة، حتى أعلى المراتب.

لكنَّ الإسلاميين الذين فروا من دول "الربيع العربي" بعد هزيمته لم يُهاجروا داخل السياق لافتقادهم هم وسياقهم الجديد إلى العناصر الذاتيَّة والموضوعيَّة، التي تجعل منها هجرة تأسيسية لسياق دعوي جديد، وإنما صاروا غُرباء في البُلدان العربية والإسلامية التي هاجروا إليها، بسبب قيود الهجرة والجنسية واللغة، وغيرها من الآصار المرتبطة بالدولة القُطريَّة وقداسة حدودها، وتكوينها المنغَلِق سُكانيّاً ولغويّاً وثقافيّاً. بيد أنهم بخروجهم قد ساهموا في تنظيف الساحة من الغُثاء؛ لتستبين سبيل المجرمين.

وهؤلاء غالباً لن يعودوا إلى بُلدانهم الأصليَّة مرة أخرى بعد استقرارهم اقتصاديّاً في بُلدان أخرى، وإن عادوا سيكونون غُرباء؛ خصوصاً بطول مكوثهم بالخارج. وذلك مهما سمحت لهم وسائل التواصل بالاطلاع المبتور والمشاركة بالضجيج، فإن استشعار المسجون لقيده، وحركته المستمرة للتحايُل على الحدود التي يُرسخها؛ تُكسب المثقف دُربة أكبر على عوائق البيئة وإشكالاتها، وتجعل حركته داخلها أكثر حميمية ويُسراً... وفعالية. وإذا كان أي مسجون في سياق اجتماعي يفقد كل هذه القدرات حين يُغادره، فإن من لم يألف هذه القيود -إبَّان فترة نُضجه- ولم تنمُ قدراته نموًّاً طبيعيّاً داخل هذا السياق؛ فسيتعذَّر عليه العودة إليه ودع عنك الاستمرار فيه، خصوصاً إذا كان قد حقَّق لنفسه استقراراً اقتصاديّاً في بيئة أقل تقييداً.

هؤلاء غالباً لن يعودوا إلى بُلدانهم الأصليَّة مرة أخرى بعد استقرارهم اقتصاديّاً في بُلدان أخرى، وإن عادوا سيكونون غُرباء؛ خصوصاً بطول مكوثهم بالخارج. وذلك مهما سمحت لهم وسائل التواصل بالاطلاع المبتور والمشاركة بالضجيج، فإن استشعار المسجون لقيده، وحركته المستمرة للتحايُل على الحدود التي يُرسخها؛ تُكسب المثقف دُربة أكبر على عوائق البيئة وإشكالاتها، وتجعل حركته داخلها أكثر حميمية ويُسراً... وفعالية

لهذا، يفشل المهاجرون الذين يعودون على دبابات الغُزاة؛ فهُم أحفاد أبو رغال الانتهازيين الأغبياء، الذين تقطَّع ما بينهم وبين سياقهم القديم، وعجزوا حتى عن إدراك حقيقة ذلك. والغالب أن التكنوقراط أو الوعَّاظ الذين "خرجوا" من ديارهم، واستطاعوا الاستمرار في بيئات أخرى؛ ليست لهم قيمة حقيقية في مُجتمعاتهم ولا تأثير، ورُبما يكون انعدام قيمتهم المتعينة هذا؛ هو الذي يجعل لهم قيمة في شيء آخر، وفي سياق آخر. بيد أن هذا التخفُّف المقدور من قيود العلاقة مع الواقع والسياق، أخذاً وعطاءً؛ يُجردهم من رداء المثقف وينزع عنهم دثاره، بقدر ما يُيسر حركتهم في مجالات أخرى، فيجعل خروجهم للارتزاق أكثر منه للنضال؛ مهما ادَّعوا غير ذلك. لكنَّ المثقَّف الحقيقي، بوصفه وريثاً للنبوَّة؛ يتشبَّث بدوره في داخل مجتمعه، حتى يبلُغ اللحظة المحمَّدية: "لولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت"؛ فبهذا الإقرار القلبي الصادق ينفتح السياق الجديد بالدعوة لتأسيس مجتمع جديد.

وربما كان من أعظم مآخذي على مفكر بحجم أستاذنا محمد قطب رحمه الله تعالى، هو هجرته إلى السعودية خوفاً من تكرار تجربة الاعتقال. صحيح أنه معذور بالتجربة الشنيعة التي عاشها هو وأهله، وكان في القلب منها إعدام شقيقه الأكبر وقدوته ومعلمه، بيد أن بقاءه في مصر كان سيُعيد تشكيل ما سمي بـ"الصحوة الإسلامية" في مصر ويخلقها خلقاً آخر، ولن يترك زمامها حائراً بين عمر عبد الرحمن والغزالي والقرضاوي والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، وغيرهم من الحيارى؛ الذين سطَّحوا الحركة وشوَّشوا وجهتها وبلبلوا مساعيها.

ثم لقد كان الجيل الذي "ربَّاه" محمد قُطب في السعودية جيلاً فاشلاً هشّاً لا قيمة له، ولو كان الله تعالى قدَّر له البقاء في مصر ورضي لنا هذا؛ لتغيَّر مسار الحركة الإسلاميَّة تماماً، واكتسبت عُمقاً ما زال هذا الجيل يفتقده إلى اليوم، وتؤدة ونُضجاً غابا عن "الإسلاميين" منذ سبعينيات القرن العشرين، ولانكمش بذلك انتشار أدبيات المودودي رحمه الله، وتضاءلت مساحة لغو الجماعات المسلحة والتكفيرية، ولاستعادت مصر بُسرعة قيادة الحركة الإسلامية من السعودية. لكنَّ سفره رسَّخ انتقال هذه القيادة من مصر طوال ما يقرُب من نصف قرن، وجعله أمراً محسوماً.

لقد ترك قُطب مصر ليُربي جيلاً فاشلاً في جزيرة العرب، بيد أن جيل "الإسلاميين" الذي نشأ داخل مصر في غيبته؛ كان جيلاً أفشل بكل المقاييس. لذا، ربما كانت هجرة مثقف راسخ بحجم محمد قطب "خُطَّة" مُنظَّمة مُرتَّبة لا لنزع قيادة مصر فحسب، وإنما لإفشال الجيل كله في مصر والسعودية. لقد تحمَّلت هذه الأسرة الكريمة عناءً يعلم الله مقداره، بيد أن محاولتنا قراءة ما كان ينبغي أن يحدث؛ تجعلنا نطَّرد مع أنفسنا في قراءة فعل كل مجتهد في ضوء مآلاته اليوم.

عود على بدء؛ فلم تكن هجرات مثقفينا داخل السياق الإسلامي هجرات مثمرة -قبل التحديث- بسبب مركزيَّة اللسان العربي، وسهولة الحركة داخل الهرميات النخبوية فحسب؛ بل لأن سهولة الحركة بين الحواضر وداخلها كان رافدها سهولة نسبيَّة في تدبير نفقة المثقفين الملتزمين، سواء عن طريق الأوقاف والتجار الأغنياء، أو عن طريق عطايا السلاطين. لكن بعد تغول التحديث، وتحطُّم النظام العالمي للإسلام بسقوط العثمانيين، وهيمنة النظام العالمي للكفر بدوَله القُطريَّة ذات الحدود المقدَّسة المغلَقَة، فإن الحركة بين الحواضر العربية نفسها -ولا أقول الإسلامية!- لم تصر شديدة المشقة فحسب، بل أدَّى هذا الانغلاق القُطري إلى غرس شجرة الاغتراب في نفوس من انتقل من حاضرة عربية إلى أخرى، طلباً للرزق.

فبعد أن كان بوسع الواحد منهم تدبُّر أمره في بلده مهما تعسَّرَت الأحوال، وأن يجد من يُسعفه من أولي العصبيَّة متى لزم الأمر؛ فقد صار مُضطراً لقتل نفسه في سبيل المال، ليؤمن لنفسه ما يحسبه "حياة مستقرة". لتصير الأزمة الكُبرى في هذا الإهدار العظيم للعقول والقلوب والكفاءات والأيدي، ليست هي طلبها للكفاف؛ وإنما في طلبها للفائض المالي الكبير، الذي تحاول أن تستمد منه قدراً من الأمان في غُربتها الشاملة. وهو فائض تُحققه على حساب رسالتها العامَّة، وعلى حساب حُسن تربيتها لأطفالها تربية إسلاميَّة حقيقيَّة

كما صارت الحركة داخل هذه الحواضر العربية مقيَّدة تقييداً تامّاً إلى قوانين الهجرة والجنسية (حفظاً للثروة في يد نُخبة اصطنعها الغرب)، التي تحكم على من لم يولَد أبوه أو جده في البلد بمعاملة أدنى، ودع عنك الحركة داخل النخبة! بيد أن الأنكى، والأعظم مشقَّة؛ كان صيرورة المال هو الوطن الجديد لهؤلاء "المغتربين" أو "الوافدين"، لا القضيَّة أو الفكرة أو حتى "الوطن الأم" الذي لم يستوعِب قدراتهم، وصار الهوس بالمال محاولة لصنع وطن جديد، يُقلل من استشعارهم للاغتراب في بيئة "مشابهة". فبعد أن كان بوسع الواحد منهم تدبُّر أمره في بلده مهما تعسَّرَت الأحوال، وأن يجد من يُسعفه من أولي العصبيَّة متى لزم الأمر؛ فقد صار مُضطراً لقتل نفسه في سبيل المال، ليؤمن لنفسه ما يحسبه "حياة مستقرة". لتصير الأزمة الكُبرى في هذا الإهدار العظيم للعقول والقلوب والكفاءات والأيدي، ليست هي طلبها للكفاف؛ وإنما في طلبها للفائض المالي الكبير، الذي تحاول أن تستمد منه قدراً من الأمان في غُربتها الشاملة. وهو فائض تُحققه على حساب رسالتها العامَّة، وعلى حساب حُسن تربيتها لأطفالها تربية إسلاميَّة حقيقيَّة.

فقد صار الخروج إلى المهجر العربي يعني الارتداد السريع إلى الانشغال بالاحتياجات الأساسية، لا لتلبيتها بالحد الأدنى المطلوب إنسانيّاً، وإنما لمحاولة تحقيق أقصى حد ممكن من هذه التلبية، تحسُّباً ليوم غد! وبعد أن كان الكفاف الأدنى مكفولاً بسبب الحاضن الاجتماعي، وكان ما فوقه بعضاً من تحديات الواقع التي يسعى المثقَّف للتعاطي معها في يومه؛ يصير الحد الأقصى المستحيل هو شغله الشاغل وتحديه الحقيقي، في مجتمع لا تربطه به إلا أوهى الصلات (الوظيفية!)؛ فلا يكترث لحركته، ولا يستطيع أن يقرن فيه بين سعيه للرزق ورسالته -كما كان يفعل في بلده- وإلا طُرِد من "نعيمه" شرَّ طردة! وربما كانت أسوأ مآلات هذا الانكفاء على الارتزاق، بعد سقوط المنظومة القيمية للمثقف؛ هي نشوء الأطفال في بيئة أشد انطواءً وأعظم هشاشة، لافتقادهم إلى الحاضن الاجتماعي السوي، مهما حاولوا الاندماج في البيئة الجديدة، التي تذكرهم طوال الوقت بأنهم أغراب. بيد أن شعور الاغتراب المدمر هذا على قسوته، أيسر أحياناً من الاندماج الكامل الذي يُذيب المثقف وأطفاله في المجتمعات الغربيَّة، فلا يسلُب المثقف رسالته فحسب، وإنما يسلُبه دينه ودين عياله كليّاً.

لقد كان المثقف الحديث قادراً على الحركة في سياقه القُطري المشوَّه مهما كانت القيود، قادراً على الالتفاف، وإعادة صياغة رسالته لتتلاءم مع طبيعة القيود؛ مُلتفّا حولها التفافاً يسمح له ببلوغ جمهوره المفترض تحت أنف الرقيب. هذا النضال المنهِك، فقط لمجرَّد صياغة الرسالة؛ هو عينه مكمن قوَّة المثقف، وذروة تجلي قدراته ومهاراته. فهذا الجهد المضني، وهذه المعاناة المستمرة هي التي تحفظ عليه روحه، وتحفظ مضاء عقله، وتشحذ كل حين عزيمته؛ فإن المشقَّة جوهر التكليف الإنساني عموماً بمقاومة الإنسان لشهواته. وهي تتضاعف في حالة المثقف الملتزم، فكأنها باب المدد الذي ينفتح له من الغيب. لهذا، فإن المثقف الذي يحسب أن الراحة والترف -أو حتى تمام الاكتفاء!- قد يُيسر له ما لم يتيسَّر له في عُسره؛ ساذج جاهل بالطبائع البشرية، بل وبطبيعة نفسه ومسؤوليته، بل إنه ليس بمثقف أصلاً، إلا أن تكون هذه الراحة أمنية عابرة؛ تعاوده بين حين وآخر كما يُعاوده ضعفه البشري، بيد أنه لا يُعوِّلُ عليها في هذه الدنيا؛ فهذا إنساني مشروع مفهوم. وما ذلك إلا لأن الترف والراحة أعدى أعداء المثقف ورسالته، ومدعاة للخمول والتبلُّد، وباب للنوم عن مسؤوليته التي تعبَّده الله بها.

twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع