تأتي الأيام
الطيبة المباركة سريعا وتنتهي سريعا، ومنذ أيام قليلة كنا نستقبل شهر
رمضان، ونحن
الآن في وداعه، هذا الشهر الذي ارتبطت فيه السماء بالأرض في ليلة القدر بنزول
القرآن الكريم، وقد كان هذا الارتباط تحولا للدنيا كلها، بتقرير الوحدانية لله رب
العالمين ونبذ الظلم وإقرار العدل والرفق بالخَلق.
وما كان فتر الوحي وبطؤه بعد نزوله في رمضان وداعا لرسول الله -صلى الله عليه
وسلم- من ربه -كما بينت سورة الضحى- فرحمته ورعايته وإيواؤه سبحانه أحاطت بالرسول من
كل جانب، والآخرة خير له من الأولى. وهناك ما هو أكثر وأعظم، فالله سيعيطه حتى
يرضى، فهو سبحانه أواه من اليتم، وهداه بالوحي، وأغناه من الفقر، وأوصاه بعدم قهر
اليتيم، وعدم نهر السائل، والتحدث بنعمة الله عليه. وهذه الوصايا، يجب أن يضعها كل
مسلم نصب عينيه، فهي أساس البناء المجتمعي.
لقد
مات عبد الله والد النبي -صلى الله عليه وسلم- والرسول جنين في بطن أمه، وكان عبد
الله في عير قريش ضاربا في الأرض، فنزل بالمدينة وهو مريض فتوفي بها، وهو إذ ذاك
ابن خمس وعشرين سنة، ودُفن في دار النابغة الجعدي، وكان كل ما خلفه من ميراث خمسة
جمال، وقطعة غنم، وجارية هي بركة الحبشية وكنيتها أم أيمن، وهي حاضنته صلى الله
عليه وسلم.
وبذلك، ولد النبي -صلى الله عليه وسلم- يتيما وفقيرا، فكفله جده عبد المطلب، وأبت المرضعات
جميعا إرضاعه ليتمه وفقره، ولكن كانت حكمة رعاية الله ظاهرة بتحريم كل المراضع عليه
ليكون من نصيب حليمة السعدية، التي لم تجد بدا إلا قبول إرضاعه بعد أن عجزت أن تجد
غيره.
ثم
مات جده وكفله عمه أبو طالب، وكان
أبو طالب على قدر الأمانة والمسؤولية، فقدم ابن أخيه على أولاده، وقربه منه في
سكنه وترحاله. وعمل الرسول منذ صغره برعاية الغنم على قراريط لأهل مكة، كما عمل
بذلك من قبل في ديار بني سعد، وتعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك
فنون التجارة، فقد كان عمه أبو طالب تاجرا ماهرا، وكذلك كان عمه العباس، فالتجارة
كانت ميراثا أسريّا، فأبوه عبد الله كان تاجرا، وكذلك جده عبد المطلب، وجده هاشم
الذي أول من سيّر رحلتَيْ الشتاء لليمن والصيف للشام.
ما أجمل أن تجتمع تلك الإرادتان بالصدق والأمانة والمسامحة والثقة، فبهذه الشراكة استضاءت دنيا الاقتصاد والأعمال، وأصبح الطريق من مكة للشام واحة من واحات الخير والبركات، ورأت خديجة في مالها من الربح والنماء والبركة ما لم تره من قبل.
ولما تناقلت مكة أنباء كرم أخلاق النبي -صلى
الله عليه وسلم-، وصدق حديثه وعظم
أمانته وحسن كفاءته التجارية، علمت بذلك خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها-، وكانت
امرأة تاجرة ذات شرف ومال تضارب بأموالها، فعرضت عليه شراكته لإدارة مالها الذي
تعده لإخراجه إلى الشام، وتعطيه حصة من أرباح المضاربة أفضل مما كانت تعطي غيره من
التجار، فقبل وخرج وهو في الخامسة والعشرين من عمره مع غلامها ميسرة بتجارتها، حتى
قدم الشام.
وبذلك التقت إرادة سيدة الأعمال خديجة بنت
خويلد بإرادة رجل الأعمال محمد بن عبد الله، في صورة شراكة تحيطها البركة من كل
جوانبها، وتعلوها مكارم الأخلاق وتوجهها إدارة فريدة ليس لها مثيل، ومال نقي نظيف
ليس له نظير. فما أجمل أن تجتمع تلك الإرادتان بالصدق والأمانة والمسامحة والثقة، فبهذه الشراكة استضاءت دنيا الاقتصاد والأعمال، وأصبح الطريق من مكة للشام واحة من واحات الخير والبركات، ورأت خديجة في مالها من الربح والنماء والبركة ما لم تره من قبل.
وعلمت خديجة من خصال النبي في سفره من غلامها
ميسرة ما جعلها تُسرّ بما في نفسها لصديقتها نفيسة بنت منبه؛ من رغبتها في الزواج
منه، وهي التي يتكالب عليها السادة للزواج فتأبى، فتزوجها النبي -صلى
الله عليه وسلم-، وانتقلت الشراكة لتضم المال والأنفس معا. ومن جميل ارتباط الرسول
بخديجة، أن الله أغناها بأمانته وصدقه وكفاءته في إدارة مالها، وكفلها برجولته، وهي
أغنته بعفتها وشرفها ومالها وثرائها. فيتيم وفقير الأمس أصبح غني اليوم "وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى" (الضحى: 8)، وما اتخذ يوما المال غاية يتطلع إليها، ويسابق الزمان لتكاثرها،
إنما اتخذه وسيلة به يطعم الجائع، ويكسو العاري، ويعين المحتاج، ويسد حاجات
ذوي الخصاصة، فما من صاحب مسبغة إلا أشبعه، ولا صاحب متربة إلا رفعه، وكان يبحث عن
مواضع الحاجة فيرأب ثلمتها.
وهذا درس لكل صاحب كرامة إنسانية؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- من خلال حياة الكدح التي عاشها، والعمل الذي ارتضاه لنفسه منذ نعومة أظفاره، يمثل منهجا وقدوة للسائرين على طريق النبوة. فرغم يُتمه وفقره وكفالة عمه أبي طالب له، إلا أنه لم يعش في ثوب الفقر ويقول: رب أهانن، بل اعتمد في توفير دخله على نفسه، وخرج من ضيق الفقر بقوة العمل، وهو بذلك يرشد كل قادر على العمل ألا يستكين للبطالة.
وهذا درس
لكل صاحب كرامة إنسانية؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- من خلال حياة الكدح التي
عاشها، والعمل الذي ارتضاه لنفسه منذ نعومة أظفاره، يمثل منهجا وقدوة للسائرين على
طريق النبوة. فرغم يُتمه وفقره وكفالة عمه أبي طالب له، إلا أنه لم يعش في ثوب
الفقر ويقول: رب أهانن، بل اعتمد في توفير دخله على نفسه، وخرج من ضيق الفقر بقوة
العمل، وهو بذلك يرشد كل قادر على العمل ألا يستكين للبطالة، وألا يتكبر على العمل
ويأنف منه، أو يعيش على نفقة غيره، فمن لا يملك لقمة عيشه، لا يمكن أن يملك كلمته
وحريته، فالعمل هو مصدر العزة والكرامة والاستكفاء والاستغناء، والعمل الناجح
يحتاج إلى الجمع بين الأمانة والكفاءة معا، والضرب في مناكب الأرض بالحلال، وهذا
درس لكل رجل وسيدة أعمال يتشوقون إلى النجاح.
وهذا
درس كذلك للمسارعة في عمل الخيرات، والمسح على رأس اليتيم وجبر خاطره، وإعانة
الفقير لانتشاله من فقره، والأخذ بيد السائل لتحقيق كفايته. وزكاة الفطر تصب في
هذا الاتجاه، بعيدا عن التشنيع بين من يرد إخراجها طعاما ومن يرد إخراجها نقدا،
فالعبرة هنا ليست بطبيعة الشيء الذي يتم إخراجه، بقدر ما هو تحقيق منافعه، وخاصة
أن الأيسر للدافع والأنفع للآخذ في واقعنا المعاصر هو النقود. وقد أسس لذلك
الحنفية وطبقه عمليا عمر بن عبد العزيز في دولة تمام الكفاية لكل الرعية. وهذا
يتناسب مع روح العصر الذي يعتمد على النقود لا المقايضات في المطعومات التي كانت
هي الأصل في عهد الرسالة، كما أن إخراج القيمة يحول دون استغلال التجار لمستحقي
زكاة الفطر، الذين أخذوا المطعومات في ظل عدم حاجتهم إليها، فضلا عن أن زيادة عرضها
يؤدي لانخفاض سعرها، فإيصال القيمة أيسر وأنفع وأغنى.
twitter.com/drdawaba