تناولت
في مقالين سابقين
المشاريع الكبرى في المنطقة العربية
المشروع الإيراني، ومن ثم
المشروع الأمريكي الإسرائيلي، وفي هذا المقال نتحدث عن المشروع التركي ومعالمه وآفاق
تحقيق أهدافه، والتقاء أو تقاطع مصالحه مع المشروعين السابقين في ظل غياب مشروع
عربي كبير وموحد في المنطقة.
1- مشروع التغريب الأتاتوركي العلماني
بعد تفكك الدولة العثمانية وهزيمتها من قبل الحلفاء في
الحرب العالمية الأولى والتي شارك فيها أتاتورك كجنرال عسكري فوقعت أجزاء من دولة
تركيا تحت الاحتلال، حينها قام مصطفى كمال أتاتورك بالعمل على مناهضة
الاحتلال في بلاده وأعلن عصيانه للسلطان العثماني، ثم أسس قوات التحرير من
الاحتلال عام 1919 وقاتل المحتل البريطاني والفرنسي والإيطالي واليوناني، وكرّس
نفسه كمقاوم للاحتلال وكقائد للثورة على الاستعمار والسلطان بدعم من الجيش والشعب؛
تمخضت عن إسقاط آخر سلطان عثماني وإعلان الدولة التركية الحديثة في تشرين الأول/ أكتوبر
عام 1923.
كان مصطفى كمال أتاتورك علمانيا قوميا، وكان ينظر إلى
النموذج الغربي على أنه الوصفة التي يمكن أن تُخرج تركيا من حالة التخلف والارتهان
إلى مصاف الدول المتقدمة، فنقل تركيا من مظلة المشروع الأممي إلى مظلة المشروع القومي،
ومن مرجعية المشروع الديني إلى مرجعية المشروع العلماني وفقا للنظام الغربي.
استطاع أتاتورك والعسكر أن يحكموا تركيا من خلال حزب الشعب
الجمهوري الذي أسسه كمال أتاتورك، وكان واجهة العسكر في حكم تركيا، فكان أتاتورك أول
رئيس للدولة التركية الحديثة، وحكم تركيا لمدة 15 عاما، مرحلة عمد فيها إلى عملية
استئصال لكل ما يمكن أن يربطه بالشرق؛ حتى أنه تدخل في حياة الناس وحرياتهم الشخصية
والدينية، فمنع عليهم لبس العمامة والطربوش وأزال الأضرحة وألغى المحاكم الدينية،
وأقام دولة مدنية مستوحاة من النمط الغربي، ووضع دستورا جديدا استلهمه من الدستور
السويسري عام 1928، وألغى القراءة والكتابة بالعربية، ومنع صوت الأذان، وحظر
الحجاب، وفرض النمط الغربي على كل مفاصل الحياة الشخصية والدينية للناس.
فشلت بعد ذلك كل محاولات
الانعتاق من الخط الأتاتوركي بتغريب الدولة فيما يتعلق بالحريات الشخصية والدينية،
ففشل رئيس الوزراء عدنان مندريس المنشق عن حزب الشعب الجمهوري والذي أسس الحزب الديمقراطي
عام 1946 ووصل للسلطة عام 1950، حتى وقت أول انقلاب في تاريخ تركيا الحديثة على
حكمه عام 1960.
رغم الخط العلماني والتغريب
السياسي الواضح لعدنان مندريس في الاقتصاد التركي وفي بناء علاقته مع الغرب، إذ
استطاع أن يُدخل تركيا في حلف الناتو في عام 1952 وبعد عامين من استلامه للحكم،
وكما كان أول من أرسل سفيرا لتركيا إلى إسرائيل وكان أول من رفض استقلال الجزائر عن
فرنسا وصوّت ضده.. رغم كل الخط الغربي العلماني الذي تبناه مندريس إلا أن خطه
الداخلي في الدفاع عن الحريات الشخصية والصحفية والدينية جعلت العسكر يُجهضون
التجربة مبكرا، وليكون أول انقلاب عسكري أدى إلى إعدام عدنان مندريس والحكم
بالمؤبد على رئيس الدولة من ذات الحزب آنذاك.
منذ اللحظات الأولى كان الحزب الجديد يعلن أنه حزب علماني محافظ يحترم مبادئ وأسس علمانية الدولة التركية الحديثة، ويحترم الحريات الشخصية والدينية للأشخاص، وهو في هذا الطرح أقرب إلى طرح عدنان مندريس في خمسينيات القرن الماضي، لكن فشل العسكر في الارتقاء بالدولة التركية، وخطاب أردوغان المتصالح مع مبادئ الدولة العلمانية جعل العسكر عاجزين عن الاستمرار في مسلسل الانقلابات ضد الديمقراطية
كما فشلت تجربة نجم الدين أربكان
المتأثر بخط الإسلام السياسي في الانعتاق من الخط الأتاتوركي، وكان قد أسس حزب
النظام الوطني عام 1970 وتم حله من المحكمة الدستورية بعد تسعة أشهر. لكن أربكان
استطاع الوصول للسلطة بقيادة حزب الرفاه ذي الخلفية الإسلامية، وما أن وصل لرئاسة
الحكومة عام 1996 حتى تم عمل انقلاب عليه عام 1997 عُرف بانقلاب المذكرة الصادرة
من قيادة الجيش أجبرت أربكان على الاستقالة هو وحكومته، وبعدها تم تقديمه للمحاكمة
وخضع للحظر السياسي ليبقى الخط الأتاتوركي مسيطرا على كل مفاصل الدولة وحياة
الناس.
2- المشروع
العلماني المحافظ
بدأت هذه المرحلة مع تأسيس مجموعة من قيادات وأعضاء حزب
الفضيلة الإسلامي المنحل في تأسيس حزب العدالة والتنمية، والذي يصف نفسه بأنه حزب
ديمقراطي محافظ، قامت عليه مجموعة من الشخصيات من تلاميذ نجم الدين أربكان؛ أبرزهم
عبد الله غل ورجب طيب
أردوغان.
منذ اللحظات الأولى كان الحزب الجديد يعلن أنه حزب
علماني محافظ يحترم مبادئ وأسس علمانية الدولة التركية الحديثة، ويحترم الحريات
الشخصية والدينية للأشخاص، وهو في هذا الطرح أقرب إلى طرح عدنان مندريس في
خمسينيات القرن الماضي، لكن فشل العسكر في الارتقاء بالدولة التركية، وخطاب أردوغان
المتصالح مع مبادئ الدولة العلمانية جعل العسكر عاجزين عن الاستمرار في مسلسل
الانقلابات ضد الديمقراطية.
كان الحزب حريصا كل الحرص على أن تنجح تركيا في أن تكون
جزءا من الاتحاد الأوروبي، وكانت قد تقدمت بطلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي منذ
عام 1989، وذلك للتمتع بالمكاسب الاقتصادية المترتبة على هذا الانضمام، ولوضع حد
للتدخل العسكري للجيش التركي في الحياة السياسية، والسماح ببناء نموذج ديمقراطي
يتفق مع مبادئ الاتحاد الأوروبي.
لكن لبعض الدول الأوروبية وخصوصا فرنسا موقف ممانع لانضمام
تركيا للاتحاد، وذلك لأسباب أهمها أن الاتحاد الأوروبي نادٍ مسيحي لا يسمح لدولة
ذات أغلبية إسلامية الدخول إليه، إضافة إلى بعض المواقف من القضية القبرصية
والموقف التركي من الأقليات وخصوصا الأقلية الكردية، وعدم رغبة دول الاتحاد أن تكون
لها حدود برية مع دول المشرق وخصوصا العراق وإيران وسوريا، وغيرها من الأسباب
الديمغرافية والاقتصادية.
كان يدرك حزب العدالة والتنمية العلماني المحافظ الوليد رغم
حرصه على ذلك؛ أن الانضمام للاتحاد الأوروبي ليس بالمهمة السهلة، لذلك عمد إلى أن
يكون مؤثرا في عمق الشرق، فكانت أول زيارة لرئيس الوزراء عن الحزب الوليد عبد الله
غل إلى سوريا، وكانت أول زيارة لطيب رجب أردوغان بعد تسلمه رئاسة الحكومة إلى السعودية
ومن ثم إلى سوريا وبعد ذلك إلى أوروبا.
كل ما كان على الأرض كان واضحا بأن تركيا تتجه في بوصلتها نحو الشرق، بعد أن يئست من المماطلة الغربية أو تحقيق شروط الاتحاد الأوروبي في الانضمام إليه، حينها بدأت تركيا في بناء علاقات وثيقة ومميزة مع دول المنطقة
أخذ المشروع
التركي الجديد في التوسع بالتوجه نحو الشرق، فأعلن داوود أوغلو، وزير خارجية تركيا
في عام 2009، أنهم يمثلون العثمانيين الجدد فقال: "إنهم
يقولون عنا إننا العثمانيون الجدد، نعم نحن العثمانيون الجدد، ونجد أنفسنا ملزمين
بالاهتمام بالدول الواقعة في منطقتنا، نحن ننفتح على العالم كله، حتى في شمال أفريقيا".
كل ما كان على الأرض كان واضحا بأن تركيا تتجه في بوصلتها نحو
الشرق، بعد أن يئست من المماطلة الغربية أو تحقيق شروط الاتحاد الأوروبي في الانضمام
إليه، حينها بدأت تركيا في بناء علاقات وثيقة ومميزة مع دول المنطقة وخصوصا سوريا
وقطر.
كانت السياسة التركية الجديدة وبتوجهها الجديد نحو الشرق تراهن على
بناء مشروع اقتصادي كبير للدولة التركية في المنطقة، يدفع الاقتصاد التركي والنهضة
التركية نحو مزيد من التفوق، مستفيدة من حالة الرفض العربي للمشروع الإيراني الطائفي،
فكان حضور تركيا للقمة العربية في عام 2008 في الخرطوم والقمة العربية في ليبيا في
عام 2010 كنوع من الحضور السني في مواجهة المشروع الإيراني في المنطقة.
جاء الربيع العربي فكانت هي الفرصة التاريخية التي حلم فيها قادة
تركيا الجدد؛ في ميلاد أنظمة قادمة من رحم الإسلام السياسي وقادرة أن تكون أكثر
استقلالية عن المشروع الأمريكي في المنطقة، ليتم بناء مشروع مشترك يخدم المصالح
التركية بشكل أكبر، فوجدنا انحيازا تركيا كاملا لثورات الربيع العربي حتى المسلحة
منها وخصوصا في سوريا، ودعم الأنظمة الإسلامية التي تولدت من الصندوق في دول
الثورات العربية، كما وجدنا موقفا تركيا حادا من الانقلاب على الربيع العربي وبداية
عصر الثورات المضادة، وعودة الأنظمة المتحالفة مع المشروع الأمريكي إلى الساحة
العربية.
قد تبدو الانتخابات التركية الأخيرة هي حالة من الاستفتاء على أي من المشاريع في إدارة العلاقة ما بين الشرق والغرب، فمشروع الحزب الحاكم بدأ واضحا أنه أكثر ميلا لتزعم المنطقة والدخول في مرحلة البحث عن النفوذ في منطقة الشرق والتنافس الواضح مع المشاريع الكبرى في المنطقة، من خلال إعادة تموضع علاقاته الدولية والتوجه نحو الشرق والتأثير فيه، متخذا من البعد الديني السني غطاء يمكن من خلالها أن يجعل المشروع التركي الأكثر قبولا لدى شعوب المنطقة
بعد انحسار الربيع العربي بدأ المشروع التركي أكثر
براغماتية وبدأت تظهر عليه معالم المشروع القومي التركي، فظهر التحالف بين الحزب
الحاكم المحافظ مع التيار القومي التركي، وأبدت تركيا
تحولات سياسية كبيرة حرصت من
خلالها على حماية مصالحها وتوسيع نفوذها في المنطقة، واستخدمت القوة العسكرية في
كل من ليبيا حيث مصالحها في سواحل البحر الأبيض المتوسط، ولتأمين حدودها في سوريا
ومحاولة القضاء على القوات الكردية، وانحازت لقطر في الأزمة الخليجية.
كما أخذت بالتحول نحو روسيا وإيران في المنطقة، وبدأت أكثر
انفتاحا على العلاقات مع الأنظمة التي ولدت من رحم الثورات المضادة، فتم إجراء
مصالحة وانفتاح مع النظام المصري ومحاولة ترميم العلاقة من النظام السوري، في محاولة
لإعادة الحالة إلى ما كانت عليه قبل الربيع العربي.
3- تدافُع في المشاريع
قد
تبدو الانتخابات التركية الأخيرة هي حالة من الاستفتاء على أي من المشاريع في
إدارة العلاقة ما بين الشرق والغرب، فمشروع الحزب الحاكم بدأ واضحا أنه أكثر ميلا
لتزعم المنطقة والدخول في مرحلة البحث عن النفوذ في منطقة الشرق والتنافس الواضح
مع المشاريع الكبرى في المنطقة، من خلال إعادة تموضع علاقاته الدولية والتوجه نحو
الشرق والتأثير فيه، متخذا من البعد الديني السني غطاء يمكن من خلالها أن يجعل
المشروع التركي الأكثر قبولا لدى شعوب المنطقة، والتحالف والتعامل مع الوضع القائم
بالنسبة للأنظمة التي نشأت بعد الربيع العربي، مما يساهم في توسيع مصالح تركيا في
المنطقة العربية.
المشروع التركي يبدو أكثر قبولا من القواعد الشعبية العربية، لتمثيله المكون السني في المشاريع الكبرى المتصارعة ولخطابه المحافظ الذي سمح بمزيد من الحريات الدينية للشعب التركي، وخطابه القريب من خطاب الإسلام السياسي الذي يحاول الأخير التمسك بهذا المشروع لضمان استمرار وجود النموذج على حكم الإسلام السياسي، وخاصة بعد ما حققه من نجاحات في نهوض الاقتصاد التركي. لكنه في النهاية مشروع لا يحلب في الصحن العربي
أما
مشروع التحالف المعارض لأردوغان فيبدو أكثر وضوحا في الرغبة بالعودة إلى حالة التغريب
والانحياز المطلق للمعسكر الغربي في التوجه السياسي وفي التحالفات الدولية، وإدارة
الظهر للشرق وصراعاته، وهذا ما يظهره حجم الدعم الإعلامي الغربي لمرشح المعارضة في
مواجهة أردوغان. لكنه أيضا مشروع لا يبدو أنه يريد أن يعود إلى الصيغة الأتاتوركية
الأولى ما قبل عام 2000 في محاربة الحريات الشخصية والحريات الدينية، ويتضح ذلك من
خلال انضمام
أحزاب دينية محافظة لهذا التحالف في مواجهة الحزب الحاكم.
بلا
شك أن المشروع التركي لا يخدم الدول العربية ولا شعوبها، فـ"المياه الغريبة
لا تدير الطواحين العرب"، لكنه أيضا ليس مشروع عدو للشعوب العربية، كما هو
المشروع الإيراني الذي ساهم في ذبح الربيع العربي ببُعد طائفي والعبث بأمن الدول
العربية ومحاولة خطف سيادتها.
المشروع
التركي يبدو أكثر قبولا من القواعد الشعبية العربية، لتمثيله المكون السني في
المشاريع الكبرى المتصارعة ولخطابه المحافظ الذي سمح بمزيد من الحريات الدينية
للشعب التركي، وخطابه القريب من خطاب الإسلام السياسي الذي يحاول الأخير التمسك
بهذا المشروع لضمان استمرار وجود النموذج على حكم الإسلام السياسي، وخاصة بعد ما
حققه من نجاحات في نهوض الاقتصاد التركي. لكنه في النهاية مشروع لا يحلب في الصحن
العربي ولا يعول عليه أي شيء في نهضة الأمة العربية وتقدمها، والتي تنتظر شعوبُها
ميلاد مشروعها العربي الكبير ليقود نهضتها.