أصوغ الأمر على شكل قاعدة علمية. أو بلغة
يقينية واثقة فالصورة التي بنيناها عن المثقف لا تتوافق مع
مواقف النخب التونسية
خاصة والعربية عامة بخصوص النضال من أجل الحريات والتمسك بها. كل التراث الإنساني
الأدبي منه والفني والسياسي تجعل الوعي والثقافة طريقا إلى الحرية وسبيلا للحفاظ
عليها.
لكننا بعد الربيع
العربي راقبنا ونراقب بعض مواقف النخب المثقفة فلا نجد
هذا السعي إلى الحرية. وقد اختبرنا في سياق مراجعات طويلة مصداقية من تحدث طويلا
عن الحرية وخانها بسرعة بما يقربنا من استنتاج كم نود أن يكون خاطئا أن المثقف
العربي ليس مثقفا فعلا لأنه ليس حرا. وإذ نقدم الاستنتاج على التحليل نطرح الأسئلة
الموجعة من يكون هذا المثقف؟ لماذا يستسهل التخلي عن حريته؟
متعلمون نعم لكن ليسوا مثقفين
نطلق قاعدة أخرى بلغة اليقين. بنت الدولة
العربية الحديثة نظاما تعليميا حديثا وخرجت متعلمين لكن عند كل هؤلاء الخبراء قدمت
الخبرة المهنية على التزامات العامة للمثقفين. في الحالة التونسية الأقرب إلى
ملاحظاتنا خرجت المدرسة التونسية كما من الأطباء والمهندسين والخبراء في شتى
المجالات ولمعت منهم أسماء كثيرة بخبراتها في الداخل والخارج. وتتواتر أحاديث كثيرة
عن نجاح في مجالات التعاون الفني (نرجح أن أغلبها تدخل في تمجيد الذات فالمقارنات
العلمية غير متوفرة). لكن كل هذه الخبرات ذات الصيت بدت لنا منعزلة عن الشأن العام
ولا تشارك في اتخاذ المواقف السياسية الحامية للحرية. بل بدت لنا منكبة على
نجاحاتها المهنية الفردية والقطاعية وكل نضالاتها (قبل الربيع العربي وبعده)
تمحورت حول تحصيل مكاسبها مستقوية دوما بنقابات شرسة.
وإذ نرسخ هذه الملاحظة نقول إننا لم ننتظر
أن يتخلى هؤلاء الخبراء (العلماء) عن كسب قوتهم وعن حماية مهنهم (فهذا حديث يدخل
تحت باب المزايدات أو الثورجية) لكن غلبة النضال القطاعي المتجه أساسا للكسب
المادي (الفردي والقطاعي) يظهر هؤلاء مهنيين فقط لا شاغل لهم إلا مكاسبهم المادية
الصرفة ومواقعهم الاجتماعية دون أدنى انشغال بوضع عام يعيشون داخله ويرتد عليهم
بالقوة.
الحرية مضرة بصحة الأطباء
ومن أمثلة ذلك ملك الطبيب التونسي في القطاع
الخاص سلطة وقوة مكنته من تحديد أجره بنفسه (بواسطة نقابات مدربة فقط على
المطلبية). فخلق ما يمكن تسميته بدولة أطباء الممارسة الحرة داخل القطاع الصحي.
وهو الوضع الذي خلق نظاما صحيا بسرعتين واحد للفقراء وآخر للأغنياء. وكانت نتيجته
انهيار الوضع الصحي العام. الذي لا يبدو الطبيب الممارس الحر مشغولا به إلا لكونه
يوفر له (مرضى إضافيين) يراهم غنائم زاحفة نحو مصحته.
الحرية تقوي النظام السياسي فيعامل القطاعات بحجمها الفعلي مسنودا بشعب حر لا بشعب مرعوب فإذا استقوى النظام بشعب حر ألزم الفردانيات القطاعية ونقاباتها حدود الدولة خادمة شعبها. هنا يظهر لنا استغناء المهني عن الحرية التي تقلل مكسبه الفردي فيوالي كل سلطة قاتلة للحرية لأنه يتحرك قطاعيا دون خشية أي رقابة عمومية أو شعبية.
في وضع حريات شامل يجادل في موقع الطبيب
وواجبه وحقوقه يتضرر الطبيب من كل نقاش حر يقلل من سلطته على الصحة العامة لذلك
يبدو في وضع مناقض للحرية فيحاربها. إن الحرية تضر بصحة الطبيب المادية فيختار أن
يكون مهنيا يناضل من أجل المزيد من المكاسب. (توجد دوما تلك الحالات الفردية التي
تؤكد بشذوذها قاعدتنا).
وعلى الأطباء يمكن أن نقيس المهندسين إذ
نراهم مقاولين صغار أو مجرد تقنيين عند مقاولين كبار يمهدون لهم سبل السيطرة على
قطاع البناء دون أن يطوروا موقفا مقاوما للوبيات العقارات وهو الموقف الذي ينتظر
منهم لجعل سوق العقارات في متناول الشرائح الدنيا.
هل المطلوب منهم أن يتوقفوا عن كسب أرزاقهم؟
هذه أيضا مزايدة سخيفة بلا معنى لكن تغول مضاربي العقارات جعل المهندس المعماري
مجرد خبير يستجدي راتبا عند مقاول دون أدنى انشغال بوضع الشرائح الاجتماعية التي
ينتمي إليها غالبا إنه تقني خبير بلا موقف إلا راتبا عاليا عند مقاول لا تمنح
الدولة مثله. وفي وضع حريات يلزم المضارب بحدود يخشى المهندس على راتبه العالي
فيصمت ويغنم.
إذا لم تتدخل الدولة أنا شو دخلني؟
يمكن أن نسمع هذه الجملة في كل نقاش عن دور
القطاعات المهنية (الفنية). يقول لك الطبيب والمهندس وحتى أستاذ الفلسفة وعلم
الاجتماع. لقد تخلت الدولة عن دورها في حماية الشرائح الهشة فكيف تطالبني بتعويضها
في ما هو من مهمتها الأصلية؟ هنا نكتشف المعادلات المقلوبة التي أودت بالحريات
وتحولت إلى مبررات معادية للحرية.
لم تتخل الدولة بل غلبت على أمرها من قبل
المهنيين في كل القطاعات. وهل تغلب الدولة؟ نعم الدولة المعادية للحريات هي دولة
هشة وليس بين يديها إلا قهر الضعفاء لكنها في مقابل قهر الضعفاء تستقوي باللوبيات
المنظمة. فتمنحهم امتيازات من بعض ما يحق لها احتكاره لتستقوي بتلك القطاعات على
احتمالات الاحتجاج الشعبي.
لقد صنعت الدكتاتورية لوبيات شرسة برشى مادية مقابل الولاء أو الصمت. إن الحريات مضرة بجيب النخب المهنية.
هذا بالضبط ما فعله بن علي وقبله نظام
بورقيبة مع لوبيات العقار ولوبيات الأطباء والمهندسين وكل قطاع مهني منظم وحتى نخب
الجامعة. لقد تخلى بن علي عن احتكار الدولة لتهيئة أراضي البناء بواسطة الشركة
العقارية العمومية فمنح الحق للمقاولين الذين ألهبوا أسعار العقارات مقابل إسناد
نظامه وتمويل حزبه. ومنح لأساتذة الطب استعمال المشفى العمومي بما في ذلك إطاره
شبه الطبي الذي تدفع الدولة أجوره لصالح البروفيسور الكبير (تحت تهديده بالانسحاب
من تعليم الطب). فتحول المشفى العمومي إلى مشفى خاص تصب عائداته في جيب الطبيب
وانهارت الخدمة الصحية العمومية.
مرة أخرى هل كان على هذه القطاعات أن تكون
ملكية أكثر من الملك أعني الرئيس؟ هنا يتميز المثقف عن المهني القطاعي الفرداني.
لو كان هذا المتعلم مثقفا (كما هي صورة المثقف في كل السرديات السياسية الناجحة
والتي لا شك أنه مطلع عليها). يسبق الإصلاح العام على المكسب القطاعي ففي نظام صحي
عمومي سليم يمكن للمهني أن يحصل مكاسب فردية ضمن مكسب عام شامل. وهذا الإصلاح
الشامل يقوم على الحرية أولا.
الحرية تقوي النظام السياسي فيعامل القطاعات
بحجمها الفعلي مسنودا بشعب حر لا بشعب مرعوب فإذا استقوى النظام بشعب حر ألزم
الفردانيات القطاعية ونقاباتها حدود الدولة خادمة شعبها. هنا يظهر لنا استغناء
المهني عن الحرية التي تقلل مكسبه الفردي فيوالي كل سلطة قاتلة للحرية لأنه يتحرك
قطاعيا دون خشية أي رقابة عمومية أو شعبية.
هنا (في بؤرة موت الحرية) ينتصر المهني على
المثقف فيكشف أولا هشاشة النظام التعليمي الذي لا يربي على سردية حريات ويكشف ضعف
الدولة الزبونية. ويقربنا من فهم تخلي المتعلمين (الخبراء) عن بناء دولة الحريات.
فنخرجهم من قائمة المثقفين إلى موقعهم الذين اختاروه خبراء متعلمين فقط.
لقد صنعت الدكتاتورية لوبيات شرسة برشى
مادية مقابل الولاء أو الصمت. إن الحريات مضرة بجيب النخب المهنية. لذلك فهي تتخلى
عن كل دور سياسي وتقف عند حدود مكاسبها وتفسح المجال لكل نهاز فرص وهو ما يلغى كل
احتمالات حرية ويفتح كل الأبواب على انهيارات متتابعة ستصل بالقوة إلى المهنيين
وما أزمة قطاع البناء إلا بعض مؤشرات الانهيار. فمن لم يؤمن بالحرية للآخرين لن
ينال ثمرتها لنفسه.