لمعرفة
التوجهات العامة لأي نظام وللوقوف عند حقيقة الأمور، سيكون من الصعب الاكتفاء
بالخطاب الرسمي القائم على "الأمثلة" عبر آليات الحجب والقمع والدمغجة،
ولكن سيكون من الصعب أيضا اختزال الواقع في سرديات المعارضة المُشيطنة للسلطة
الحاكمة والمركّزة على نقاط ضعفه دون غيرها. ولا يُمثل النظام
التونسي الحالي
استثناءً في هذه القاعدة.
ورغم
أهمية المواقف الدولية في توصيف أي نظام -بل في تقوية شرعيته ومشروعيته في الداخل
أو إضعافهما- فإن هذه المواقف لا يمكن أن تُحدد جوهر ذلك النظام؛ بقدر ما تعكس
تأثير شبكات معقدة من المصالح المادية والرمزية ومن توازنات القوة والرهانات
الجيو-استراتيجية التي تتحكم واقعيا في سياسات القوى الدولية، بصرف النظر عن
ادعاءاتها الحقوقية ومزايداتها في حماية الديمقراطية.
منذ
أن أعلن الرئيس التونسي عن إجراءاته يوم 25 تموز/ يوليو 2021، بدا أن الموقف
الغربي يميل إلى تفهم الواقع السياسي الجديد، كما كان واضحا أن القوى الغربية -أي
الاتحاد الأوروبي وأمريكا- لا تنوي التصعيد أو عدم الاعتراف بالنظام الجديد. فرغم
بعض البيانات المحذرة من الانحراف الاستبدادي والمتباكية على المخاطر المهددة
للحريات العامة والخاصة في تونس، فإن تلك "المسافة النقدية" لم تمنع
القوى الغربية من الاعتراف بالنظام الجديد؛ رغم أنه واقعيا قد أنهى "التجربة
الديمقراطية التونسية الرائدة"، ورغم هيمنة الرئيس على كل السلطات بعيدا عن
المنطوق والمفهوم من الفصل 80 من الدستور، وهو ما تأكد بعد ذلك بحل مجلس النواب
وتتبع الكثير من أعضائه قضائيا، وغير ذلك من القرارات الرئاسية التي حوّلت
"حالة الاستثناء" إلى مرحلة انتقالية تؤسس لجمهورية "جديدة" من
جهة الدستور والنظامين السياسي والانتخابي.
رغم أهمية المواقف الدولية في توصيف أي نظام -بل في تقوية شرعيته ومشروعيته في الداخل أو إضعافهما- فإن هذه المواقف لا يمكن أن تُحدد جوهر ذلك النظام؛ بقدر ما تعكس تأثير شبكات معقدة من المصالح المادية والرمزية ومن توازنات القوة والرهانات الجيو-استراتيجية التي تتحكم واقعيا في سياسات القوى الدولية، بصرف النظر عن ادعاءاتها الحقوقية ومزايداتها في حماية الديمقراطية
يتباهى
الكثير من أنصار "تصحيح المسار" في تونس بقدرة النظام القائم على رفض
"الإملاءات" و"التدخلات" الخارجية في الشأن الوطني، وهو موقف
ينبني على توهّم قدرة بلادنا -الفاقدة لشروط السيادة اقتصاديا وثقافيا.. الخ- على
أن تفرض منطقا جديدا في العلاقات الدولية، كما أنه ينبني على توهّم وجود ضغط غربي
حقيقي على النظام التونسي، وقدرة هذا الأخير على "الممانعة" أو
"المقاومة" في إطار سردية "حرب التحرير الوطني" التي أصبحت
تمثلا ثابتا من ثوابت الخطاب الرئاسي.
ورغم
أنّ الرئيس يوظف استعارة "حرب التحرير الوطني" أساسا لشرعنة سياساته ضد
خصومه المتهمين بـ"التآمر على أمن الدولة"، وكذلك ضد
"اللوبيات" الإدارية والمالية المتهمة بتعطيل سياسات الدولة والتآمر على
أقوات المواطنين، ورغم حرص الرئيس على عدم مواجهة الكارتيلات العائلية المتحكمة في
الاقتصاد التونسي، وكذلك حرصه على عدم تعديل
القوانين ذات الصلة بواقع التبعية
الثقافية والاستعمار الاقتصادي، ورغم تقارب تونس مع "محور الثورات
المضادة" وعرّابي "صفقة القرن" وقبولها بأن تبقى قاعدة متقدمة
لحماية المصالح الفرنسية في المنطقة (عبر بوابة المنظمة الدولية للفرنكفونية)، فإن
"الصادقين" من أنصار تصحيح المسار يؤمنون بوجود مشروع حقيقي لبناء
مقومات السيادة وللتحرر الوطني.
لبيان
النفاق الغربي في مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان، قد لا نحتاج إلى التذكير
بالتاريخ الاستعماري لأغلب دوله، كما لا نحتاج إلى التذكير بـ"غزواته
الصليبية" في العراق وأفغانستان وغيرهما، أو التذكير بدعمه اللا مشروط للكيان
الصهيوني ضد كل القرارات الدولية. فنحن هنا سنكتفي بموقف الغرب من الانقلاب
العسكري المصري، وموقفه من عمران خان الذي أُسقط لرفضه الانحياز إلى الموقف
الأمريكي من الحرب الروسية الأوكرانية، وموقف الغرب من الأحداث الجارية في غرب أفريقيا
وسعي دوله إلى التخلص من النهب الفرنسي، خاصة الموقف من النيجر. فالديمقراطية لم
تكن يوما مطلبا غربيا حقيقيا، بل كان مطلب الغرب دائما هو وجود أنظمة تابعة وقادرة
على حماية مصالحه في إطار استقرار سياسي يضمن استمرار علاقات التبادل اللا متكافئ
والنهب الممنهج للثروات المادية والبشرية (هجرة الأدمغة).
رغم
أننا لا نذهب إلى حد القول بأن مواقف المنظمات الحقوقية والهيئات التشريعية (مثل
البرلمان الأوروبي أو حتى الكونغرس) تدخل في إطار تقاسم الأدوار بين الأنظمة
وملحقاتها "الوظيفية" في مشاريع الهيمنة -رغم استقلاليتها الصورية-
فإننا نرى أن السياسات الرسمية الغربية لا تتأثر إلا قليلا بمواقف مجتمعاتها
المدنية وهيئاتها التشريعية.
إن
التعبير عن "القلق" أو عن "المخاوف" من الانحراف الاستبدادي
للسلطة، والدعوة إلى احترام حقوق الإنسان أو إطلاق المساجين وعودة الديمقراطية
والحوار الوطني؛ هما مجرد شعارات صالحة للاستهلاك الغربي الداخلي وهدفها أخذ مسافة
خطابية (لا حقيقية) من بعض الممارسات التي قد تُحرج الأنظمة الغربية أمام الرأي
العام، ولكنها شعارات لا أثر لها في بناء السياسات الغربية المرتبطة أساسا
بالمصالح الاقتصادية لا بالقيم الكونية كما يدّعون.
لو
عدنا إلى سردية "حرب التحرير الوطني" فإننا قد نعذر أنصار تصحيح المسار
في تصديقها. ولا يعني ذلك أننا نوافق أصحاب هذا الرأي، ولكننا نعتبر أنه رأي ذو
معقولية معينة. فالرئيس التونسي قد فعل ما لم يفعله سابقوه، فهو قد رفض علنا
التدخل الخارجي وسفّه تصنيفات المؤسسات المالية الدولية، وهو ماض في استكمال
مشروعه السياسي وفي تركيز النظام الرئاسوي وضرب الأجسام الوسيطة رغم كل الانتقادات
الغربية.
رغم أهمية المواقف الدولية في توصيف أي نظام -بل في تقوية شرعيته ومشروعيته في الداخل أو إضعافهما- فإن هذه المواقف لا يمكن أن تُحدد جوهر ذلك النظام؛ بقدر ما تعكس تأثير شبكات معقدة من المصالح المادية والرمزية ومن توازنات القوة والرهانات الجيو-استراتيجية التي تتحكم واقعيا في سياسات القوى الدولية، بصرف النظر عن ادعاءاتها الحقوقية ومزايداتها في حماية الديمقراطية
ونحن
هنا أمام واقع يحتمل تأويلين؛ أما التأويل الأول فهو تأويل أنصار "تصحيح
المسار" الذي أثبتنا أعلاه (وجود مشروع تحرير وطني حقيقي)، وأما التأويل
الثاني الذي نذهب إليه فهو أن سردية التحرير الوطني ليست إلا آلية من آليات إعادة
هندسة المشهد السياسي الداخلي بموافقة غربية. فكيف يمكن أن نتحدث عن مشروع تحرير
وطني يهدد المصالح الغربية أو يبشر بانبثاق علاقات مختلفة مع الخارج؛ وهو متحالف
مع فرنسا وإيطاليا (أي مع أنظمة يمينية استعمارية) ومع محور الثورات المضادة (أي
مع محور التطبيع مع الكيان الصهيوني) من جهة علاقاته الخارجية، ومتضامن أو مطبّع
مع النواة الصلبة للمنظومة القديمة من جهة ركائز الحكم الداخلية؟
واقعيا،
يبدو أن تمرّد تونس الحقيقي لم يكن يوما -وقد لا يكون أبدا- على القوى/ الهيئات
الدولية المتداخلة في الشأن التونسي (مثل أوروبا أو أمريكا أو الهيئات المانحة)،
بل هو تمرد على النظرية القائلة بعُلوية القانون الدولي على القوانين الوطنية،
خاصة فيما يتعلق بالحريات والحقوق الفردية والجماعية. وقد جاء البلاغ المشترك لوزراء
الداخلية والعدل وتكنولوجيا الاتصال ليؤكد هذا الواقع، فرغم تراجع تونس سنة 2022 بـ21
مرتبة في تصنيف مراسلون بلا حدود المتعلق بحرية الصحافة، فإن النظام لم يجد حرجا
في إصدار المرسوم عدد 54 المؤرخ في 13 أيلول/ سبتمبر 2022 والمتعلق بمكافحة
الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال. وهو مرسوم قد أكدت العديد من المنظمات
الدولية -بما فيها منظمة آكسس ناو (Acces Now) التي استفدنا منها في بعض
المعطيات- على
تعارضه في بعض أحكامه الخاصة بالتعرض للموظفين العموميين مع دستور 2022 ذاته، ومع
التعليق العام رقم 34 لسنة 2011 للأمم المتحدة الذي يقول: "ينبغي ألا تنص
القوانين على فرض عقوبات أشد صرامة على أساس هوية الشخص المطعون فيه"، كما
يتعارض من جهة عدم التدقيق والضبابية مع التعليق العام رقم 34 لسنة 2011 الصادر عن
اللجنة المعنية بحقوق الإنسان التي أكدت على ضرورة سن القوانين "بدقة كافية
لكي يتسنى للفرد ضبط سلوكه وفقا لها".
فكيف
يمكن ضمان
حرية التعبير في وضع سياسي واقتصادي مأزوم؟ وكيف يمكن منع تحول السلطة
التقديرية للأجهزة التنفيذية والقضائية إلى أداة لضرب الحقوق الأساسية وقمع أي نفس
معارض؟ بل كيف يمكن بناء حقل سياسي طبيعي في ظل مراسيم يحكمها منطق "حالة
الاستثناء"؟
twitter.com/adel_arabi21