تتناول هذه الورقة حدثا يمكن اعتباره
أحد أهم أحداث القرن، وربما لا يوازيه إلا حدث 11 من أيلول / سبتمبر 2001 في
الولايات المتحدة، أو حدث الثورات العربية أو الربيع العربي، ويتعلق الأمر بطوفان
الأقصى والعدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع
غزة.
تسعى هذه الورقة بعد إطلالة على الحدث
في ذاته، لفهمه ضمن سياقه الاستراتيجي، ومن ثم لتناول آثاره الاستراتيجية ضمن
المعادلة الدولية. ومن هناك، تسعى للنظر في السيناريوهات الممكنة المنجرة عنه، ثم
الترجيح بين تلك السيناريوهات. وأخيرا، تنظر الورقة في السيناريوهات المتعلقة بردود
الفعل الممكنة أو المستوجبة في العالم الإسلامي.
تعدّ الورقة أن طوفان الأقصى:
ـ حدث استراتيجي في جوهره ومآلاته، وأنه
سيغير بالضرورة من المعالم المادية والسياسية والرمزية للمنظومة الدولية.
ـ أن الحدث كشف عن وحشية المنظومة
الغربية والخلل في منظومتها الأخلاقية، وأنه يفتح فرصة للإسلام كي يساهم في إصلاح
الأخلال التي تعاني منها البشرية.
تعدّ الورقة أن هناك ثلاثة سيناريوهات
ممكنة لهذا الحدث، هي: سيناريو الالتفاف والتصدي، وسيناريو الاستيعاب، وأخيرا سيناريو
الفوضى. وترجح الورقة السيناريو الثالث؛ أي
سيناريو الفوضى الذي يقتضي عجز الفاعلين الدوليين عن فرض أجندة تحكم في العالم؛ أكان ذلك من قبل المنظومة الغربية أو المنافسين لها؛ أي الصين أو روسيا أو القوى
الإقليمية الصاعدة.
وفي ما يخص العالم الإسلامي، تعدّ الورقة أن من الخيارات المفتوحة للمسلمين في العالم، التراوح بين الرد على
التطرف بتطرف مماثل، أو البحث عن تحالفات بديلة مع الشق الشرقي الصيني أو الصيني
والروسي، أو التعويل على مواصلة المقاومة والانتصار للقيم الإسلامية المتحالفة مع
القيم الإنسانية العادلة.
تعد الورقة أن الخيار الأنسب للأمة
هو الخيار الثالث، بما هو خيار أقرب للإسلام، وأقل تكلفة وأضمن من حيث إمكانية تحقق
مخرجاته المقصودة والمطلوبة.
طوفان الأقصى، الحدث:
مثل طوفان الأقصى حدثا توقف العالم
أمامه منبهرا وخائفا في الوقت نفسه، وهي حالة تذكر بالحالة النفسية التي مر بها
خلال أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر، كما وقف مشدوها أمام حدث الثورة في
العالم العربي.
ما الذي وقع في السابع من أكتوبر؟
في 7 أكتوبر (تشرين الأول)، شنَّت
كتائب القسام ما وصف بأنه أعنف هجوم عسكري على إسرائيل على الإطلاق.
لا أحد كان يتوقع أن تتمكن المقاومة
الفلسطينية ومن ثم الفلسطينيون المحاصرون في غزة من مهاجمة إحدى أعتى القوى في
العالم، والدخول لحصونها والتحرك فيها لما يقارب الساعات الست والأسر من سكانها
وجنودها، وقتل عدد منهم دون رد ولا مواجهات خلال حالة الشلل شبه التام الذي عاشه
الكيان، ونقلته كاميرات المقاومة ووسائل التواصل الاجتماعي.
يعكس هذا الهجوم سنوات من التخطيط
والتدريب والتدرُّب من قبل ألوية عز الدين القسام.
تثير الحرب على غزة اهتماما دوليا كبيرا، وتؤثر في الرأي العام والسياسات في العديد من الدول الغربية. وكذلك حول العالم. ويمكن القول بأنه ولأول مرة، في التاريخ الحديث، تخسر إسرائيل المبادرة، ليس فقط في الحرب الميدانية، بل كذلك المبادرة في حرب "البروباغندا" والتحكم في الرأي العام، وهذا تحول استراتيجي سيكون له لامحالة آثار على أرض الميدان، وإن بعد أمد.
بادر الكيان الصهيوني، بحسب عدد من
وسائل الإعلام الإسرائيلي، وبعد حالة الشلل التي أصابته، بردة فعل مباشرة قتل فيها العديد من المستوطنين
المدنيين وعدد من أفراد المقاومة والفلسطينيين، الذين استغلوا حالة الفراغ الأمني
لاقتحام الأراضي المحتلة. وسارع مع ذلك لصناعة سردية تجرم حركة حماس، باعتبار أنها
قتلت المدنيين والرضع.
وتحت غطاء هذه السردية التي يسعى
لفرضها على العالم، شنت إسرائيل حربا شاملة على قطاع غزة تحت غطاء الدفاع عن النفس، وذلك من خلال العديد من الأعمال العسكرية، بما في ذلك الحصار الكامل لغزة واستهداف
شامل للشعب الفلسطيني ولمقومات حياته في القطاع المحاصر، مما أدى إلى القتل "الجماعي"
لعدد لا يُحصى من المدنيين وجرائم لم تتوقف، وهو في كل ذلك مدعوما في ذلك بالمنظومة
الغربية المرتبكة بقيادة الولايات المتحدة.
الأسباب والسياق:
لماذا قامت حماس بهذا النوع من الهجمات
غير المسبوقة، ولماذا الآن؟
يمكن رد العمل لعدد من الأسباب منها:
ـ الرد على دخول المستوطنين
الإسرائيليين إلى المسجد الأقصى في القدس.
ـ سوء معاملة الفلسطينيين على نطاق
واسع في الضفة الغربية والقدس الشرقية وإساءة المعاملة من قبل قوات الأمن
الإسرائيلية، من خلال الغارات
العدوانية في مدن الضفة الغربية الرئيسية والأعمال
العنيفة والمدمرة للمستوطنين الإسرائيليين.
ـ التعبير عن الغضب تجاه كل الجرائم
التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني.
ـ ردع الكيان الصهيوني.
ـ مواصلة فعل المقاومة على الأرض في
اتجاه التحرير.
مقابل ذلك ما هي أهداف إسرائيل من ردة
فعلها العنيفة؟
كشفت تقارير إسرائيلية ومراكز بحثية عن
الخطوط العريضة لأهداف الحرب الإسرائيلية: ويمكن إجمالها في يلي:
ـ تدمير القدرات العسكرية لحركة حماس، وفي الحد الأدنى تقليل قدرة حماس على شن هجمات مستقبلية، وهذا يشمل تدمير المنشآت
العسكرية والصواريخ والبنية التحتية المرتبطة بالحركة.
ـ إنهاء سيطرة حماس على القطاع بشكل
قاطع.
ـ استعادة الثقة في الأمن والأمان:
استعادة ثقة المواطنين الإسرائيليين في قدرة حكومتهم وجيشهم على توفير الأمان لهم.
ـ استعادة المبادرة على الميدان وترميم أو إعادة بناء الصورة والسردية.
ـ إعادة تأسيس قوة الردع الإسرائيلية
بنظر الأصدقاء والخصوم في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
تأثيرات الحرب على الرأي العام وسياسات
الدول الغربية:
للحرب آثار جيوسياسية كبيرة على
المنطقة والعالم، حيث تفاعل الفاعلون المختلفون بشكل مختلف مع الأزمة.
ـ تثير الحرب على غزة اهتماما دوليًا
كبيرا، وتؤثر في الرأي العام والسياسات في العديد من الدول الغربية. وكذلك حول
العالم، ويمكن القول بأنه ولأول مرة، في التاريخ الحديث، تخسر إسرائيل المبادرة لا
فقط في الحرب الميدانية، بل كذلك المبادرة في حرب "البروباغندا" والتحكم
في الرأي العام، وهذا تحول استراتيجي سيكون له لا محالة آثار على أرض الميدان، وإن
بعد أمد.
ـ تشكل صورة المآسي الإنسانية
والاقتصادية للقطاع تحديًا للمجتمع الدولي، من حيث قيمه الإنسانية وقوانينه، وقد
تؤدي إلى تغيير في الدعم والمواقف السياسية الداعمة للصهيونية ولإسرائيل في
العالم، كما تفتح المجال لقلب هذا الدعم لاتجاهات أخرى منها دعم قضية الشعب
الفلسطيني.
ـ كشفت الحرب عن هشاشة عملية السلام
التي تدعمها الولايات المتحدة واتفاقات إبراهام، التي تهدف إلى تطبيع العلاقات بين
إسرائيل وبعض الدول العربية التي اضطر عدد منها، لإدانة ما فعله الكيان الصهيوني
مثل البحرين والمغرب والسودان.
ـ أربكت الحرب العلاقة بين الولايات
المتحدة وحلفائها، مثل فرنسا وألمانيا، الذين دعوا إلى وقف إطلاق النار فورا، وانتقدوا استخدام إسرائيل للقوة بشكل غير متناسب، خلقت فرصا جديدة للحوار والتعاون بين بعض اللاعبين الإقليميين، مثل مصر
وقطر وتركيا، الذين أدوا دور الوسيط بين إسرائيل وحماس، وقدموا المساعدات
الإنسانية لغزة.
ـ كما أن هذه الدول زادت من نفوذها
وسمعتها في العالم العربي والإسلامي، حيث أظهروا التضامن والدعم للقضية الفلسطينية، وذلك على حساب الدول التي توسع نفوذها مع المنظومة الغربية من خلال قيادتها لمسار
التطبيع.
ـ تكشف الحرب عن دور الصين في الشرق
الأوسط، حيث انتقلت من كوقع مراقب محايد إلى داعم نشط للفلسطينيين، إذ استخدمت
الصين موقعها كعضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للضغط من أجل قرار
يدعو إلى وضع حد للعنف وحل الدولتين. كما اقترحت استضافة محادثات سلام بين إسرائيل
وفلسطين، وتقديم المساعدة الاقتصادية والفنية لإعادة إعمار غزة، كما
أن للحرب آثارا على الاقتصاد العالمي، حيث إنها عطلت التجارة والسياحة وتدفقات
الطاقة في المنطقة.
ـ وفتحت الحرب مجالا لحرب إقليمية ذات
آثار دولية، من خلال إمكانية توسعها بتدخل ما "جبهة المقاومة"، أي إيران وحزب الله في لبنان والحوثيين في
اليمن، مع إمكانية إعادة تحريك رقعة الحرب في سوريا، وربما جبهة الجولان إذا لم
تتوسع أكثر في اتجاه العراق مع نقاط توتر أخرى حول العالم، وهو ما يدعم الثقل
الديبلوماسي الإيراني في المنطقة، ويجعلها مخاطبا من المنظومة الدولية مقابل ضعف
دول الخليج، وضعف بل وتهميش الدور التركي.
كشفت الحرب عن هشاشة عملية السلام التي تدعمها الولايات المتحدة، واتفاقات إبراهام التي تهدف إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وبعض الدول العربية، التي اضطر عدد منها لإدانة ما فعله الكيان الصهيوني، مثل البحرين والمغرب والسودان.
ـ كما أنها جرت الولايات المتحدة
للتدخل عسكريا وبشكل مباشر في منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي يبدو مخالفا
للاستراتيجية التي تسعى الولايات المتحدة للالتزام بها، من خلال التعويل على شركاء
في مناطق التدخل عوض الوجود المباشر فيها.
وعلى المستوى الفلسطيني، فإن هذه الحرب
التي شنتها إسرائيل على غزة قد هدمت البنية التحتية لغزة، وجعلت منها منطقة منكوبة
بحيث يصعب على أي طرف أن يحكمها باستقلال عن الإرادة الإقليمية والدولية، في
المرحلة التي تتلو إيقاف العمليات الميدانية، وهذا يطرح على حماس والمقاومة
الفلسطينية مجموعة من التحديات بخصوص الطبيعة السياسية لإدارة استحقاق إعادة إعمار
غزة.
وهنا تطرح مجموعة من السيناريوهات
بخصوص المخرجات الممكنة لهذه الحرب بخصوص وضع كتائب القسام أولا، وحركة حماس ثانيا
وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة وبقية الأراضي المحتلة:
ـ بقاء حماس على قيادة غزة وحكمها
ـ خروج حماس من المعادلة السياسية
كليا، وإعادة احتلال غزة، أو تسليم الحكم للسلطة الفلسطينية، أو تسليم السلطة لقوى
دولية.
ـ الاتفاق على مرحلة انتقالية يحكمها
تكنوقراط في نوع من الحكم الذاتي؛ استعدادا لانتخابات عامة في الأراضي الفلسطينية
(أي غزة والضفة الغربية).
ـ مواصلة الحرب وتوسيعها في بقية
الأراضي الفلسطينية.
أما على مستوى المعركة الميدانية، فالواضح أنها حسمت من حيث عدم إمكانية تحقيق انتصار عسكري من قبل الكيان الصهيوني.
بمعنى إقناع الفلسطينيين بعدم جدوى المقاومة، وإنهاء إرادة التحرر لديهم. واضح أن
الحسم العسكري غير ممكن ولم يبق إلا إشفاء غليل الانتقام لدى الكيان وحلفائه، ومع
ذلك فمن البيّن أن ثمن هذا الانتقاء يثقل كلما تورط الكيان أكثر في جرائمه.
من السابق لأوانه تقديم أي توقعات في
هذا الخصوص، إلا أنه بالإمكان القول بأن حدثا عظيما حصل، وأن هذا الحدث قد ضرب صورة
هيمنة الكيان الصهيوني وقوته وقدرته وعدم إمكانية هزمه، وهذا لا يمكن استعادته، بل
فشل الجيش الصهيوني في جميع أوجه هذه الحرب من حيث القدرة العسكرية
و"البروباغندا" المصاحبة لها، وهذه تحولات بدأت ويصعب أن تقف، ولا يمكن
الحسم بالقول بأنها ستؤدي لانتصار مباشر.
من الواضح كذلك أن الطرف الذي سيكون
أحرص على إيقاف الحرب وإنهائها، والمرور في أسرع وقت للتفاوض السياسي والمناورة على
الطاولة من أجل تحقيق انتصار يستحيل على الميدان، هو الولايات المتحدة والمنظومة
الغربية الداعمة له ومعهم الكيان الصهيوني.
ولذلك، نقدر أن إسرائيل وحلفاءها
سيستعملون الحرب بأبشع جرائمها، لا من أجل تحقيق انتصار ميداني، بل انتصار سياسي
يمكنهم من صناعة سرديتهم بعد الحرب، ومن ثم فرض تحقيق الأهداف التي يصعب، إن لم
نقل، يستحيل تحقيقها على الميدان.
ومن جهة أخرى، فإن المقاومة الفلسطينية
حسب ما يبدو، ومن خلال قراءة لفعلها
العسكري الميداني المقاوم، قد استعدت لحرب طويلة ومعركة أطول.
واضح كذلك أن جميع الأطراف مدركة لمجمل هذه الحقائق.
تمثل حالة الوضع الإنساني نقطة ضغط على
الفلسطينيين، وهو ما تضغط به المنظومة الغربية من خلال الخنجر الإسرائيلي.
لا أحد قادر على تخمين قدرة
الفلسطينيين على المقاومة والصبر ولكن واضح ان اسرائيل لم تترك لهم مجالا غير
مطاولة الصمود.
ستعمل إسرائيل وحلفاؤها على استهداف
الحاضنة الاجتماعية للمقاومة.
كما ستسعى لضرب نموذج حماس، التي تمكنت
من الاستقرار في حكم غزة لأكثر من عقد، ومن هناك إنتاج حالة مقاومة نموذجية.
نقدر أن إسرائيل وحلفاءها سيستعملون الحرب بأبشع جرائمها، لا من أجل تحقيق انتصار ميداني، بل انتصار سياسي يمكنهم من صناعة سرديتهم بعد الحرب، ومن ثم فرض تحقيق الأهداف التي يصعب، إن لم نقل، يستحيل تحقيقها على الميدان.
ربما تسعى إسرائيل للوصول لفتح ما
سيسمى معبرا آمنا للفلسطيين، وربما لقيادة حماس، لتهجيرهم لبعض الدول العربية، بما يشبه
ما وقع لها بعد إخراجها من لبنان في اتجاه تونس، وذلك من خلال الضغط على قطر
وتركيا، بالطبع يفتح هذا السيناريو لتحويل إيران كحاضن أساسي لقوى المقاومة، وهنا
يمكن أن تلجأ المنظومة الغربية لاتفاق تحت الطاولة مع إيران، إما على حساب المملكة
العربية السعودية التي يمكن ترضيتها، أو الضغط عليها.
تتموقع الصين اليوم في منطقة المتدخل
القادر على فرض جلوسه على الطاولة، وتعقيد عمل وجهد وأجندة الطرف الغربي، وربما
يفتح هذا أفقا، وإن تكتيكيا، لكل من المدخلين بحسب تطور الصراع، أي إيران أولا
وتركيا، وربما المملكة العربية السعودية
في الاستتباعات الاستراتيجية لطوفان
الأقصى، الحدث الفلسطيني يعيد التوجهات الاستراتيجية الكبرى.
يأتي الحدث الفلسطيني في سياق دولي
حساس، من حيث علاقته المباشرة بالاستراتيجية الأمريكية في العالم.
وذلك أن الاستراتيجية الدولية التي
تقودها الولايات المتحدة، أصبحت تقوم على منع الصين من بلوغ مرتبة التفوق على
الولايات المتحدة، التي وإن قبلت بكون الصين نجحت في أن تصبح منافسا لها في قيادة
العالم على المستوى الاقتصادي، فإنها تسعى لمنعها من بلوغ حد يسمح لها بالتفوق
عليها اقتصاديا ومنافستها عسكريا. ولذلك، فهي تعتمد على سياسة قوامها حصار الصين، وعلى إضعاف قدراتها، مع تجنب الدخول معها في صراع مباشر والعمل على تحقيق التفوق
عليها، وفي الحد الأدنى تصدر قيادة العالم، وإن بالشراكة مع الصين
أو قوى أخرى حليفة وغير منافسة.
من اللافت للانتباه، أن الإدارة
الامريكية في آخر تقرير استراتيجي لمخابراتها المركزية سنة 2022، صدرت تقريرها تحت
عنوان "تنازع أكثر حول العالم"، في حين صدرت التقرير الذي سبقه سنة 2017
بعنوان "أوائل ضمن متساوين"، وهذا يبين منحى الصراع في السياسة التي قدرت أن العالم ماض إليها.
يمكن تلخيص استراتيجية حصار الصين في
الخطوط التالية:
تعتمد الولايات المتحدة في
استراتيجيتها على دوائر ثلاث على الأقل:
ـ الدائرة الأولى شرق آسيا.
ـ الدائرة الثانية شرق أوروبا.
ـ الدائرة الثالثة الشرق الأوسط.
تنقسم دائرة شرق آسيا لمساحتين؛ جنوب
شرق آسيا وبه أستراليا ونيوزلاند وهما تابعتان للمنظومة الغربية، وقيمتهما بالنسبة
لها هي أساسا عسكرية وأمنية. وكذلك منطقة "الماليه" (بروناي، وتيمور
الشرقية، وغينيا الجديدة، والفلبين وسنغافورة وماليزيا وإندونيسيا). أما المساحة
الثانية، فهي شمال شرق آسيا، وهو يتكون من كل من اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان.
تعد هذه المساحات من أهم دوائر الاهتمام الاستراتيجي بالنسبة للولايات المتحدة؛ بما أنها تمثل مساحة التوسع المباشرة للنفوذ الصيني، وأول جبهات التصادم في النفوذ
التجاري والعسكري.
تتمثل الدائرة الثانية في أوروبا، وخاصة
أوروبا الشرقية، التي من خلالها سعت وتسعى الولايات المتحدة منذ سقوط الاتحاد
السوفياتي لتوسيع مساحة حلف الناتو على حساب روسيا، وذلك أن الولايات المتحدة تعمل
على الحفاظ على روسيا ضعيفة وغير قادرة على استعادة موقعها الدولي، أو على الدخول
في تحالف مع الصين، ولذلك فهي تسعى لإضعافها من خلال توريطها في حرب طويلة، ووضعها
في موقع الدفاع عن النفس، لا موقع التوسع، ما يؤدي لإرهاقها اقتصاديا وسياسيا، ومن ثم عجزها عن استعمال قدراتها العسكرية والتجارية في استعادة دورها الاستراتيجي في
العالم، أو في التحالف مع الصين. وفي الوقت نفسه دفع أوروبا للتخلي عنها كشريك تجاري، خاصة في مجال الطاقة والتعويل مقابل ذلك على الولايات المتحدة في اقتناء الغاز
السائل، بالإضافة لتعويلها عليها في تأمين حدودها ومصالحها الاستراتيجية.
أما الدائرة الاستراتيجية الثالثة التي
تشتغل عليها الولايات المتحدة، فهي تتمثل في منطقة الشرق الأوسط، بما فيها المنطقة
الأثرى في العالم، من حيث تجمع الثروات النفطية، ومن حيث موقعها في طرق التجارة
الدولية.
في سنة 2013، أعلنت الصين عن مبادرة
استثمارية ضخمة تحت عنوان مبادرة الحزام والطريق، أو ما يوصف بطريق الحرير الجديد.
وطرح المشروع على أساس أنه ربط مباشر بين آسيا وأوروبا، ثم توسع ليشمل أفريقيا
وأمريكا اللاتينية. تسعى الصين أن يشمل مشروعها الضخم قرابة مائة وسبع وأربعين دولة
حول العالم، بما يشمل ثلثي سكان الكرة الأرضية.
تعاملت الولايات المتحدة ومعها
المنظومة الغربية وحلفاؤها مع هذا المشروع، على أساس أنه مشروع للهيمنة الاقتصادية
الصينية على العالم، وبادرت بناء على ذلك لطرح مشروع الاتفاق الاقتصادي الإطاري
لمنطقة المحيط الهندي والمحيط الأطلسي، وهو يجمع قرابة أربعين بالمائة من الاقتصاد
العالمي، بينما طرح الاتحاد الأوروبي مباردة البوابة الدولية، وأخيرا خلال قمة
العشرين الكبار في شهر أيلول/سبتمبر من هذه السنة 2023، بادرت الولايات المتحدة لطرح
مشروع الممر التجاري الرابط بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، وتم الاحتفال بتوقيع
الاتفاقية التي شاركت فيها كل من الولايات المتحدة والهند، والمملكة العربية
السعودية والإمارات العربية المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي.
لم تكن إسرائيل من الموقعين على نص الاتفاقية، إلا أنها تعد مكونا أساسيا للمشروع؛ باعتبارها مكونا أساسيا بحسب الإدارة الامريكية لمنطقة الشرق الأوسط.
وسيربط الممر المخطط له، الهند والمملكة
العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والأردن وإسرائيل والاتحاد الأوروبي
من خلال موانئ الشحن وطرق السكك الحديدية، في محاولة لجعل التجارة أسرع بين الهند
وأوروبا بنسبة 40% وأرخص، وتعزيز التعاون الاقتصادي والاتصال الرقمي عبر المنطقة،
كما تسعى لتطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول الخليج، وهو ما كانت الإدارة الأمريكية
تسعى لتحقيقه، أكان ذلك في زمن ترامب أو بايدن.
تمثل هذه المبادرة خطا موازيا ومنافسا
لممر البنية التحتية الضخم في الصين، مشروع الحزام والطريق، الذي يمتد حاليا عبر
آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، الذي من المفروض أن يسمح للصين باكتساب نفوذ
كبير، خاصة على البلدان التي تعاني من اقتصادات متعثرة.
ربما يمثل هذا الخط التجاري أهم خطوط
الهجوم التي تعمل عليها الولايات المتحدة ضد الصين، وذلك أن نجاحها في إقامته تعني
عمليا تهميش الصين عالميا لصالح الهند، وهي المنافس الكبير للصين من حيث حجم السوق
والقدرة على الإنتاج، كما أن موقعها الجغرافي يعد أهم من الصين من حيث قربها من
منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا والأمريكيتين هذا من جهة، كما أن هذا الخط
التجاري سيهمش في الوقت نفسه، كلا من إيران وتركيا، ومعها مصر (بما أن قناة السويس
ستفقد قيمتها التجارية بشكل شبه كلي تقريبا).
يقتضي إنشاء هذا الخط مجموعة من الشروط، من أهمها إدماج إسرائيل في المنطقة وتحويلها لقاعدة أساسية لهذا الخط التجاري، وربطها وبشكل استراتيجي مع محيطها الإقليمي وليس فقط المملكة العربية السعودية والإمارات
العربية المتحدة.
ولذلك، فإن إنفاذ مسار التطبيع يعد شرطا وجوديا لإنشاء هذا الخط التجاري الاستراتيجي، ولجم كل صوت أو إرادة يمكن أن
ترى في التطبيع تهديدا لمصالح الدول والشعوب العربية. وهو في النهاية إعادة تعريف
لمنطقة الشرق الأوسط، أو عودة لمشروع "بيراز" الذي كان عنوانه الشرق
الأوسط الجديد خلال تسعينيات القرن الماضي.
على أن هناك فرقا جوهريا بين مشروع
الشرق الأوسط الجديد الذي طرح "بيراز"، هو أن طبيعة الأنظمة المستهدفة
من هذا المشروع أصبحت مخلفة إسرائيليا.
وذلك أن الكيان الصهيوني ومن ورائه
الولايات المتحدة طرحوا مشروعا للشرق الأوسط الجديد خلال التسعينيات على أنظمة حكم
مستبدة، ولكنها كانت تمثل مصالح دول سميت دول الممانعة في ذلك الوقت، بما أنها كبحت
هذا المشروع، وإن كانت راعية لاتفاقية أوسلو. بينما تحتاج إسرائيل لأنظمة ضعيفة
وتابعة وغريبة عن شعوبها، ولذلك فإن مشروع الممر التجاري المصحوب بمسار التطبيع، يطرح اليوم على أنظمة عربية تريد ليس فقط إعادة تعريف الإسلام، بل تجاوزه من خلال
طرح مبادرة "الديانة الإبراهيمية"، ومن خلال إنفاذ ما يتحدث عنه رئيس
الوزراء الإسرائيلي من أن شروط السلام تقتضي تغيير ثقافة شعوب المنطقة، بما يشبه
ما وقع لليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد أن ألقت عليها الولايات المتحدة
قنبلتين نوويتين، انتهتا بتسليم كامل من اليابان واندماج تام داخل المنظومة الغربية، وتغيير ليس فقط في الثقافة الاجتماعية للمجتمع الياباني، بل كذلك في الثقافة الدينية.
بالرغم من الفشل في التخلص من أردوغان وحزب العدالة في تركيا، وبالرغم من صعود أنور إبراهيم في ماليزيا، إلا أن هذين الحدثين لم يمثلا عائقا جديا أمام مسار التطبيع، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار حالة الضعف التي تمر بها الدولة التركية، بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها، وحاجة أردوغان للعودة لاستراتيجية صفر مشاكل في المنطقة.
ولذلك، فإن مسار التطبيع المقترح على
المنطقة لا يتحمل مصر مبارك ولا سوريا الأسد ولا سعودية الملك عبد الله، بله عراق
صدام ولا حتى ليبيا القذافي ولا يمن عبد الله صالح أو تونس بن علي، بل تونس راشد
الغنوشي.
من الواضح أن ما وقع خلال السنوات
العشر الأخيرة من تهديم لكيان دول الممانعة، أكان ذلك من خلال تعفين مسار الثورة
السورية بحيث انتهت سوريا إلى دولة فاشلة، ثم الانقلاب الذي قاده السيسي والذي به
انتهت مصر لدولة تابعة لدولة الإمارات أولا، ومن بعدها العربية السعودية، ثم خسارة
نفوذها الاستراتيجي في منابع النيل، مع استحواذ الإمارات على عمقها الاستراتيجي
الثاني؛ أي دولة السودان، ثم تفويت السيسي في جزر "صنافير وتيران" لصالح
المملكة العربية السعودية.
ومن قبل ذلك، ما وقع في العراق التي
تحولت هي كذلك لدولة فاشلة، وهو ما يعني غياب أي دولة ذات ثقل إقليمي، وعجزها عن
القيام بأي دور استراتيجي، بينما يعمل ولي العهد السعوي على ضمان الاندماج الكامل
للمملكة ضمن الأجندة الصهيونية.
وفي هذه الأثناء، تم التخلص من المسار
الديمقراطي في المغرب ثم في تونس، وبهذا أصبح مسار التطبيع سالكا في المنطقة كلها، وتم تغييب كل الإرادات والأجندات التي يمكن أن تقف عثرة أمامه. وبالرغم من الفشل في
التخلص من أردوغان وحزب العدالة في تركيا، وبالرغم من صعود أنور إبراهيم في ماليزيا، إلا أن هذين الحدثين لم يمثلا عائقا جديا أمام مسار التطبيع، خاصة إذا ما أخذنا
بعين الاعتبار حالة الضعف التي تمر بها الدولة التركية، بسبب الأزمة الاقتصادية
التي تعاني منها، وحاجة أردوغان للعودة لاستراتيجية صفر مشاكل في المنطقة، بما في
ذلك تطبيع العلاقة مع الإمارات والمملكة العربية والسعودية ومصر، وتنشيط لعلاقات
التبادل التجاري مع الكيان الصهيوني.
أما في منطقة المغرب العربي فإن وضع
الجزائري يبدو غير مريح في وضع تخشى منه الجزائر من حالة غليان شعبي جديد، مع
الخشية من الوقوع في حالة حصار بين جارة غربية منافسة ومتوترة العلاقات وجارة
شرقية غير موثوقة، ويمكن أن ينفلت الوضع فيها أو أن يتم استقطابها لصالح أجندات
مجهولة.
طوفان الأقصى:
مثل الطوفان والأعاصير جاء حدث السابع
من تشرين الأول/أكتوبر، مفاجئا للجميع ومغيرا لملامح وجغرافية المنطقة بكل أبعادها.
جاء السابع من تشرين الأول/أكتوبر كحدث لم يهز
المنطقة فقط، بل هز العالم وطرح تساؤلات جدية على كل الاستراتيجيات الغربية التي
تقودها الولايات المتحدة في العالم والمنطقة.
ولذلك، فإن الولايات المتحدة كانت أول
من تلقى رسالة طوفان الأقصى، وبادرت من ثم في عمل بدا غير متناسب مع حجم القوة
المستعملة من قبل كتائب القسام، لا من حيث جهة الفعل ولا من حيث حجمه، بادرت إلى
تحريك حاملة طائراتها "جيرالد فورد" إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، فيما
قال البنتاغون؛ إن وزير الدفاع أعلن عن نشر مقاتلات حربية من طرز "إف ـ 35"
و"إف ـ 15" و"إف ـ 16" و"إيه ـ 10" في الشرق الأوسط.
وهو ما يفهم رسالة واضحة لا للمقاومة
الفلسطينية أو الدول العربية أو حتى الدول الإسلامية، ربما باستثناء إيران، ولكن بما
يفهم منه رسالة واضحة للصين، وهي الرسالة التي تلقتها الصين مباشرة وأرسلت تبعا لها
ست سفن بحرية للشرق الأوسط، وإن كان ذلك تحت عنوان إجراء مهام عادية أو مناورات
بحرية مع دولة عمان، وهي الدولة التي كان من المفروض أن تكون بوابة منطقة الخليج في
المشروع الأمريكي عوض الإمارات العربية المتحدة، إلا أن الرسالة واضحة فالتحرك
العسكري الأمريكي قابله تحرك عسكري صيني مواز.
وهذا يعني أن الولايات المتحدة قرأت
بوضح حدث السابع من تشرين الأول/أكتوبر كحدث استراتيجي، يهدد برنامجها في إقامة طريق تجاري بين
الهند وأوروبا، مرورا بمنطقة الشرق الأوسط.
والحقيقة أن تطور الحدث يؤكد هذا
التوجه، وذلك أن حرص الولايات المتحدة على عدم توسيع الحرب؛ بمعنى منع حزب الله
وإيران من الدخول مباشرة في الحرب، لم يمنع إيران وحلفاءها من التحرك في البحر
الأحمر وفي باب المندب ومن استهداف البواخر التجارية، ولم يمنع المسيرات الإيرانية
من مراقبة تحرك البوارج الأمريكية. وهذه كلها رسائل واضحة من حيث مؤدياتها
الاستراتيجية، التي تقول بأن طريق الحرير الموازي لن يكون حريريا، كما أن مسالكه
ليست سالكة.
لا نقدر أن التنافس أو الصراع مع الصين
سيتخذ طابعا عسكريا، كما لا نقدر أن الصين ستتدخل في أي صراع من هذا النوع، وربما
تمثل هذه الحرب بالإضافة للحرب في أوكرانيا فرصة ذهبية للصين، كي تتمتع بغرق
الولايات المتحدة في جبهات لا تستطيع الخروج منها، بما يسمح لها بالتقدم السلس في أجندتها
الاستراتيجية وافتكاك شركاء استراتيجيين لصالح برامجها الطموحة.
كما لا نقدر أن إيران ستكون حريصة على
الدخول في أي معارك وحروب في المنطقة، وإن كانت خسارة المقاومة في غزة وفلسطين تمثل
خطرا يمكن أن يؤثر استراتيجيا عليها، من حيث الإغراء بتوسع استهداف نفوذها الذي
توسع خلال العقد والنصف الأخيرين.
ولذلك، فإن المرجح أن تكتفي إيران
بمشاكسات تجعل منها طرفا لا يمكن تجاوزه على طاولة التفاوض.
والسؤال هنا هو: من سينجح في جمع
الفرقاء على مثل هذه الطاولة، وهل ستكون طاولة أمريكية أم صينية؟
وماذا سيكون الموقف السعودي إن اتجهت
الولايات المتحدة لتقديم تنازلات لإيران تقرؤها المملكة على حسابها؟
لقد فسح طوفان الأقصى لأجندات الصراع
الاستراتيجي كي تتحرك على أكثر من مستوى، ولذلك، فإن مؤدياته لن تكون خاصة بالملف
الفلسطيني، بقدر ما أصبح هذا الملف محركا لهذه الملفات الاستراتيجية.
والحقيقة، أن أحد الأسباب المباشرة في
هذا الأثر الاستراتيجي لطوفان الأقصى، يأتي كنتيجة لتموقع إسرائيل ضمن معادلة
الصراع الدولي بين الصين والولايات المتحدة، باعتبار رمانة ميزان المعادلة. بحيث
يخرج وزنها عن منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي وربما الإسلامي، إلى القيام بدور
ضمن المعادلة الدولية.
* وزير تونسي سابق وكاتب