شهدت
مصر على مدار الأيام الماضية حراكا سياسيا ودبلوماسيا لافتا، شمل عدة ملفات متحركة في المنطقة، إذ يتوافد في زيارات هامة ونادرة مسؤولون على أعلى مستوى من الصومال والعراق، وإيران، بجانب اتصالات مستمرة مع جماعة الحوثي في اليمن، في ظل ظروف إقليمية مضطربة.
ويرتبط الحراك الذي تشهده مصر هذه الأيام بشكل أساسي بالعدوان الإسرائيلي على قطاع
غزة، والذي خلف أكثر من 25 ألف شهيد منذ السابع من تشرين أول/ أكتوبر الماضي.
ودخلت مصر في حراكها الدبلوماسي على خط أزمة البحر الأحمر، بعد استهداف جماعة أنصار الله "الحوثي" السفن المتوجهة إلى الموانئ الإسرائيلية.
"زيارة إيرانية وقلق إسرائيلي"
ويصل وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى القاهرة في الأيام المقبلة، في خطوة من المتوقع أن تتعزز بها العلاقات بين البلدين، وفي توقيت هام ولافت تتصاعد فيه أجواء الصراع في المنطقة بين إيران وجماعات موالية لها من جانب، وبين أمريكا والغرب وإسرائيل من جانب آخر.
زيارة عبد اللهيان المرتقبة دفعت الصحافة الإسرائيلية إلى إعلان مخاوفها من التقارب المصري الإيراني الذي بلغ مراحل متقدمة، وفق وصف صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية التي أعربت عن تلك المخاوف عبر تقرير لها الجمعة الماضي، بعنوان "تحذير.. مصر وإيران تقتربان تحت ستار الحرب في غزة".
وأوضحت الصحيفة العبرية أن وزير الخارجية الإيراني سيزور القاهرة، مؤكدة أن التقارب الذي يجب أن يقلق المسؤولين في تل أبيب هو التقارب بين القاهرة وطهران.
وأشارت إلى وجود محادثات مكثفة تجري بين القاهرة ومسؤولين كبار من الحوثيين والإيرانيين في الأيام الأخيرة بهدف منع توسع الصراع البحري بين إسرائيل والغرب وإيران خوفا من أن يؤدي التصعيد إلى الإضرار بحركة المرور في قناة السويس.
وترى الصحيفة العبرية أن ما يحدث في المنطقة يعزز العلاقات بين مصر وإيران، بسبب المصالح المشتركة للبلدين، ولأن إيران تعتبر لاعبا رئيسيا بالمنطقة، وأنه مع التوتر الذي نشأ بين مصر وأمريكا وإسرائيل، فمن المتوقع أن تتعزز علاقات مصر مع إيران بشكل أكبر.
"تواصل حوثي-مصري"
وفي سياق الاتصالات المصرية اللافتة في هذه الآونة، تجري مصر اتصالات مكثفة مع قيادات بارزة في جماعة الحوثي لاحتواء التصعيد في البحر الأحمر الذي يؤثر على حركة مرور السفن في قناة السويس.
ومنذ دخول جماعة الحوثي على خط الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وإعلانها دعم المقاومة باستهداف السفن الإسرائيلية المارة بمضيق باب المندب، أو تلك التي ترفع علم إسرائيل، أو تحمل بضائع لها، وتأثرت حركة الملاحة الدولية بقناة السويس، وتراجعت إيراداتها من مرور البضائع والسفن.
وفي 12 كانون الثاني/ يناير الجاري، أعلن رئيس هيئة قناة السويس أسامة ربيع، أن هناك 40 بالمئة تراجعا في العائدات الدولارية لقناة السويس منذ بداية 2024، مقارنة بنفس الفترة في العام لماضي، بسبب الهجمات على السفن بالبحر الأحمر.
وقالت "يديعوت أحرنوت" إن مصر تحدثت مع قادة الحوثيين عقب الهجوم الأمريكي البريطاني في اليمن قبل أسبوع، وإن القاهرة أكدت للحوثيين عدم انضمامها إلى أي إجراءات دولية ضدهم، وأوضحت لواشنطن "خطورة الحل العسكري".
"زيارة صومالية نادرة"
وفي تحرك مصري هام في إحدى قضايا الأمن القومي المصري والمتعلقة بملف مياه النيل، زار القاهرة الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، السبت، وذلك في ظل تحرك إثيوبي مضاد مع "صومالاند" التي أعلنت الانفصال عن الصومال عام 1991.
الزيارة النادرة التي جاءت بعد دعوة من رئيس النظام عبدالفتاح السيسي، نقلها وفد مصري رفيع زار مقديشيو، تأتي إثر اتفاق إثيوبي مع "صومالاند" غير المعترف بها يقضي باستخدام أديس أبابا واجهة بحرية بطول 20 كيلومترا بميناء "بربرة" على البحر الأحمر مدة 50 عاما.
وهو ما رفضته وزارة الخارجية المصرية في بيان رسمي لها في 9 كانون الثاني/ يناير الجاري، وذلك في ظل الأزمة المصرية الإثيوبية القائمة لأكثر من عقد مع بناء الأخيرة سدا على النيل الأزرق يؤثر على حصة مصر والسودان من المياه، وسط تعنت إثيوبي في عقد اتفاق ملزم حول ملء السد، وتشغيله، وضمان حصتي دولتي المصب.
"حضور عراقي"
وفي شأن آخر، بدا لافتا زيارة وفد عسكري عراقي برئاسة أمين سر وزارة الدفاع
العراقية، إلى مصر لإعداد وتدريب وتأهيل أفراد الجيش العراقي في مصر.
وأكد الباحث المصري في الشؤون العسكرية محمود جمال، أن الوفد "تفقد مراكز تدريب وتأهيل القوات الخاصة المصرية من قوات المظلات والصاعقة، حيث يعمل الجيش العراقي حاليا على تشكيل فرقة جديدة للقوات الخاصة، مكونة من أربعة ألوية، سيكون أحدها لواء مظليين وسيتم إلحاقه بمصر لإعداد وتدريب وتأهيل أفراده بواسطة قوات المظلات المصرية.
"التنسيق بات حتميا"
وفي قراءته لدلالات توقيت تلك اللقاءات والتحركات ودلالات تزامنها، وحجم قلق إسرائيل من بعضها، والنتائج المرتقبة منها في ملفات أمن البحر الأحمر وقناة السويس والعلاقات المصرية الإيرانية، تحدث الباحث والأكاديمي المصري الدكتور محمد الزواوي، لـ"عربي21"..
وقال المحاضر في معهد الشرق بجامعة سكاريا التركية، إنه "في الفترة الأخيرة كانت هناك تحركات دولية وإقليمية وخليجية بعيدا عن مصر لتنشيط وتنفيذ (ممر بايدن) الذي من المتوقع أن يؤدي إلى تهميش قناة السويس كأحد أهم المعابر المائية للتجارة العالمية وإحدى أهم مصادر الدخل القومي المصري".
و"ممر بايدن" مشروع اقتصادي جرى الإعلان عنه في قمة العشرين بالهند في 9 أيلول/ سبتمبر الماضي، يربط بين الهند وأوروبا مرورا بالمنطقة العربية بمشاركة ودعم أمريكي، مع الهند والإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل وإيطاليا وألمانيا والاتحاد الأوروبي، دون مصر التي تم استبدالها بإدخال ميناء "حيفا" بالمشروع.
ويواصل الزواوي: "ومن ثم فإن التقارب الخليجي الإسرائيلي برعاية بايدن، ولعمل هذا الممر سيضر بالمصالح المصرية"، مبينا أن "مركز ثقل صناعة القرار الإقليمي اتجه نحو الخليج العربي"، ملمحا إلى أن "الذي عطل هذا المشروع حتى الآن هي حرب غزة بلاشك".
وأكد أنه "من ثم، فإن مصر لها مصلحة في أن يتطور محور المقاومة الفلسطينية بصورة تؤدي إلى تعطيل ومقاومة هذا المشروع (ممر بايدن)، ولذا فإن التنسيق بين مصر وإيران وجماعة الحوثي في هذا الإطار، مهم للغاية للأمن القومي المصري".
ولفت إلى أن "الفترة الأخيرة شهدت عمليات عسكرية للحوثي استهدافا لسفن إسرائيلية تذهب لموانئ إيلات وتمر عبر إسرائيل وتخدم المصالح الإسرائيلية سواء التي تحمل علم إسرائيل أم لا، ومن ثم فإن التنسيق مطلوب بين القاهرة وجماعة الحوثي وكذلك بوجود إيراني".
وقال الأكاديمي المصري: "الآن نحن نرى شرق أوسط قيد إعادة التشكل، والنظام الإقليمي العربي ينهار ولا نجد له بديلا حتى الآن، ولكن بإنشاء ممر بايدن ستكون هناك نواة للنظام الإقليمي الجديد".
وأوضح أن "ممر بايدن سيربط الإمارات والسعودية وإسرائيل وأوروبا، ومصالح كل تلك الدول ستؤدي في النهاية إلى تهميش مصر وتركيا من ناحيةـ وكذلك تؤدي إلى عرقلة أو منافسة مشروع (الحزام والطريق) الصيني، الذي تعد إيران جزءا منه وبعض الدول الأوروبية بعد سماعها بممر بايدن انسحبت منه مثل إيطاليا".
وقال: "الآن نرى المنطقة في طور إعادة التشكل، وبات من المصلحة المصرية أن تنسق مع إيران في ما يتعلق بالعمليات العسكرية في غزة، وكل القضايا المتعلقة بالأمن القومي المصري".. "سواء ما يتعلق بممر بايدن، أو بتهديدات حركة الملاحة بمضيق باب المندب، أو تهديد حركة الملاحة بقناة السويس"، مؤكدا أن "كل هذه الأمور تتطلب تنسيقا للجهود بين مصر وإيران، لمنع تشكيل ممر بايدن، الذي سيكون له تداعيات وخيمة على الاقتصاد المصري مستقبلا".
"التواجد القوي يصعب هزيمته"
وفي حديثه لـ"عربي21"، أشاد الباحث السياسي محمد حامد، بهذه "التحركات التي تشمل العلاقات المصرية الإيرانية وزيارة وزير خارجية طهران للقاهرة، والتي أراها جيدة، وكذلك في ما يتعلق من تحركات بشأن أمن البحر الأحمر، ومرور التجارة الدولية بقناة السويس، ومياه النيل، وغيرها".
مدير "منتدى شرق المتوسط للدراسات السياسية والاستراتيجية" بالقاهرة، وفي حديثه عن علاقات مصر وإيران وزيارة وزير خارجيتها المرتقبة للقاهرة، أوضح أنه "كان هناك قبل عملية طوفان الأقصى تقارب كبير في علاقات البلدين".
وأضاف: "وكان المتوقع تنفيذ زيارات على أعلى مستوى من الجانب الإيراني مع مصر، وبالتأكيد بعد أحداث 7 أكتوبر الماضي، أصبح الحوار المصري الإيراني أمرا مهما، خاصة مع دور إيران المؤثر على جماعات المقاومة بسوريا والعراق ولبنان واليمن".
ولفت إلى ما تفعله جماعة الحوثي، دعما للمقاومة، مبينا أنه "مع ذلك فهو يؤثر على البحر الأحمر وعلى حركة المرور بقناة السويس، ولأول مرة منذ عام 1967 ومنذ أن كان العرب لا يعترفون بإسرائيل يكون هناك منع مباشر لحركة التجارة نحو إسرائيل في البحر الأحمر".
وأشار إلى "تعطيل ميناء إيلات بشكل كامل وكأنه لم يكن، واعتماد إسرائيل فقط على منفذها البحري بالبحر المتوسط، وسط عدم قدرتها على تمرير بضائعها وما تريده من مستلزمات عبر البحر الأحمر في خطوة لم تعرفها إسرائيل منذ 57 عاما".
وعن زيارة وفود عراقية لمصر، بعتقد الباحث المصري أنها أصبحت ضرورة خاصة أن "بعض القوى الشيعية في العراق مثل (الحشد الشعبي) و(عصائب أهل الحق) تقوم بضربات عسكرية على قواعد أمريكية بالعراق، وتوجه بعض الضربات إلى إسرائيل، في إطار دعمها صمود حركة المقاومة الإسلامية حماس ضد الاحتلال".
وأكد أن "التواصل من تلك القوى مع مصر الجار المباشر لقطاع غزة أمر مهم وضروري لتنسيق المواقف الدولية والإقليمية، ولأجل ضمان مستقبل قطاع غزة، ولهذا ليس مستغربا أن تكون هناك وفود عراقية في القاهرة".
وأوضح أنه "لو تحدثنا عن أزمة وجود قاعدة بحرية أو ميناء بحري لإثيوبيا في الصومال؛ فإن الموقف المصري واضح عبر الرفض القطعي لأي تهديد لأمن واستقرار دولة الصومال، ومحاولة إثيوبيا أن يكون لها منفذ بحري على البحر الأحمر بترسيخ تقسيم دولة الصومال، بإنشاء ميناء بحري على (صومالاند) غير المعترف بها دوليا".
وبالنسبة لملف إثيوبيا أيضا، فإن حامد، يرى تحركات مصرية أخرى، ملمحا إلى أن "وزير الخارجية المصري زار أريتريا أيضا، في 12 كانون الثاني/ يناير الجاري، لأن التواجد المصري القوي يصعب هزيمته بالمماحكات الإثيوبية".
"فرض التوازن"
وفي رؤيته، قال السياسي المصري الدكتور ثروت نافع: "موقفي منذ البداية، وبعيدا عن الشعبوية، أرى أن موقف مصر من الصراع في غزة كان واضحا وسليما من وجهة نظري، وأعلن منذ البداية رفضه لفكرة التهجير إلى الأراضي المصرية التي كانت هي الهدف الرئيسي من العدوان الغاشم على غزة".
عضو لجنة الدفاع والأمن القومي والعلاقات الدولية بالبرلمان المصري سابقا، بين في حديثه لـ"عربي21"، أنه "لذلك أرى أن أي نوع من التفاهمات مع الجانب الإيراني أو أحد أذرعه كالحوثيين، وما إلى ذلك، هو نوع من فرض التوازن على الوضع في المنطقة".
"ومحاولة من المصريين تصحيح الوضع، إذا أراد الإسرائيليون الدفع بأهلنا الفلسطينيين إلى سيناء".
وأضاف: "أراها تحركات دبلوماسية سليمة، ومحاولة لشرح الموقف بطريقة دبلوماسية، أنه إذا دفعت في هذا الاتجاه، فأنا أيضا أدفع في اتجاهات أخرى ليست في صالحك، وهذه تفاهمات دبلوماسية أراها صوابا".
وعن التقارب المصري الصومالي، يعتقد نافع، أنها "محاولة من الجانب المصري لتصحيح وضعه في موضوع سد النهضة، وقد تفلح على المدى القصير ولكن على المدى البعيد لا تحل أزمة سد النهضة".
وأكد أن "محاولة الدفع بأذرع أخرى لزعزعة الأمن الإثيوبي أو حتى لوضع الإثيوبيين في موقف يمنعهم قدما في موضوع سد النهضة قد تكون محاولة جيدة، ولكنها لا تحل المشكلة الأساسية في مصر وهي سد النهضة".
وأوضح أنه "لذلك فالتقارب المصري الصومالي محمود ومطلوب وشيء جيد لأن الإثيوبين يعتدون على أراضي صومالية، إن لم يكن من النبل والمروءة أن تقف مصر بجوار الصومال فهو من المصالح المطلوبة في هذا الوقت".
وختم السياسي المصري بالقول: "ولكن من وجهة نظري لا تحل مشكلة سد النهضة بالصورة التي قد يتخيلها الجانب المصري، هي تؤجل المشكلة أو تدفع لمزيد السماح بالمفاوضات بين المصريين والإثيوبيين".