أفكَار

السياسة والخلط بين أَحْكامِها وحُكّامِها.. أهل السنة لا يؤمنون بعصمة العالم

شريعتنا جاءت بإقامة "الميزان" والوزن بالقسط، وميزان هذه المسألة هو تكامل العالم والسياسي، للوصول إلى ممارسة سياسية شرعية ترتبط بالأصل وتتصل بالعصر.. فيسبوك
معرفة الفروق والأشباه والنظائر، أصلٌ منهجي، يقتضية المنطق السليم، وتُقره شريعتنا السمحة، فلا يصح الجمع بين المتفرقات ولا التفريق بين المتشابهات، بل يجب وضع القضايا في سياق وميزان واحد بحسب أجناسها وأنواعها.

ومن ذلك: أن هناك فرقاً بين مجالين مختلفين:

المجال الأول ـ  الأحكام الفقهية الشرعية الفرعية المتعلقة بالسياسة وتدبير الشأن العام .
المجال الثاني ـ ممارسة السياسة والتعامل مع مقاليد الحكم وخوض غمار تدبير الشأن العام  !

المجال الأول وهو استنباط الأحكام الفقهية السياسية من النصوص (كتاب وسنة)، أو التدليل على متعلقاتها العقدية أو الأخلاقية، هذا من شأن علماء الشريعة الربانيين، الذين جمعوا بين ثلاثة أمور: معرفة العلوم الشرعية، والتجرد والتوازن النفسي، ومعرفة الواقع ومتابعة أحداثه. ونسبة هذه الأحكام للشريعة [أي قولنا: حكم شرعي] هي نسبةُ ظنٍ غالب، لأن جُل أحكامها خالية من اليقين والقطع، كما أوضحت في أكثر من مناسبة .

أما ممارسة السياسة الشرعية فهي لا تقتصر على الفقهاء أو العلماء كما يظن بعض المقلدين، بل هذا الظن والخلط  لوثة شيعية ثيوقراطية، تسللت لبعض المتشددين أو تسللوا بها، لدوافع وأسباب لا يصلح السياق لذكرها  الآن.

ولا يخفى على كل عاقل، أن بعض الفقهاء إذا تكلم في السياسة (بمعني خوض غمار تدبير الشأن العام) وأسرف في توجيه النصوص والأحكام على الوقائع السياسية الحادثة؛ أتى بالعجائب والمتناقضات، لأنه تكلم في غير فنه، وقديماً قال ابن حجر: من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب!

لا حَجْرَ على أي فقيه من إبداء رأيه الشرعي، بل "يجب" عليه شرعا التصريح بما يراه حكما شرعيا نظريا، إن كان مُستنَدُه كتابَ الله وسنة رسوله الكريم، و"يجب" عليه أيضا توسيع صدرِه وإحسانُ ظنِه بمن يطالبه بالدليل أو يختلف معه في التأويل، لأن الفتوى السياسية "عامة" تتناول شأن كل مواطن، وتمس حاجاته، وتتعلق بالدماء والأموال والأعراض، فنحن أهل السنة لا نؤمن بعصمة العالم مهما علا كعبه، ولا بولاية الفقيه مهما ذاع صيته.
شريعتنا جاءت بإقامة "الميزان" والوزن بالقسط، وميزان هذه المسألة هو تكامل العالم والسياسي، للوصول إلى ممارسة سياسية شرعية ترتبط بالأصل وتتصل بالعصر، أي: ترتبط بالنصوص والمقاصد الشرعية، وفي الوقت نفسه، تتصل بالواقع وتقدير المصلحة السياسية وتبدلاتها وموازناتها وإكراهاتها وارتباطاتها الجيوسياسية التي دون شك ليست من تخصصات الفقيه، بخاصة في هذا العصر الذي أصبح عصر التخصصات بل التخصصات الدقيقة في كل علم وفن..

فلا حَجْرَ على أي فقيه من إبداء رأيه الشرعي، بل "يجب" عليه شرعا التصريح بما يراه حكما شرعيا نظريا، إن كان مُستنَدُه كتابَ الله وسنة رسوله الكريم، و"يجب" عليه أيضا توسيع صدرِه وإحسانُ ظنِه بمن يطالبه بالدليل أو يختلف معه في التأويل، لأن الفتوى السياسية "عامة" تتناول شأن كل مواطن، وتمس حاجاته، وتتعلق بالدماء والأموال والأعراض، فنحن أهل السنة لا نؤمن بعصمة العالم مهما علا كعبه، ولا بولاية الفقيه مهما ذاع صيته.

أما في الممارسات السياسية فشأن الفقيه شأن كل مواطن، يقول رأيه ويشارك بحرية ولكن دون أن ينسب هذا الرأي لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .

كتبت هذا التوضيح لأن بعض الطيبين قد يقع في حبائل بعض السفهاء الذين أقرأ لهم كذبا صراحا منذ سنين، ويبذلون جهدا خبيثا في الوقيعة بيني وبين بعض الشيوخ الذين أجلهم وأحبهم، ويحاولون تحريف كلامي عن مواضعه، وإلزامي بلوازم لم ألتزمها ولم أصرح بها يوما لا في سر ولا علن، ولمّا كان منهجي الذي أتمسك به؛ هو عدم الرد والتعليق، إلا على من تأدب معي بأدب الإسلام وتكلم بعلم وموضوعية ، فإني لا أملك لأي سفيه ـ وإن تدثر بثوب المشيخة ـ إلا  الدعاء لي وله بكل خير، فالعمر لا يتسع للجدل ولو كنت أحسنه، والواجبات أكثر من الأوقات، "ولكل وجهة هو موليها".

*المشرف العام على أكاديمية الإمام مالك في اسطنبول