في الوقت الذي تتوالى رسائل وبيانات وخطابات زعيم تنظيم
القاعدة أيمن الظواهري بتحكيم العقل والامتثال للشرع في تدبير الاختلاف بين الفصائل الجهادية في
سوريا، فإن ممثلي القاعدة المفترضين كـ "
داعش" و"
النصرة" يخوضون قتالا عنيفا لفرض النفوذ وإحكام السيطرة على مناطق استراتيجية في دير الزور.
لا أعتقد أن ثمة إمكانية في الوقت الراهن لرأب الصدع ووقف القتال بين الأخوة الأعداء، فقد اتخذ الصراع بين الطرفين شكلا هوياتيا متطرفا حول تمثيل الإسلام بصيغته السلفية الجهادية ممثلا بتراث القاعدة وزعيمها التاريخي الراحل أسامة بن لادن، ولم تفلح محاولات الفرقاء في احتواء الخلاف وباتت سياسات القتل عملا روتينيا في بيان وجهات النظر، فداعش في نظر النصرة تنتمي إلى فئة الخوارج المارقين، أما النصرة فتنتمي إلى فئة الصحوات العملاء بالنسبة لداعش.
ترتبط ولادة "داعش" وهي التسمية المختصرة لجماعة الدولة "الإسلامية" في
العراق والشام، بتمرد الفرع العراقي للقاعدة على القيادة المركزية للتنظيم بزعامة الظواهري، فقد جاء إعلان أبو بكر البغدادي أمير "الدولة الإسلامية في العراق" في التاسع نيسان/ إبريل 2013 عن ضم "جبهة النصرة" في سوريا إلى دولته لتصبح "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، تتويجا حتميا للخلافات التاريخية بين الفرع والمركز والتي تم احتوائها إبان زعامة بن لادن، وقد تطور الخلاف بعد أن أصدر زعيم "جبهة النصرة" أبو محمد الجولاني في اليوم التالي لإعلان الدمج في العاشر من نيسان/ إبريل خطابا يرفض فيه الامتثال للدمج والانضمام لـتنظيم "الدولة"، ومعلنا ارتباطه بالتنظيم المركزي للقاعدة وتأكيد بيعته الصريحة للظواهري.
لقد استثمر الظواهري الخلاف للبرهنة على قدرته على خلافة بن لادن، حيث اتخذ سلسلة من القرارات الحازمة في التعامل مع تمرد الفرع العراقي، وأصدر قراره القاضي بتحديد الولاية المكانية للفرعين في 9 حزيران/ يونيو 2013، وفصل ببطلان الدمج وحل "دولة العراق والشام الإسلامية" مع بقاء "جبهة النصرة" و"دولة العراق الإسلامية" كفرعين منفصلين يتبعان تنظيم القاعدة.
الخلاف بين الفرع العراقي للقاعدة والتنظيم المركزي ليس جديدا، لكنه تدرج منذ بيعة الزرقاوي لبن لادن وصولا إلى "إعلان الدولة"، فأجندة القاعدة تهدف منذ الإعلان عن تأسيس "الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين" عام 1998إلى قتال الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا باعتبارها حامية للأنظمة العربية الاستبدادية، وراعية لحليفتها الاستراتيجية إسرائيل المغتصبة لفلسطين من جهة، والسعي لتطبيق الشريعة وإقامة الخلافة من جهة أخرى، فمواجهة الغرب ورفع الهيمنة الخارجية، والتصدي للاستبداد وتمكين الشريعة داخليا هما ركنا القاعدة الأساسيين.
أما أجندة الدولة الإسلامية في العراق والشام فتقوم على أولوية مواجهة النفوذ والتوسع الإيراني في المنطقة ومحاربة "المشروع الصفوي"، وخصوصا بعد رحيل القوات الأمريكية عن العراق، فالأساس الهوياتي هو المحرك الرئيس لسلوك الفرع العراقي بينما الأساس المصلحي الجيوسياسي هو المحرك الرئيس للقيادة المركزية للقاعدة، أما تمكين الشريعة فهو الهدف المشترك للطرفين، إلا أن توقيت الإعلان عن قيام الدولة في العراق فجّر خلافات تم تجاوزها آنذاك نظرا للظروف الموضوعية والأسباب العملية، وساهم وجود بن لادن على رأس التنظيم بما يمتلكه من كاريزما على تدبير الاختلاف والتعايش الحذر، على الرغم من الانتقادات التي لم تنقطع لنهج وممارسة الفرع العراقي المتعلق بتكتيكاته القتالية من خلال التوسع في استخدام العمليات الانتحارية وتحديد دائرة الاستهداف.
برز نهج داعش بصورة لافته عقب مقتل أبو عمر البغدادي في 19أبريل/نيسان 2010، إلى جانب وزير حربه، أبوحمزه المهاجر، وتولي الإمارة أبو بكر البغدادي ("أبو دعاء" إبراهيم عواد البدري) بتاريخ 16 أيار/ مايو 2010، ولم يكن للقيادة المركزية للقاعدة رأي في تنصيبه، وهي الحقبة التي شهدت تحولا في البنية التنظيمية للفرع العراقي بعد سيطرة عدد من العسكريين الذين عملوا في المؤسسة العسكرية في عهد صدام حسين، ومنهم العميد الركن محمد الندى الجبوري المعروف بالراعي والذي استلم قيادة أركان الدولة بتكليف من المهاجر، وهو الذي وضع العميد الركن سمير عبد محمد المعروف بـ (حجي بكر) نائباً له، والذي أصبح بعد أشهر قائدا لأركان الدولة بعد مقتل الراعي.
ومن أهم الضباط البعثيين السابقين الذين تولوا مناصب قيادية في جماعة "داعش": العميد أبو مهند السويداوي الذي كان القائد العسكري للنتظيم لفترة بديلاً عن حجي بكر، والعقيد أبومسلم التركماني وهو المشرف العام على التنظيم ويدير معاركه في العراق، وعبدالرحيم التركماني وكان الأمير الفعلي للتنظيم في دير الزور ولقبه عبدالناصر، وعلي أسود الجبوري الملقب بـ (أبو أيمن العراقي) والذي كان واليا لداعش في الساحل، و هو الأشد عنفا ومتهم بالعديد من جرائم الإعدام الميداني، والمقدم أبوعبد الرحمن البيلاوي وهو القائد العسكري للتنظيم، والمقدم أبوعمر النعيمي والي الرمادي، والمقدم أبو أحمد العلواني والي ديالى، والمقدم أبو عقيل موصل والي الموصل، وأبوعلي الأنباري النائب الأول للبغدادي ومسؤول اللجنتين الشرعية والأمنية.
بعد أشهر من انطلاق الثورة السورية تم الإعلان رسميا عن تأسيس "جبهة النصرة لأهل الشام" في سوريا من خلال تسجيل مرئي بعنوان: "شام الجهاد"، بتاريخ 24 كانون الثاني/ يناير2012، بزعامة أبو محمد الفاتح الجولاني، وهو تنظيم كان على صلة بتنظيم القاعدة المركزي وتم تشكيله بمساعدة تنظيم "داعش" للعمل في سوريا دون الإشارة إلى علاقته بالفرع العراقي تجنبا للأخطاء التي وقع فيها التنظيم في العراق، وتعمية على الأجهزة الاستخبارية، ولتيسيير العمل مع الفصائل المسلحة الأخرى، إلا أن الولايات المتحدة ولم تنتظر طويلا على "الجبهة " فقد أدرجتها على قائمة الإرهاب في 11 كانون الأول/ ديسمبر 2012 واعتبرتها امتداداً للفرع العراقي للقاعدة والمعروف باسم دولة العراق الإسلامية.
الخلاف بين القاعدة وفرعها العراقي بدأ مبكرا إبان قيادة بن لادن للأصل والزرقاوي للفرع، وشكّلت موضوعة حروب "الهوية" عقدة الخلاف، فقد كانت القاعدة المركزية تصر على حرب الأنصار وسعت إلى بناء تحالفات مع إيران لمواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة، أما الزرقاوي فقد تمسك بحروب الهوية لمواجهة "الصفوية" وكسر نفوذها مع حفظ الصراع مع الولايات المتحدة وحلفائها، وقد كشفت وثائق "أبوت اباد" التي وجدت في مخبأ بن لادن عن انتقادات حادة لنهج الفرع العراقي وتوسيع نطاق استهداف الشيعة، إلا أن الخلاف لم يتطور إلى درجة القطيعة.
عندما أصر الفرع العراقي للقاعدة على التمرد وعدم الامتثال اتخذ الظواهري قرارا حاسما بفصل "داعش" وقطع صلتها بتنظيم القاعدة من خلال بيان صدر في 2 شباط/فبراير، قالت فيه إن: الدولة الإسلامية في العراق والشام ليست فرعاً من جماعة "قاعدة الجهاد"، وليست لنا أية علاقة مؤسسية معها، كما أن "التنظيم" ليس مسؤولاً عن أعمالها.
كان قرار الظواهري حاسما وصادما الأمر الذي حمل الناطق باسم تنظيم الدولة أبو محمد العدناني على اتهام الظواهري بالانحراف عن نهج القاعدة في رسالة صوتية صدرت بتاريخ 18 نيسان/ إبريل 2014 بعنوان "ما كان هذا منهجنا ولن يكون"، قال فيها إن:" تنظيم القاعدة اليوم لم يعد قاعدة الجهاد فليست بقاعدة الجهاد من يمدحها الأراذل ويغازلها الطغاة ويناغيها المنحرفون والضالون.. ليست قاعدة الجهاد من يتخندق في صفها الصحوت والعلمانيون.. إن القاعدة اليوم باتت قيادتها معول لهدم الدولة الإسلامية والخلافة القادمة".
في اليوم التالي لكلمة العدناني بتاريخ 19 نيسان/ إبريل نشرت مؤسسة السحاب الإعلامية التابعة لتنظيم القاعدة المركزي لقاءا صوتيا مع الظواهري أكد فيه على التبرؤ من الفرع العراقي وتحميله مسؤولية الاقتتال بين الفصائل الجهادية في سوريا وانحرافه عن نهج القاعدة، وأكد الظواهري على أن: "القاعدة رسالة قبل أن تكون تنظيما .. فإذا شوهنا هذه الرسالة فقد خسرنا حتى لو كنا نتمدد تنظيميا وماديا"، ونبه إلى انحراف الفرع العراقي بقوله: "إننا نقدم لأعدائنا أكبر فرصة لتشويه سمعتنا وفصل الأمة عنا".
تسيطر "داعش" اليوم على مساحات شاسعة غرب العراق وخصوصا محافظة الأنبار وشرق سوريا خصوصا محافظة الرقة التي أصبحت عاصمة دولة البغدادي، ولم يعد التنظيم يحفل برضا القاعدة والجماعات الإسلامية المسلحة، وهو يتعامل معها بالقوة المميته باعتبارها جماعات مرتدة وصحوات، وخصوصا عقب الصدام المسلح المفتوح منذ انفجاره في 3 كانون الثاني/ يناير 2014م، مع الفصائل الإسلامية المسلحة وفي مقدمتها جبهة النصرة، وجيش المجاهدين، والجبهة الإسلامية، وجبهة ثوار سوريا، فضلا عن تشكيلات الجيش الحر وقوى المجتمع المحلي.
استخدمت "داعش" تكتيكات قتالية عنيفة في حرب خصومها وفرض سيطرتها، بدءا من الاغتيالات وانتهاءا بالمفخخات، فقد نفذت عملية اغتيال أبو خالد السوري في 23 شباط/ فبراير 2014 بعملية انتحارية، وهو أحد أبرز القيادات الجهادية في أحرار الشام، وكان يمثل الظواهري في التحكيم ما بين جبهة النصرة ودولة العراق، كما اغتالت أمير جبهة النصرة في الرقة أبو سعد الحضرمي، وغيرهم.
يبلغ عدد أعضاء التنظيم حوالي 10 آلاف مقاتل، وهو يستقطب النسبة الأكبر من المقاتلين الأجانب، ويتوافر على موارد مالية كبيرة تعتمد على فرض الإتاوات في مناطق نفوذه في العراق، وعلى التبرعات التي تأتيه من شبكة منظمة في دول عديدة، وشهدت موارده نموا كبيرا عقب دخوله سوريا من خلال سيطرته على موارد رئيسية تركز معظمها في المنطقة الشرقية، كالنفط، فقد استولى التنظيم على عدة حقول للنفط والغاز في الرقة والحسكة ودير الزور، وعلى قطاع الزراعة، حيث استولى التنظيم على صوامع الحبوب في الحسكة، وهو يتحكم بإدارة المنتجات الزراعية واستثمارها، وتعتبر الفدية من مصادر تمويله التقليدية، فقد اعتقل التنظيم عددا من السوريين والأجانب وأفرج عنهم بعد أخذ فدية مالية.
على الرغم من قوة تنظيم "داعش" الذاتية، إلا أن قوتها الحقيقية موضوعية، فالمشاكل السياسية والاقتصادية في العراق وسوريا توفر بيئات حاضنة مثالية للتنظيم، فالطبيعة السلطوية والطائفية لنظامي الأسد والمالكي المسندة من إيران وانحراف طبائع الصراع إلى شكل هوياتي طائفي بين السنة والشيعة وفر بيئة مثالية خصبة للتعبئة، وجاذبية إيديولوجية للتنظيم.
خلاصة الأمر أن الجدل والصراع على تمثيل القاعدة لن يتوقف، والقتال بين الأخوة الأعداء سوف يستمر ولن تفلح النزعة التوفيقية الإصلاحية، فالعنف بات سيد الأحكام في تدبير الخلافات والتطرف أصبح أساس الفضائل، فعندما يصدر الظواهري زعيم تنظيم القاعدة الذي يتبنى إيديولوجية قتالية عنيفة انتقادات حادة تدين عنف الفرع العراقي، ثم يعلن براءة تنظيم القاعدة المركزي من جماعة "داعش" بسبب إيديولوجيته الفائقة العنف فعلى زعيمه البغدادي وأركان دولته إعادة النظر والاعتبار، وعلى العالم إدراك خطورة "داعش" التي تتبع إيديولوجيا متصلبة وتكتيكات قتالية مميتة.