استمرار
الثورة المصرية الحقيقية له عدة وجوه، من المهم التنبه لها حتى نحتفظ بهذا
الاستمرار.
أولها استمرار الإيمان بها؛ والنظر إليها بوصفها حدثا جليلا فاضلا في دواعيه ساميا في أهدافه جامعا في نقطة انطلاقه، ووجوب استكماله. إصرارنا على أن ما حدث في 25 يناير لم يكن فوضى ولا هوجة ولا فتنة ولا مؤامرة ولا خيانة ولا عمالة ولا نزوة حمقاء، وأنه كان تعبيرا عن ضرورة التغيير، وفريضة التعبير، والعمل الشعبي الشامل لتغيير شامل يكافئ الإفساد الشامل.. هذا الإصرار هو أول معاني استمرار الثورة.
وعيُنا الحاضر بما أفسده الفرعون المخلوع في وطننا ودولتنا ومجتمعنا وجماعتنا الوطنية، انتباهتنا اليقِظة لامتداد وتمدد منظومة فساده واستبداده وعمالته فيما بعد 11 فبراير، وأن الثورة المضادة التي وقعت في صورة الانقلاب العسكري 3 يوليو 2013 إن هي إلا استعادة لمنظومة اللامبارك المخربة، ذاك هو الضمانة الأساسية لاستمرار الثورة مهما واجهت من عقبات وتحديات.
الوجه الثاني هو الأمل الفسيح غير المتقطع ولا المنقطع ولا المقطوع في أن العاقبة للثائر الحق؛ الذي قام لعيش الغلبان وحقه المعلوم، وحرية المواطن والوطن في الداخل والخارج، وكرامة الإنسان في سائر أحواله، ومن أجل العدل الذي به قامت السماوات والأرض.. العاقبة للثائرين الحقيقيين، مهما حاول الباطل أن يظهر نفسه في صورة ضخمة ويهول من قدراته، ويشعرنا بأنه قطع الطريق على الثورة وانتهى أمرها.
اليقين والأمل مع قدر من عبور الزمن بصبر جميل، جدير بأن يحفظ جذوة الثورة مشتعلة ويجددها كل حين ليكون عمرها أطول من عمر الانقلاب.
الوجه الثالث اتساع مساحات الرفض المبدئي، وساحات الرغبة في التغيير، وتنوع ميادين المقاومة وتعددها إلى درجات وأشكال يستحيل على الانقلاب محاصرتها أو الإحاطة بها. فالعمل النسائي والمجتمعي، والمدني الأهلي، والتوعوي والتنموي، والطلابي في الجامعات والمعاهد والمدارس، والمهني في النقابات والنقابات الموازية، وفي المهن نفسها، وعبر الجغرافيا المصرية من أقصاها لأدناها، والإعلام الموازي، والإبداع الفني والفكري الجديد، والدعوة والعلم الشرعي الصادق الحق، والثقافة الثورية الجديدة، وسائل التواصل الاجتماعي، والحركات الشبابية، والقطاعات المضارة من فساد وإفساد الانقلابيين، وغيرها... موارد لمقاومة الانقلاب تتجدد ولا تتبدد، ويجب الوصل بينها وتوجيه مساعيها لاستعادة الديمقراطية والحرية والثورة والوطن.
ومن ذلك ما شهده عام كامل من الصمود والتحدي والثبات الحقيقي بوجه صناعة الخوف ومحاولات إعادة الشعب المصري إلى بيت الطاعة ضمن الدولة البوليسية القمعية المتعسكرة في أقبح صورها. لقد أدى ذلك إلى نتيجتين متكاملتين: أولاهما تحلل وتآكل التحالف الانقلابي وخروج الكثيرين من معسكره، سواء من النخب والقوى السياسية والوطنية والمجتمعية، أو القواعد الشعبية والأفراد، الأمر الذي تسبب في أكثره غطرسة النظام الانقلابي وبطشه واستخفافه وخفته وسقطاته الكبرى، وسياساته المخيبة لآمال. النتيجة الثانية اتساع قاعدة الرفض للانقلاب مع ازدياد افتضاحه وتكشف مؤامراته على الوطن حاضره ومستقبله، وبالأخص على ثورة يناير وأهدافها ومكتسباتها وقواها وفي مقدمتهم الشباب.
تلقى الانقلاب صفعات من العيار الثقيل على هذا المسار؛ فسقطت هيبته الحقيقية مع افتقاده الشرعية من أول يوم، وصار مثار تهكم وسخرية المصريين والشباب عبر عام كامل؛ سواء رموزه أو مؤسساته أو سياساته أو مواقفه أو خطاباته، ثم تعثرت خطواته في فبركة حكومة أو تزوير دستور أو تحويل الدفة لترشح البطل المغوار الذي كان بطلا حقيقيا لكن في صرف الناس عنه ونفورهم منه، لتأتي معركة الصناديق الخاوية صفعة على قفا ووجه الانقلاب عجز عن إخفائها أو كتم صرخات تألمه منها.
الوجه الرابع شدة غباء الانقلاب ومنظوماته الفرعية، وتعطشها للاستبداد والإفساد، وتخبطها بلا رؤية ولا منطق للعمل، وتفكك الكثير من أوصالها يوما بعد يوم، وعدم قدرتها على التفكير أو التسيير أو التدبير خارج الإطار العفن الذي عليه وضده قامت ثورة يناير. يكفي أن تقارن بين الدستور الذي أفرزته المنظومة الانقلابية وما فيه من مواد لا بأس به وبين الأداء الفعلي للمؤسسات الانقلابية الأمنية والإعلامية والقضائية والدينية والحقوقية والخدمية وغيرها.. لتجد أن هذا الانقلاب مخمور مترنح ذاتيا، ولا يقوم إلا على فوهة مدفع مؤقتة لن تلبث أن تسد بفعل عوامل كثيرة ويصبح نظام الانقلاب وجها لوجه مع شعب متعطش لاسترداد ثورته وحريته. ومن ثم استمرت حالة التسرب من معسكر الانقلاب في مرحلة دفع الفواتير وتقسيم الغنائم؛ بين النظام الانقلابي ورجال أعماله ومموليه في الداخل والخارج.
الوجه الخامس استمرار توهج الثورة وتصاعد تداعياتها في المحيط العربي الذي لم يعد تحت السيطرة اليسيرة، وبما ينبئ بالمزيد من التفاقم في وجه الأعداء والعملاء على حد سواء. إن ما يجري في المجال الحيوي لمصر –وخاصة وأخيرا في فلسطين المحتلة- يمثل مزيدًا من دواعي العودة إلى الثورة واستمرارها وتجددها؛ إخلاصا لقيمها: الحرية والكرامة والعدل. فالتحدي الإقليمي يفرض عودة الجامعة الوطنية المصرية التي احتفظ بها الوطن منذ تأسيس الدولة المصرية الحديثة، ولم تتعرض لخطر التقسيم والدفع فى سكته إلا فيما بعد الانقلاب العنصري فى 3 يوليو. مصر بحاجة شديدة للم شمل حقيقي يقوم على إيمان صادق بالوطن والحفاظ على لحمة الجماعة الوطنية وتماسكها، وعناية مسئولة بالأمن القومي المصري الذي بات في أحرج أحواله وأردأ تصوراته.
هذه العوامل وغيرها كثير تشير إلى أن ثورة يناير لم تنته، ولم ينجح الانقلاب وثورته المضادة في قتلها، وإن أصابها كثير من الأضرار. نعم تعيش الثورة المصرية مرحلة تراجع وعدوان على روحها وأهدافها وقواها، خاصة في ظل انقسام هذه القوة وتشتت عقلها وإحباطات تطال نفسيتها ومعنوياتها، لكن هذا لا يعني موت الثوة أو نهايتها، وليس هو بالأمر الغريب عن مسار الثورات وما تمر به من صعود وهبوط حتى تنتصر بإذن الله ، نحن فى حالة ثورية ضمن ملحمة ثورية متصلة تعبر عن أنها تحمل فى طياتها جولات ،الثورة ليست جولة بل هى تعبر عن حالة متصلة وملحمة متواصلة حتى تحقق أهدافها فى مواجهة الثورة المضادة ومصالحها وتحالفاتها الدنيئة.
الاستمرار لا يعني
الانتظار. نعم للاصطبار على عهد الثورة ومسيرتها وإن طالت نسبيا، لكنه انتظار العاملين، الذين يتركون مواجهة غير متاحة لمسارات متنوعة ومتكاملة من الصمود والتعبير عن رفض التمكين للغزو الانقلابي وشرعنته. الاستمرار يعني تجديد نداء الثورة، تجديد العهد مع الشعب بكل فئاته وطوائف، تجديد الوعي بالتحدي الجديد ومخاطره على مستقبل الوطن ومعايش طبقاته وحريات أبنائه ومكانته بين الأمم، تجديد العزم على استكمال الثورة ومواجهة الثورة المضادة، تجديد السعي وعدم الاستسلام لحالة يريد الطغاة الجدد تأسيسه وتقنينه، والسعي للاصطفاف العام والنوعي والمواقفي، على مبادئ، على قضايا، على محاور المشترك الوطني والثوري.
الانتظار قد يعني منح الانقلاب فرصة تعميق جذوره الفكرية والنفسية والمؤسسية والنظمية والمادية؛ ومن ثم تحقق ما بشر به من قبل من نسيان مصر لثلاثين أو أربعين سنة، أو لجيلين من المعاناة والعذاب. الانتظار بغير وعي ولا سعي هو ما يحلم به الانقلابيون: وقت لراحتهم وتمعنهم في القمع والقتل والغصب وإرهاب مصر.
درس غزة المقاومة والعزة ودروس الثورات الحرة التي لا يعيها الغشيمون، يجب أن يعيه جيدا الأحرار والثوار، وقبل أن يفوت الأوان.