كتاب عربي 21

هل تعلمت تركيا دروس حرب الإرهاب

1300x600
يكشف الموقف التركي في التعامل مع مسألة عين عرب ــ كوباني، عن شكوك السياسة التركية تجاه المقاصد والنوايا الحقيقية للولايات المتحدة الأمريكية المتعلقة بالحرب على الإرهاب، وتبرهن السياسة الخارجية التركية عمليا عن بؤس المقاربة الإمبريالية والفاشية السلطوية في دعاوى مكافحة الإرهاب، فالمصالح القومية التركية لا تخضع لأهواء التحالفات المتقلبة والبلاغات الخطابية الباهتة، فعلى مدى سنوات عملت التحالفات الدولية والإقليمية على إسقاط حكومة العدالة والتنمية والنموذج التركي الديمقراطي الناجح، وهي تسعى اليوم لتوريطها في حروب خاسرة لا نهاية لها، لا تأتي على الآليات المنتجة للإرهاب، بل تعمل على ديمومته وتعميمه وإسناده بطرائق عديدة.  

منذ انطلاق الثورة السورية أصرت منظومة "أصدقاء سوريا" في المنطقة على إسقاط نظام الأسد السلطوي، لكنها لم تقدم نموذجا للحكم يختلف كثيرا عنه، وهي متهمة اليوم بدعم وإنتاج الإرهاب أمريكيا، وهي تهمة استباقية لا تهدف إلى محاربة الإرهاب، فالإمبريالية الداعمة للسلطوية هي الآلة الجبارة المولدة للعنف والإرهاب، فالشركاء الدوليين اللذين أطلقوا على أنفسهم "أصدقاء سوريا"، تخلوا اليوم عن مهمتهم التاريخية المزعومة بنصرة الثورة السورية، وأصبح الحديث عن جرائم الأسد شيئا من الماضي، أما إسقاطه فبات مغامرة لا معنى لها، فالسلطوية اليوم منشغلة بتثبيت سلطانها وزيادة قدراتها العسكرية البوليسية تحت شعار "حرب الإرهاب"، وقراراتها بالانضمام إلى التحالف الدولي لضرب تنظيم "داعش" الإرهابي لم يسمع به المواطنون إلا صبيحة بدء الضربات، دون التعرض لنظام الأسد الوديع الذي لم يقتل من شعبه سوى 300 ألف مواطن أغلبهم من الأطفال والنساء، وتشريد أكثر من 9 ملايين، ودون التعرض لمليشيات قاسم سليماني من ذوي القبعات الزرق وفرق السلام الأخضر.

لم تمارس الولايات المتحدة ضغوطات تذكر على حلفائها في المنطقة للانضمام إلى حفلات "حرب الإرهاب"، فقرار الحرب والسلام لا يتطلب عقد البرلمانات ولا استشارة الذوات، أما السياسة التركية بزعامة رجب طيب أردوغان، فلم تحفل كثيرا بضغوطات الولايات المتحدة لبذل المزيد من الجهد في محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية"، ولا لاستغاثات باراك أوباما، شخصيا، خلال خطابه في الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك، فالولايات المتحدة تدرك الفرق بين الأنظمة السلطوية والديمقراطية، ولذلك  عملت على ابتعاث كل من تشاك هاغل، وزير الدفاع الأمريكي، وجون كيري، وزير الخارجية، إلى أنقرة خلال الأسابيع الأخيرة، ثم أرسلت الجنرال جون ألين، كبير الضباط الأمريكيين سابقا في أفغانستان، والمنسق الأمريكي للتحالف الدولي لمحاربة "داعش" لمتابعة المشاورات وتذليل العقبات. 

تسعى واشنطن إلى إقناع أردوغان بالسماح لقوات لتحالف باستعمال قاعدة انجرليك الجوية في جنوب تركيا لشن الغارات الجوية، واستخدام المجال الجوي التركي، كما تطالب أنقرة بفرض قيود أكثر صرامة على تدفق الجهاديين والتمويل عبر تركيا إلى سوريا والعراق، بالإضافة إلى حرية حركة مقاتلي الجيش السوري الحر، والذي تخطط الولايات المتحدة لإعادة تأهيله تدريبه، إلا أن أردوغان ورئيس وزرائه أحمد داود أوغلو، كقادة لديهم مسؤولية تاريخية كحال الأنظمة الديمقراطية، أولوياتهم مختلفة، ويصرون على بناء منظومة متكاملة في "حرب الإرهاب"، تنظر إلى أسبابه وشروطه الموضوعية، وفي مقدمتها إسقاط نظام بشار الأسد، والتعامل مع تداعيات وتأثيرات وجود 1.6 مليون من اللاجئين السوريين، بالإضافة إلى 160 ألف من السوريين الأكراد الفارين من القتال حول بلدة كوباني السورية، وتطبيق إقامة منطقة عازلة آمنة وتنفيذ حظر جوي، كما طالبت أنقرة  بضمانات من حلف شمال الأطلسي إذا تعرضت تركيا لهجوم. 

لا تخفي القيادة التركية شكوكها وقلقها المتعلق بالدعم الغربي للأكراد السوريين المطالبين بالحكم الذاتي، الذين يحاربون حاليا داعش في سوريا، ذلك أن حزبهم الاتحاد الديمقراطي (PYD)، وجناحه المسلح وحدات حماية الشعب (YPG)، ينتميان إلى حزب العمال الكردستاني (PKK)، وهي منظمة إرهابية محظورة خاضت حروبا متقطعة ضد الدولة التركية لأكثر من ثلاثة عقود، فالأكراد يقاتلون الإسلاميين بدعم ضمني من نظام دمشق، حيث يأملون في انتزاع تنازلات سياسية تخدم مسعاهم في إقامة حكم ذاتي مستقل، وتركيا تنظر إلى "داعش" بنفس المنظار الذي ترى فيه حزب العمال الكردستاني الذي عمل مع أنصاره لأثارة الفوضى في عدد من الولايات التركية أسفرت عن قتل أكثر من ثلاثين شخصا كرديا من ذوي الميول الإسلامية المقربة من حزب العدالة والتنمية للضغط على أردوغان للتدخل وإنقاذ كوباني من السقوط.

تدرك تركيا بأن كل عضو في الائتلاف لديه أجندته الخاصة، ويتطلع أن يفعل الآخرون شيئا من شأنه أن يُحدث فرقا على أرض المعركة، ولذلك فهي تضع مصالحها القومية كأولوية قصوى، فعلى الرغم من أن البرلمان التركي وافق على السماح للقوات التركية بالعبور إلى سوريا والعراق، إلا أن تركيا لن تتدخل لمنع سقوط  منطقة كوباني، إلا إذا تعرضت لهجوم مباشر أو غيرت الولايات موقفها ومقاربتها الحالية في التعامل مع مسألة الإرهاب بعيدا عن الرطانات البلاغية الجوفاء، فقد برهنت تركيا على بؤس المقاربة الدولية في حربها على الإرهاب، وقدرة نظامها الديمقراطي على الصمود في وجه الضغوطات، لكن السؤال الذي ينتظر إجابة من الجميع، كيف سيتعامل التحالف مع تحدي تمدد تنظيم "الدولة الإسلامية"، مع غياب استراتيجية دولية فعالة، لا تزال تصر على التعامل مع المخرجات دون الالتفات إلى المدخلات، في منطقة تهيمن عليها الانقسامات والاستقطابات في محيط من الفوضى والتوحش وتغوّل السلطويات، وغياب الديمقراطيات، وهل ستنجو تركيا من لهيب الحرب، وتثبت رسوخ مقاربتها الديمقراطية وتدبير العلاقة بين الإسلام والحداثة على أساس العدالة والتنمية، وهل نجحت تركيا في فهم دروس حروب الإرهاب الفاشلة، يبدو حتى الآن أن تركيا قد تعلمت الدرس جيدا، ولن تتورط في معالجة المخرجات دون مقاربة تكاملية تأتي على المدخلات.