عقب سيطرة تنظيم
الدولة الإسلامية في
العراق والشام (داعش) على الموصل في 10 حزيران/ يونيو 2014، وتأسيس الدولة الإسلامية والإعلان عن قيام "
الخلافة" في 29 حزيران/ يونيو 2014، ومبايعة أبي بكر البغدادي خليفة للمسلمين، كانت التوقعات تشير إلى أن مسألة تأسيس "دولة" على يد تنظيم موسوم دوليا بــ"الإرهاب" لا يعدو كونه طرفة صادرة من خيال جامح لافتقاره إلى الأسس الأولية البدهية لمفهوم "الدولة القومية" الحديثة. أما فئة علماء الإسلام فتندروا بموضوعة "الخلافة" باعتبارها شططا يفتقر إلى الشروط الشرعية المعتبرة لقيام الحكم، وتناقض المقاصد التاريخية لدار الإسلام التاريخية، وشددوا على أن خلافة البغدادي موهومة.
مع صمود الدولة الإسلامية في وجه قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وغيرها من القوى المحلية والإقليمية، والاحتفاظ بسيطرتها المكانية على مساحات واسعة في العراق وسوريا وتمددها إلى بلدان عديدة وتأسيس ولايات متعددة، بدأ الجميع يقر بقوة الدولة الوليدة ويدرك طبيعة التغيّر في خريطة المنطقة الجيوسياسية، وبات العالم يتعامل مع دولة "الأمر الواقع". ومع مرور الوقت أخذت وسائل الإعلام الدولية تبتعد عن التسمية التقليدية القدحية الشائعة للتنظيم (داعش)، ولم تعد تصر على إضافة كلمة "المزعومة" أو "ما تسمى" وغيرها من الألقاظ، وأصبحت تطلق عليه "الدولة الإسلامية" دون تحفظ. أما وسائل الإعلام في العالم العربي فلا زالت متحفظة ومترددة؛ فالبعض لا يزال يصر على التسمية بداعش وأخذ بعضها بالتكيّف مع الحالة الراهنة ودولة الأمر الواقع.
على صعيد المجتمع الدولي، فقد بدأ بالتعامل مع الدولة الإسلامية كأمر واقع، ولعل مسألة الرهائن كانت مفتاحا للاعتراف، فقد أنجزت بعض الدول صفقات محددة بالفدية أو التبادل، وطالب معظمها بالتعامل مع الرهائن باعتبارهم أسرى حرب، وأصبح التشديد على "عدم عقد أية صلات مع الإرهابيين" و"عدم مكافأة الإرهابيين"، بلا جدوى ويفتقد إلى المعنى. وعلى الرغم من فشل معظم الصفقات إلا أن العديد من الدول قبلت مبدأ التفاوض المباشر أو عبر وسطاء، وبات الجميع يتحدث عن قوة أجهزة الدولة الوليدة ونظامها السياسي والاقتصادي ومؤسساتها العسكرية والأمنية وأجهزتها الإعلامية والبيروقراطية.
لم يكن ظهور الدولة الإسلامية مجرد مصادفة وحسن طالع، فقد برهن تنظيم الدولة الإسلامية منذ تأسيسه على صلابة بنائه الهيكلي ومتانة تكوينه التنظيمي، فقد عمل مبكرا على تطوير مؤسسات بيروقراطية صارمة، وأجهزة سياسية عسكرية مترابطة، فهو يعمل كمنظمة مركزية ذات إيديولوجية دينية شمولية تهدف إلى السيطرة والتوسع، ويقدم نفسه هوياتيا كممثل لإسلام سني ممتهن يتعرض لخطر التمدد الشيعي في المنطقة، كما يقدم نفسه مناضلا ضد الإمبريالية والدكتاتورية، وعلى الرغم من إصراره على تصوير ذاته كحركة سنيّة سلفية تسعى إلى إعادة الدين كحاكم للمجتمع والدولة وتطهيره من كافة البدع والمحدثات التي لحقت به عبر الزمان، إلا أنه متلبس بالحداثة التقنية الآلية ويستلهم الأطر التنظيمية الفاشية في تكوينه العسكري وجهازه البيروقراطي وبنائه الدعائي.
لقد حسم تنظيم الدولة الإسلامية مبكرا خياراته التنظيمية المتعلقة بالبناء الهيكلي باتجاه البنية المركزية للتنظيم، فقد شكلت آلية العمل التنظيمي أحد خطوط الصدع والاختلاف داخل الجهادية العالمية، ففي الوقت الذي تبنى فيه تنظيم القاعدة بنية تنظيمية لا مركزية وضع أصولها وآلية عملها المنظر الجهادي "أبو مصعب السوري" في كتابه "دعوة المقاومة الإسلامية العالمية"، انحاز تنظيم الدولة الإسلامية إلى أطروحات المنظر الجهادي "أبي بكر الناجي" في كتابه " إدارة التوحش"، الذي شدد على أهمية البناء الهيكلي التنظيمي المركزي.
تستند الدولة الإسلامية الوليدة في بناء وتكوين أفرادها على سلطة علمية موحدة، فالمرجعية الفكرية للدولة تقوم على أسس تتجاوز منظومة الجهاد التضامني ومنطق حروب النكاية، وتعتمد على تبني عقيدة قتالية تستند إلى إدارة التوحش وتحقيق التمكين، فاختيارات الدولة الاستراتيجية تعتمد على أطروحات أبي بكر ناجي في كتاب"إدارة التوحش: أخطر مرحلة تمر بها الأمة" وهي المرحلة الجهادية الانتقالية التي تفصل بين مرحلة بناء "شوكة النكاية" وتفضي إلى الوصول لمرحلة "شوكة التمكين"، أما على الصعيد الفقهي فقد اعتمدت على اجتهادات أبي عبدالله المهاجر وكتابه "مسائل من فقه الجهاد"، وخصوصا المسائل المتعلقة بأولوية قتال "العدو القريب" المتمثل بالمرتدين من الأنظمة العربية والإسلامية الحاكمة، وكذلك مسألة تكفير الشيعة عموما، ومعظم الخيارات الفقهية المتشددة الخاصة بالعمليات الانتحارية، ومسألة التترس، وعمليات الاختطاف والاغتيال، وقطع الرؤوس، وتكتيكات العنف والرعب.
لقد تطور البناء الهيكلي للدولة الإسلامية كمنظمة مركزية منذ تأسيس شبكة الزرقاوي (أحمد فضيل الخلايلة) في العراق عقب الاحتلال الأمريكي 2003، وعندما قتل الزرقاوي في 6 حزيران/ يونيو 2006، ترك لخلفائه منظمة متماسكة وقوية ونافذة، وقد تولى أبو عمر البغدادي (حامد داود الزاوي) وهو ضابط سابق في الجيش العراقي المنحل تأسيس "دولة العراق الإسلامية" في 15 تشرين الثاني/ أكتوبر 2006، وفي عهده تحول التنظيم إلى منظمة بيروقراطية أكثر مركزية، إذ تم الإعلان عن تشكيل حكومة الدولة الأولى عن طريق المتحدث الرسمي محارب الجبوري في المرحلة الأولى، وهي تشير إلى هيمنة المكون العراقي على مفاصل التنظيم، وغياب الجهاديين العرب والأجانب باستثناء المصري أبي حمزة المهاجر (عبد المنعم بدوي). وفي 22 أيلول/ سبتمبر 2009 أعلن التنظيم عن تشكيلة وزارية ثانية، وعندما أعلن عن مقتل أبي عمر البغدادي في 19 نيسان/ إبريل 2010، إلى جانب وزير حربه، أبي حمزه المهاجر، بادر تنظيم دولة العراق الإسلامية سريعاً في 16 أيار/ مايو 2010، إلى بيعة أبي بكر البغدادي (إبراهيم عواد البدري السامرائي)، وقد عمل منذ توليه على تطوير البناء الهيكلي من خلال ترسيخ مبدأ البيعة والطاعة، الأمر الذي يضمن مركزية التنظيم وسيطرة الخليفة على كافة مفاصل التنظيم.
وتعتمد البنية التنظيمية لـ"الدولة الإسلامية" على بيروقراطية مركزية شديدة، فالهيكل التنظيمي يرأسه "الخليفة"
أبو بكر البغدادي، وهو يشرف بشكل مباشراً على كافة "مجالس الدولة"، وهي تسمية استخدمها أبو بكر البغدادي عوضا عن تسمية الوزارات التي اعتمدها سلفه أبو عمر البغدادي، وتعتبر "المجالس" المفاصل الأساسية لتنظيم الدولة التي تشكل "القيادة المركزية". ويتمتع البغدادي بصلاحيات واسعة في تعيين وعزل رؤساء المجالس بعد أخذ رأي "مجلس الشورى"، الذي تبدو استشارته معلمة وغير ملزمة، فالقرار الأخير والفصل النهائي بعد التداول للخليفة البغدادي، وبفضل سلطاته "الدينية السياسية" الواسعة يتحكم في سائر القضايا الاستراتيجية، فهو صاحب "الأمر والنهي" في معظم القرارات الحاسمة.
عمل أبو بكر البغدادي على الاعتماد على العنصر العراقي في معظم المفاصل الرئيسية للتنظيم، وعلى الأعضاء العرب والأجانب في إدارة الوظائف المساندة؛ كالشورى والإعلام والتجنيد وجمع التبرعات، واحتفظ بصلاحيات شبه مطلقة في إعلان الحرب وتسيير الغزوات، واعتنى بتأسيس المجلس العسكري وألغى منصب وزير الحرب، وهو يتحكم بالمفاصل التنظيمية الهامة من أمن واستخبارات الولايات ومتابعة التنظيم، ومجلس الشورى، والمجلس العسكري، والجهاز الإعلامي، والهيئات الشرعية، وبيت المال،كما يتمتع بسلطة تعيين قيادات وأمراء الولايات في العراق وسوريا، وسائر الولايات التابعة الممتدة في العالم، كولاية سيناء وولاية خراسان وغيرها.
دخل التنظيم مع حقبة أبي بكر البغدادي في حالة من المركزية الصارمة، وتحول إلى تنظيم عسكري أمني شديد السرية والارتياب، إذ ساهم، منذ توليه إمارة التنظيم، في إعادة هيكلته، معتمدا في الجانب العسكري على ضباط عراقيين من الجيش العراقي المنحل ممن اعتنقوا المذهب السلفي، إذ يضم التنظيم أكثر من ألف قائد ميداني من قيادات الجيش العراقي السابق من المستويات العليا والوسطى وهم يتمتعون بخبرات فنية وعسكرية واستخبارية رفيعة، وقد ظهر ذلك جليا عقب سيطرة التنظيم على الموصل في 10 حزيران/ يونيو 2014، ثم إعلانه قيام دولة "الخلافة" في 29 حزيران/ يونيو 2014، حيث سارع بتعيين مجموعة من العسكريين كولاة، حيث تم تعيين العميد أزهر العبيدي محافظا للموصل والعميد أحمد عبد الرشيد محافظا لتكريت.
لقد تطورت الدولة الإسلامية من شبكة الزرقاوي إلى خلافة أبي بكر البغدادي مرورا بدولة أبي عمر البغدادي، من تنظيم سلفي جهادي إلى منظمة بيروقراطية عسكرية بالغة التعقيد، تستند إلى بنى تقليدية وأخرى حداثية، وكسائر الأنظمة "التوتاليتارية" تعتمد الدولة على أجهزة أمنية لضبط أمن المناطق التي تقع تحت سيطرتها وحكمها، وجهاز بيروقراطي يسيّر شؤون ولاياتها، ومؤسسة عسكرية لتأمين حدودها وتوسيع نفوذها، وأجهزة دعاية تقوم بالترويج لإيديولوجيتها وتقوم بنشر دعاية ترسخ صورة أساسية للمنظمة تستند إلى إقناع الجمهور بقوتها واستحالة هزيمتها.
كانت خطة إعلان قيام دولة "الخلافة" في 29 حزيران/ يونيو 2014، من قبل الدولة الإسلامية خطوة هامة في ترسيخ الهيكلية التنظيمية المركزية، ومنعا لأية تصدعات تنظيمية محتملة، فإعلان الخلافة هو السلسلة الأخيرة من حلقات استراتيجية الفرع العراقي المتمرد على تنظيم القاعدة، وهي الغاية النهائية لتحقق الرسالة الجهادية في التاريخ المشخص، وإذا كان تنظيم القاعدة يقوم على بناء شوكة النكاية من خلال تنظيم عسكري طليعي نخبوي لا مركزي عبر سياسات دفع الصائل استنادا إلى مفهود الجهاد الدفاعي، فإن الفرع العراقي المتمرد يقوم على تبني شوكة التمكين من خلال فرض السيطرة المكانية من خلال تنظيم مركزي، بجيش هجين تقليدي حداثي مركب عبر سياسات إدارة التوحش استنادا إلى مفهوم الجهاد الهجومي.
نجح تنظيم الدولة الإسلامية في الحفاظ على منظمة بيروقراطية مركزيته ممتدة، واستثمر نجاحه في بناء تحالف سني مع قوى وفعاليات وحركات عراقية على أسس هوياتية دينية، وتمكن من الظهور كدرع فعال في حماية وصيانة الهوية السنيّة الممتهنة بفعل سياسات المالكي الطائفية، وعلى مدى ثلاث سنوات من الاحتجاجات السنية السلمية في العراق والحراكات الاحتجاجية السنية المسلحة في
سوريا، برع التنظيم في البرهنة على خواء العملية السياسية وعدم جدوى المطالبات السلمية، وتصوير الصراع مذهبيا طائفيا بين السنة والشيعة، والتأكيد على غياب رؤية واضحة للدول السنية في المنطقة في التعامل مع ائتلاف شيعي متحد تقوده إيران. كما برهن تنظيم الدولة الإسلامية على فشل سياسات النخب السنية العراقية في توفير الحد الأدنى من العدالة ومواجهة فساد العملية السياسية التي بنيت منذ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 على أسس هوياتية مكنت المكونات الشيعية من الهيمنة تحت غطاء حكم الأغلبية. وبهذا تحققت رؤية التنظيم بأن الطائفية هي المحرك الأساس للسياسات المحلية والإقليمية، وقد بلغت مقولة المحركات الطائفية أوجها مع دخول الثورة السورية عامها الرابع مع التدخل الإيراني الصريح في دعم نظام الأسد العلوي، ومن خلال الدفع بالمليشيات الشيعية العراقية وحزب الله اللبناني بصورة فجة، الأمر الذي أقنع قوى سنيّة فاعلة بمبايعة الدولة الإسلامية والعمل تحت قيادتها، إما بيعة إمامة أو بيعة قتال، وفي مقدمتها المجالس العسكرية المكونة من بعض أفراد الجيش العراقي السابق، والعناصر العشائرية المسلحة ومعظم جماعات المقاومة العراقية، أمثال: "الجيش الإسلامي"، و"حماس العراق"، و"كتائب ثورة العشرين"، و"جيش المجاهدين"، و"أنصار السنّة" و"جيش الطريقة النقشبندية".
تقسم الدولة الإسلامية المناطق الواقعة تحت سيادتها ونفوذها إلى وحداتٍ إدارية يطلق عليها اسم "ولايات"، وهي التسمية الإسلامية التاريخية للجغرافيا السكانية، ويتولى مسؤولية "الولايات" مجموعة من الأمراء، وهي التسمية المتداولة في التراث السياسي الإسلامي التاريخي. ويبلغ عدد الولايات التي تقع ضمن دائرة سيطرة التنظيم أو نفوذه 16 ولاية، نصفها في العراق، وهي: ولاية ديالى، ولاية الجنوب، ولاية صلاح الدين، ولاية الأنبار، ولاية كركوك، ولاية نينوى، ولاية شمال بغداد، ولاية بغداد، ونصفها الآخر في سوريا، وهي: ولاية حمص، ولاية حلب، ولاية الخير (دير الزور)، ولاية البركة (الحسكة)، ولاية البادية، ولاية الرقة، ولاية حماة وولاية دمشق. وتقسّم "الولايات" إلى "قواطع"، ويتسلسل البناء الهيكلي في الولايات والقواطع بترتيب تنظيمي صارم، يتضمن الأمير العسكري والأمير الأمني والأمير الشرعي والأمير الإداري ثم الكوادر.
تعتبر الدولة الإسلامية من أكثر المنظمات الجهادية العالمية تطورا على المستوى الهيكلي التنظيمي والفعالية الإدارية، ويعتبر المجلس العسكري الأهم نطرا لطبيعة التنظيم المسلحة، فقد تطورت أبنية الدولة التنظيمية بالاستناد إلى المزاوجة بين الأشكال التنظيمية الإسلامية التقليدية، التي تكونت مع مؤسسة الخلافة، وتنظيرات الفقه السلطاني الذي يؤسس لمفهوم الدولة السلطانية، إذ يقوم على مبدأ الغلبة والشوكة والإمارة، إلى جانب الأشكال التنظيمية الحداثية لمفهوم الدولة الذي يستند إلى جهاز عسكري أمني وآخر إيديولوجي بيروقراطي، ومنذ السيطرة على الموصل تضاعف عدد أعضائه ليصل إلى أكثر من (100) ألف مقاتل، من العراقيين والسوريين، ويضم في صفوفه أكثر من (10) الآف مقاتل من العرب والأجانب، إلا أن البنية الأساسية لقوات النخبة تصل إلى حدود (25) ألف مقاتل.
خلاصة الأمر؛ أن الدولة الإسلامية الممتدة من العراق إلى سوريا فضلا عن ولاياتها المتباعدة المنتشرة في العالمين العربي والإسلامي باتت أمرا واقعا، وهي تفرض سيادتها وحكامتها على مساحات واسعة، وآجلا سوف يتعامل الجميع مع دولة الأمر الواقع رغم نكرانها وعداوتها، وعدم رضى كافة دول العالم عن نهجها العنيف وطرائقها المرعبة، واعتبارها "إرهابية"، ربما تفسر حالة المستوطنة الاستعمارية (إسرائيل) كيف يمكن للدولة الإسلامية أن تستمر وتبقى إلى أمد بعيد.