ابتليت
الثورة السورية منذ انطلاقها منتصف آذار/ مارس 2011 بمناخ دولي تهيمن عليه منظورات "
الإرهاب"، وهو مصطلح شاع وانتشر منذ أن ضعت الحرب الباردة أوزارها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المنظومة الاشتراكية 1989، حيث طورت الولايات المتحدة الأمريكية كإمبراطورية إمبريالية مع حلول العولمة منظورا جديدا للأمن القومي يستند إلى تحديد مصادر التهديد على أسس استراتيجية استشراقية وثقافوية تضع "الإرهاب الإسلامي" المتخيل في دائرة الأعداء، وقد منحت هجمات 11 سبتمبر 2001 زخما إضافيا لتعزيز منظورات "حرب الإرهاب"، التي تم استنساخها كونيا، وقد صنع العقل الدولي عدوا متخيلا لا يمكن تحديده والإمساك بكينونته كي يتسنى توظيفه وتطويعه لتحقيق المصالح القومية والوطنية تحت ذريعة حفظ الأمن والسلم والاستقرار، بحيث تحول "الإرهاب" إلى مسألة ذاتية لا تستند إلى محددات موضوعية، تخضع لجبروت القوة والمصلحة، ولا مكان لها في المباحث الأخلاقية.
في سياق الربط المحكم بين "الإرهاب" الكوني و"الإسلام" السني، كتب على فصائل الثورة السورية المسلحة أن تتخلى عن هويتها الدينية الإسلامية السنية، فعلى الرغم من تأكيدات الفصائل الإسلامية السنية المتواترة على تنوع المكونات الهوياتية الإيديولوجية والإثنية والدينية لسورية، وتشديدها على صون حقوق الأقليات والمكونات المختلفة، إلا أن المجتمع الدولي يرفض تلك التأكيدات في ذات الوقت الذي يسمح ويشجع ويدعم أي تشكيل أو فصيل سياسي أو عسكري سوري يقوم على أسس هوياتية دينية مذهبية أو عرقية إثنية بحيث يجري الاحتفاء والتمويل والتسليح لفصائل كردية أو مسيحية ولأي مكون مستعد للتخلي عن هويته السنية والدخول في أفق هويات غيرية، وإذا كانت الولايات المتحدة خصوصا والأنظمة الغربية عموما متلبسة بسياسات الهوية منذ اللحظة الكولينيالية، فإن المقاربة الروسية أكثر فجاجة في الحالة السورية فقد أعلنت صراحة رفضها لدولة سنية ودعمها وإسنادها لدولة علوية أو أقليات غير سنية.
منذ التدخل الروسي في سورية منذ أيلول/ سبتمبر الماضي ذهبت المقاربة الروسية بعيدا في مسألة الهوية والإرهاب، بحيث أصبحت كافة الفصائل الإسلامية السنية في سجن الإرهاب، وعلى الرغم من فجاجة ووقاحة المقاربة الروسية، إلا أنها لا تختلف كثيرا على صعيد البراغماتية الواقعية عن المقاربة الأمريكية الأوروبية، بل لا تبتعد كثيرا عن المقاربة العربية، إذ تبدو المقاربات المختلفة متوافقة على إرهابية الفصائل الإسلامية السنية السورية، فقد أذعنت الدول العربية الإسلامية لمقاربات الهوية السنية والإرهابية الكونية، ففي سياق البرهنة على وجود معتدلين سنة تضمن بيان مؤتمر الرياض لفصائل الثورة السورية على ضرورة التخلي عن مسألة هوية الدولة السورية الإسلامية، وذلك من خلال التأكيد على أن هوية الدولة السورية المستقبلية مدنية ديمقراطية وخلا البيان من أي إشارة دينية إسلامية.
لقد بات جليا وفق المقاربة الدولية أن سورية يمكن أن تتلبس بهويات جنونية سوى الهوية السنية، التي باتت تكافئ الهويات الإرهابوية، ففي سياق البحث المضني والشاق عن المعتدلين داخل فصائل الثورة السورية بحسب المواصفات الأمريكية والروسية، لم يعثر سدنة الهويات عن هويات سنية اعتدالية، حيث فشلت محاولات الحركات السنية في البرهنة على مفارقتها للصفة الإرهابية، ذلك أن لعبة الهوية والإرهاب والاعتدال تتبع المصالح الاستراتيجية، ولا تنطوي على حسابات تصنيفية خاطئة، فلم تجدي تصريحات أبو محمّد الجولاني زعيم جبهة النصرة (قاعدة الجهاد في بلاد الشام) الموضوعة على لائحة الإرهاب، الرامية لتطمين الغرب وأمريكا نفعا، ولن تؤدي النزعة البراغماتية التي تقوم على الحفاظ على علاقات ودية مع كافة فصائل الثورة السورية، وتجنب الصدام مع كافة القوى المحلية والإقليمية والدولية إلى عملية استدخال، ومهما قدمت من تطمينات بعدم فرض رؤيتها حول مستقبل سوريا واعتماد منهج الشورى في تدبير الخلافات وإدارة المناطق المحررة، والحرص على تقديم الخدمات والإغاثة للجميع، وعدم الانفراد في تحديد شكل الحكم، وتأجيل موضوعة تطبيق الحدود وإقامة الشريعة.
أما محاولات حركة أحرار الشام تقديم نفسها كحركة معتدلة فهي فاشلة كنظيرتها النصرة، إذ لا يعني كونها ليست على قوائم الإرهاب الأمريكية والأوروبية، أن تصبح عضوا في نادي الاعتدال ، ولن تفلح محاولات قادتها الجدد باستدخالها، فالتصريحات المعتدلة لقائد الحركة السابق هاشم الشيخ المعروف بأبو جابر الشيخ، وحديثه عن مستقبل سورية في ظل "حكم بدستور مصدره الإسلام"، و"حكومة منبثقة عن اختيار الشعب"، لا معنى لها، ولا تخرج محاولات
جيش الإسلام عن نظيراتها، فحديث الاعتدال والديمقراطية والتعددية والشراكة، أقرب إلى الخرافات، فقد استهدفت العمليات الروسية قادة فصائل الاعتدال المتخيل، حيث طالت قائد جيش الإسلام
زهران علوش، ولم نسمع من المجتمع الدولي بيانا شكليا يستنكر الحادثة، الأمر الذي يكشف عن التماهي الأمريكي الروسي في مسألة الإرهاب السني.
إن مقاربة الهوية والإرهاب في الحالة السورية لن تتغير، ولن تجدي خطابات القائد الجديد لجيش الإسلام
عصام بويضاني "أبو همام " بالتمسك بنهج الاعتدال شيئا، فخلاصة القول أن المجتمع الدولي يتعامل مع الفصائل الجهادية السورية من منظورات الهوية والإرهاب، فمسألة الإرهاب والاعتدال ذاتية وغير موضوعية، وهي تخضع للمصالح الاستراتيجية وتوزيعات القوة، فالغرب والولايات المتحدة عموما وروسيا خصوصا لا تفتقر إلى الموضوعية بسبب الالتباس وسوء الفهم والتقدير، بل هي تتبع ببساطة مصالحها الحيوية، وقد حسمت أمريكا وروسيا خياراتها وحددت منظومة أعدائها وأصدقائها، ولا يقع الإسلاميون السنة على اختلاف توجهاتهم الجهادية ضمن دائرة الأصدقاء بل في دائرة الأعداء المحققين أو المفترضين.