يسعى الكاتب والباحث المصري
أحمد فهمي، في كتابه (هندسة
الجمهور.. كيف تغير وسائل الإعلام الإفكار والتصرفات)، الصادر سنة 2015 عن مركز البيان للبحوث والدراسات، إلى تقديم إجابة مفصلة، ومدعمة بالأدلة والشواهد عن سؤال كتابه المركزي المضمن في عنوان الكتاب.
يصدر المؤلف عن تصور يرى أن وسائل الإعلام قادرة على "برمجة الجمهور وإعادة صياغته عن طريق غرائزه ودوافعه" وبالتالي فهي قادرة على تحويل الجمهور إلى "مفعول به" قابل للخداع، خاضع للتأثير، موضوع للتلاعب، ولا يزال ذلك الاتجاه هو السائد في مجال الدعاية والإعلام في مختلف أنحاء العالم حتى الآن" وفقا للكتاب.
وفي هذا السياق يخاطب فهمي قارئ كتابه قائلا: "اجلس مع نفسك متأملا، وحاول أن تحدد المصدر الرئيس لأفكارك ومعلوماتك وقناعاتك؟ ثم أجب عن هذا السؤال: ما الذي يضمن أنك لم تتعرض إلى خديعة، بل خدع كثيرة، وأنك بالفعل صدقت ما هو أفظع من غزو المريخ دون أن تدرك؟.
يتابع فهمي توجيه أسئلته لقارئه "ما الذي يمنع أن تكون سلوكياتك وردود أفعالك في مجالات متعددة متأثرة ـ لا شعوريا ـ بما تتلقاه يوميا من رسائل إعلامية صيغ أكثرها بعناية فائقة لتحقق هدفا واحدا هو: إعادة صياغتك على النحو الذي يتوافق مع مصالح النخبة المسيطرة؟".
وبيانا لما أراد فهمي قوله وعرضه في كتابه أوضح أن "فصول كتابه تعرض بعضا من أهم النظريات الإعلامية والنفسية الموظفة في مجال التأثير على الجمهور وبعبارة أخرى: هي تُعرف القارئ بأهم الأساليب المتبعة في خداعه والاستحواذ عليه إعلاميا، ثم التحكم فيه فكريا وسلوكيا".
من جانب آخر تُشكل الأسئلة التي طرحها الكتاب حول جدوى إنفاق ملايين الدولارات من قبل جهات رسمية وغير رسمية، ورجال أعمال متنفذين على مؤسسات إعلامية، مدخلا هاما لفهم وإدراك طبيعة الدور الذي يناط بوسائل الإعلام القيام به، فأغلب المشاريع الإعلامية، خاصة في عالمنا العربي مشاريع غير ربحية، بل هي موجهة ومعدة لخدمة مصالح القائمين عليها، وكما قيل هم يزرعون هنا، ويحصدون هناك.
ومع أن مادة الكتاب أقرب ما تكون إلى المقالات الصحفية المجمعة، التي يغيب عنها ـ غالبا ـ النفس البحثي الرصين، وتفتقر في الوقت نفسه إلى التماسك المطلوب بين فصول الكتاب المختلفة، إلا إنها سلطت الأضواء على دوافع وسائل الإعلام الحقيقية التي تحدد مساراتها وتضبطها وفق أجندات محددة لها مسبقا، والكاشفة عن طبيعة الدور الذي يراد لها الاضطلاع به، خدمة لمصالح القائمين عليها، وترويجا لما يراد له أن يشيع وينتشر من أفكار ورؤى في أوساط الجمهور المستهدف.
وخلافا لما هو متعارف عليه في تحديد وظيفة الإعلام، والمتمثلة في تغطية الأخبار ونقلها وتحليلها، فإن الكتاب يرى أن "المهمة الحقيقية للإعلام ـ بحسب الأمر الواقع ـ هي إعادة تشكيل الواقع، وإعادة تغليفه، ثم تقديمه للناس في صورته الجديدة، وهذه الفرضية تنطبق على أغلب وسائل الإعلام، وتشمل كل ما يقدم عبرها من "الصابونة إلى الرئيس"!.
استراتيجيات التأثير (الخداع) الإعلامي"
يعتبر الإعلام أحد تطبيقات وفروع علم الاتصال بمعناه الواسع، وتقوم عملية الاتصال الجماهيري على خمسة عناصر أساسية (المرسل، الرسالة، الوسيلة، المتلقي (الجمهور المستهدف)، التأثير المطلوب)، ولأن مؤلف الكتاب يصدر عن قناعة ترى أن "الخداع الإعلامي" يكاد يكون "لغة عالمية" متفق عليها بين وسائل الإعلام بغض النظر عن مستويات الذكاء أو الحريات، فقد أفرد مساحة واسعة لإلقاء الضوء على ما أسماه "أهم النظريات والمفاهيم والإستراتيجيات المستخدمة في ممارسة "الخداع" أو ما يُطلق عليه أكاديميا "التأثير" الإعلامي".
تحدث الكاتب مطولا عما أسماه خدعة (الإعلام لا يكذب) والتي جعلت الجمهور المستهدف أسيرا لما تنشره وسائل الإعلام باعتبارها مصدرا موثوقا لا يكذب، ويتهم الكتاب الإعلام بأنه لا يقدم تصورا دقيقا أو أمينا للواقع، لأنه للأسف يتحرك في غالبه بدوافع تتعلق بمن يموله وليس بمن يشاهده، لذلك فإنه يقدم للمشاهد: صورة محرفة عن الواقع، ويتمثل التحريف في اتجاهين رئيسين:
الأول: تبسيط الواقع أو تضخيمه، بحسب الغاية والمصلحة.
الثاني: تقديم واقع خيالي بعيد تماما عن الحقيقة.
ولأن الكاتب متشبع بالفكرة القائلة إن الإعلام يمارس قدرا كبيرا من الكذب والخداع على مدار الساعة، فقد خصص مساحة واسعة من كتابه "لكشف خدعة (الإعلام لا يكذب)، وللتأكيد على حقيقة مريرة (كما يراها الكاتب)، وهي أن: أغلب وسائل الإعلام لا تتوقف عن خداع الجماهير لحظة واحدة، سواء كانت تلك الوسائل منصة يتحكم بها: السياسيون أم رجال الأعمال".
ويرى المؤلف أن "التأثير الأخطر للإعلام يتمثل في أنه يساهم بدرجة كبيرة في تشكيل إدراكنا للواقع، وإذا قلنا إن الإنسان يتفاعل مع الواقع بحسب تصوره له، فإن الجهة التي تشكل إدراك الإنسان لواقعه، تتحكم فيه حرفيا" وهي هنا بحسب الكتاب وسائل الإعلام المختلفة.
اختار المؤلف جملة من المقولات والعناوين أسماها "قواعد" في سياق حديثه عن مظاهر "الخداع الإعلامي"، رأى أنها بمجملها تكشف عن مظاهر وتجليات ذلك الخداع، من أبرز تلك القواعد بحسب الكتاب المقولة الدارجة (من يدفع للزمار يختار اللحن) في إشارة منه إلى أن وسائل الإعلام موجهة وتؤدي رسائل محددة، وهي لا تخرج عن خدمة مصالح مموليها والمنفقين عليها.
ووفقا للكتاب "فنحن لا نتحدث هنا عن سوق للأعمال الخيرية، بل عن مصالح اقتصادية وثقافية وسياسية، يرى أصحابها أنها تستحق أن يدفعوا لتحقيقها المبالغ الطائلة من أجل التحكم في الرأي العام، إذن نحن نتحدث عن "إعادة توجيه"، عن "توليد سلوكيات" لم تكن موجودة، عن "تغيير قناعات"، وهذه العملية برمتها تسير بحسب "بوصلة الممولين" وليس "خريطة مصالح الجمهور أو هويته أو قيمه"، وهذا هو ما نطلق عليه "الخداع" على حد قول المؤلف.
الإعلام والخريطة الإدراكية للجمهور
طرح المؤلف السؤال التالي: هل جربت يوما أن تحدد سؤالا يتعلق بالواقع، ثم تطرحه على عدة أشخاص من معارفك متنوعي الثقافة والتوجهات؟ حاول أن تفعل، وليكن سؤالك هو: كيف ترى نهاية الصراع بين العرب واليهود في فلسطين؟ ستفاجأ بإجابات متناقضة لدرجة مضحكة أحيانا، برغم التشابه العام بين هؤلاء الأشخاص في خصائص كثيرة.
تساءل المؤلف: ما الذي يجعل الاستجابة متنوعة ومتفاوتة تجاه الشيء نفسه إلى هذه الدرجة؟ فكان الجواب: إنه ما يعرف بـ"النظام الإدراكي المعرفي للإنسان"، وأرجع المؤلف إلى ما أسماه "الخريطة الإدراكية" مسؤولية تحديد ما يراه الإنسان في هذا الواقع الخام، فهي تستبعد وتهمش بعض التفاصيل فلا يراها، وتؤكد البعض الآخر بحيث يراها مهمة ومركزية.
ووفقا لملاحظة المؤلف فثمة "ثلاث إستراتيجيات مختلفة للتعامل الإعلامي الدعائي مع الخريطة الإدراكية للجمهور، وهي: التوظيف، التعديل، التنميط". فعن طريق تحليل الخريطة الإدراكية للجمهور يمكن صياغة الرسالة الإعلامية بحيث تتناسب مع تلك الخريطة، لتكون أكثر تأثير ولتحقق مستوى مرتفعا من الاستجابة، وأيضا لتهميش القدرات الدفاعية لدى المتلقي العادي بدرجة كبيرة.
أما تعديل الخريطة الإدراكية للجمهور فإن "الإعلام الموجه يسعى إلى تعديل النظام الإدراكي بصورة مستمرة من خلال ترسيخ بعض المزاعم وتحويلها إلى مسلمات، ومن خلال حذف وإضافة بعض المكونات والأفكار، لإعطاء صورة مزيفة عن الواقع" بحسب تقريرات الكتاب.
ويرى المؤلف أن "الوسيلة الأسهل لتعديل الخريطة الإدراكية، هي إغراق الجمهور بمعلومات كاذبة تجبره على تغيير تصوره عن الواقع كما هو في الحقيقة، ليستبدله بصورة أخرى زائفة". واعتبر المؤلف "الحقبة الناصرية" من أكثر الفترات التاريخية التي تذخر بنماذج متنوعة عن "صناعة الصور الزائفة" عن الواقع بكل مفرداته: الزعيم، الأعداء، الأمة، الشعب..إلخ، وقد استُخدمت في ذلك كل وسائل الإعلام.. جرى ذلك كله لـ"هندسة إدراك" الجمهور بما يخدم النظام السياسي القائم ويغطي على هزائمه ونكساته المتتالية.
وبخصوص "تنميط الخريطة الإدراكية" فإن الإعلام يسعى في الدولة الشمولية إلى إعادة تشكيل الأنظمة المعرفية لأفراد الشعب بما تتضمنه من ثقافات وخبرات وقيم وعادات وتقاليد.. إلخ، بغية الوصول إلى مجتمع متجانس في تصوراته يتكون من نماذج نمطية متشابهة تعطي الاستجابات نفسها تجاه متطلبات النظام، على حد وصف المؤلف الذي اعتبر نموذج "كوريا الشمالية" من أبرز النماذج التي تعد سابقة في التاريخ البشري، في سعي الدولة لإخراج "نموذج موحد".
لعل الرسالة الأهم التي أراد المؤلف إيصالها عبر صفحات كتابه هي ما عبر عنها بقوله: "الخلاصة هنا، أن ما يعرضه الإعلام ربما لا يكون إلا قمة جبل الجليد، التي تخفي وراءها قدرا كبيرا من التخطيط والجهود والتكنولوجيا، التي تستهدف ليس فقط توليد بعض الأفكار أو السلوكيات المتناثرة، كلا، فنحن نتحدث عن "هندسة المجتمع" بصورة شاملة".