كان للشهيد الأستاذ سيد قطب توجه قبل تحوله للفكرة الإسلامية يختلف عما انتهى إليه، واشتهر به، ومن مواقفه قبل تحوله وكتاباته، موضوع أثير حول دعوته رحمه الله لعري الشواطئ، وهل صح ذلك عنه أم لا؟ والقضية أتناولها اليوم ليستلهم الجميع منها دروسا مهمة في حياتنا الفكرية والسياسية والدعوية في التعامل مع من يحمل فكرة مخالفة، ولو كانت أقصى توجهنا.
وقد أنكر هذا المقال وصحة نسبته للأستاذ سيد قطب عدد من الكتاب والمفكرين إسلاميين وغير إسلاميين، منهم: الشيخ يوسف القرضاوي، والدكتور صلاح الخالدي، وعدد آخر، بل حتى من الكتاب القوميين كوزير الثقافة المصري الحالي حلمي النمنم، وغيرهم، ولكن المقال ثابت للأستاذ سيد، وقد نشر في جريدة الأهرام بتاريخ: 7/10/1937م تحت عنوان: (خواطر مصيف: الشواطئ الميتة)، ومما جاء فيه قوله:
(أما حديث (الأجسام العارية) فقد كان لي فيه رأي منذ سنوات، لا بأس من إبدائه:
إن الذين يتصورون العُرْي على الشاطئ في صورته البشعة الحيوانية المخيفة جد واهمين، وهم: إما لم يذهبوا إلى الشاطئ، ولكن قرأوا أو رأوا الصور منشورة في الصحف، وإما ذهبوا وفي نيتهم أن ينتقدوا، فعاشوا في هذه الصورة الخيالية المشوهة في أذهانهم، ولم يعيشوا على الشاطئ والأمواج.
ليس في الجسم العاري على (البلاج) فتنة لمن يشاهده ويراه في متناول عينه كل لحظة. وفتن الأجسام هناك، هي المستترة في (البرنس) أو (الفستان)، أما في (المايوه) فهي لا تجذب ولا تثير. وإن أثارت شيئا فهو الإعجاب الفني البعيد -بقدر ما يستطاع- عن النظرة المخوفة المرهوبة!
لقد كنت أحسبني وحدي في هذه الخلة، ولكني صادفت الكثيرين، ممن لم يوهبوا طبيعة فنية، ولا موهبة شعرية، فلاحظت أن (الأجسام) تمر بهم عارية فلا تثير كثيرا من انتباههم، بينما تتسع الحدقات وتتلفت الأعناق إذا خطرت فتاة مستترة، تخفي الكثير وتظهر القليل. وحادثتُهم في ذلك، فصدقوا رأيي.
فالذين يدعون إلى إطالة (لباس) البحر وإلى ستر الأجسام بالبرانس، إنما يدعون في الواقع إلى إثارة الفتنة النائمة، وإيقاظ الشهوات الهادئة، وهم يحسبون أنهم مصلحون!
إن صورة واحدة عارية مما ينشر في الصحف، أفتن من شاطئ كامل يموج بالعاريات، لأن الصورة المصغرة، تثير الخيال، الذي يأخذ في تكبيرها والتطلع إلى ما وراءها من حقيقة. وهذا هو الخطر. أما الجسم العاري نفسه فليس فيه ما يثير الخيال، لأنه واضح مكشوف.
أطلقوا الشواطئ عارية لاعبة أيها المصلحون الغيورون على الأخلاق، فذلك خير ضمان لتهدئة الشهوات الجامحة، وخير ضامن للأخلاق).
وبعد صدور المقال دار نقاش طويل بين الإمام الشهيد حسن البنا والأستاذ محمود عبد الحليم مؤرخ الإخوان المعروف صاحب الكتاب الأشهر في تاريخ الجماعة (الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ) في الجزء الأول منه ص: 190-192. وقد كتب مقالا يرد فيه على سيد قطب، فكان لحسن البنا رأي آخر، في حوار مهم مختصره ما يلي:
قال حسن البنا: (أولا: لا شك في أن فكرة المقال فكرة مثيرة تجرح قلب المؤمن).
ثانيا: كاتب هذا المقال شاب متأثر بالبيئة التي تعرفها ونعرفها جميعا، وهي التي تغذيه بمثل هذه الأفكار.
ثالثا: إن هدف هذا الشاب من كتابة هذا المقال ليس هو مجرد التعبير عما يؤمن به، وإنما هو محاولة جذب الأنظار إليه على أساس عرفهم من أن الغاية تبرر الوسيلة.
رابعا: إن قراء (الأهرام) عدد محدود بالنسبة لسكان هذه البلاد. وليس كل قراء (الأهرام) قد قرأوا هذا المقال، فأكثر قراء الأهرام لا يقرأون فيه إلا الأخبار، وأكثر الذين قرأوا المقال لم يستوعبوا فكرته لأنهم اعتادوا قراءة المقالات غير الرئيسية قراءة عابرة.
خامسا: إذا نشرنا ردا على هذا المقال في (الأهرام) كانت لذلك النتائج الآتية:
أـ سيثير نشر الرد اهتمام الذين لم يقرأوا المقال الأصلي إلى البحث عنه وقراءته، كما سيدفع الذين قرأوه قراءة عابرة أن يقرأوه مرة أخرى قراءة متأنية، وستبرز بذلك فكرة المقال في مختلف المجتمعات وتكون موضوع مناقشة واهتمام .. ونكون بذلك قد عملنا – من حيث لا نقصد – على تحقيق مأرب صاحب المقال من جذب الأنظار إليه وجعل اسمه على الألسنة.
ب ـ نكون – من غير قصد- قد تسببنا في لفت الأنظار إلى لون من الرذائل ربما علقت به بعض النفوس الضعيفة ولو لم نرد عليه لموت الدعوة إلى هذه الرذائل في غفلة من الناس غير معارة أي اهتمام ولطمرت في طيات النسيان.
جـ ـ الرد نوع من التحدي، والتحدي يخلق في نفس المردود عليه نوعا من العناد، وهذا العناد يجعله يتعصب لرأيه مهما اقتنع بخطئه، ونكون بذلك قد قطعنا عليه خط الرجعة؛ وفي هذا خسارة نحن في غنى عنها.
وهذا الكاتب شاب وترك الفرصة أمامه للرجوع إلى الحق خير من إحراجه.. وما يدريك لعل هذا الشاب يفيق من غفلته، ويفيء إلى الصواب، ويكون ممن تنتفع الدعوة بجهوده في يوم من الأيام).
فمزق محمود عبد الحليم مقاله، واقتنع بفكرة حسن البنا التي كانت توصي بعدم الرد. وصدق حدس البنا وفراسته، وأصبح لسيد قطب مكانته المعروفة، وذلك بفضل تعامله مع الموقف بحنكة وحكمة، وصار درسا للجميع في كيفية التعامل مع الأفكار المخالفة، ولو كانت صادمة، وظل الدرس موضع مقارنة بين البنا وغيره، وبين قيادة وقيادة، وبين من ساروا على نهجه، ومن خرجوا عنه بفكر لا علاقة له بالبنا ولا بدعوته، بل له علاقة بالجهل بالناس، والجهل بالتعامل معهم، وتنفير الناس من دعوة الله، والاهتمام بالحكم على الناس، لا الاهتمام بدعوتهم وهدايتهم. فرحم الله العملاقين الكبيرين: حسن البنا، وسيد قطب، ورحمنا الله ممن خالفوهما.
(تنويه): العبارات التي بالخط العريض في كلام الأستاذ سيد قطب ليست من وضعي، بل من وضعه هو رحمه الله، يبدو ليلفت نظر القارئ لكلامه وفكرته.
Essamt74@hotmail.com