لن يكون من الممكن لأي نظام استبدادي أن يتأسس ويقوم دون أن يصنع له منظومة ثقافية قادرة على صناعة الغلاف الرمزي للنظام الجديد. هكذا نشأ مفهوم المثقف أو بالتحديد "مثقف السلطة"، الذي يرتبط ارتباطا عضويا بالنظام الحاكم فيروج لأطروحاته ويدافع عن شرعيته ويصنع النسيج الثقافي أو المعرفي الرمزي، الذي تتأسس عليه صورة النظام مهما كانت خلفية هذا النظام ونظرية الحكم التي يمارسها.
نخب الاستبداد
تأقلمت أغلب النخب العربية مع النظام القائم وأمدته بالشرعية التي يحتاج إليها. ففي النظم الجمهورية المؤسسة على الفكرة القومية مثلما هو الحال في مصر أو سوريا أو ليبيا أو العراق، نجحت النخب المحلية في ربط النظام القائم بالفكرة الكلية التي تتأسس عليها نظريتها لممارسة السلطة. أما في المنظومات الملكية الوراثية المؤسَّسة على الفكرة الدينية، فقد اجتهدت المدارس والمرجعيات على جعل المعطى الديني في قلب نظرية الحكم، وطوعت النصوص الدينية والأحكام الشرعية لصالح النظام السياسي.
وفي الأنظمة المتأرجحة بين المنوالين مثلما هو الحال في تونس والجزائر ولبنان مثلا، فقد اكتفت النخب المحلية بتزيين صورة النظام وتأسيس مقولاتها على المعطيات الحادثة، دون الاندماج في نسق كلي مثلما هو الحال مع النموذجين السابقين.
لا وظيفة لنخب الاستبداد إلا الدفع بالنظام نحو الهاوية لأنها تتحول مع الزمن إلى جزء من الوهم والإيهام
كانت فكرة المقاومة والممانعة في قلب الخطاب القومي في سوريا والعراق وليبيا، التي انكشفت بعد سقوط الأنظمة عن مجموعة من أبشع الأنظمة الدموية التي فتحت بلدانها لكل الغزاة. كانت فكرة الثورة وتحرير فلسطين ومحاربة الرجعية وبناء المجتمع التقدمي الاشتراكي من ضمن الشعارات التي تاجرت بها النخب القومية عقودا من الزمن، قبل أن تندلع الثورة فتحاربها النخب نفسها التي نادت بها ودعت إليها.
الدين في قلب السلطة
أما الأنظمة الوراثية والملكية، فقد اعتمدت في الخليج خاصة على المقولات الدينية التي تضفي على السلطة السياسية صبغة القداسة وتمكّنها من غطاء سميك من الشرعية السماوية، فنخب الأنظمة الوراثية هم في الغالب الأعم من شيوخ الدين والعلماء والفقهاء الذين اختاروا الالتزام بمقولات السلطة السياسية، والدفاع عنها مهما كان سندها. بل لقد تحولت السلطة الدينية إلى أداة مباشرة في يد السلطة السياسية كما هو الحال في مصر أو في السعودية مثلا، فقد بارك الأزهر الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي ومنح علماء السعودية كل أنواع الفتاوى للنظام، وذلك حسب الطلب.
لكن الخطير في وظيفة نخب الاستبداد من ذوي النزعة الدينية، أنهم يمنحون السلطة الدنيوية غطاء قدسيا خطيرا يجعل من نقد هذه السلطة أو نصحها جرما يصل إلى مرحلة التكفير وإهدار الدم، وهو ما يُنتج أخطر الأنظمة الاستبدادية وأشدها بطشا.
تعيش المنطقة العربية اليوم على وقع السقوط المريع للنخب الفكرية ومنوالها السياسي وأطروحاتها الفكرية،
لقد أفتى علماء البلاط في مصر بقتل المتظاهرين في الشوارع واستمدوا هذه الفتاوى من نصوص دينية قديمة، أُخرجت من سياقها ووظفت لصالح الحاكم بأمره. بناء على ذلك يتحول الحاكم إلى ولي أمر يصطبغ بصبغة القداسة، ولا تقبل أفعاله بل حتى جرائمه النقد أو المعارضة؛ لأنها تعتبر " خروجا عن الحاكم " وفتنة من أخطر الفتن.
الدفع نحو الهاوية
صحيح أن مثقف السلطان قادر على تأمين السلطة السياسية الجديدة على المدى القصير، لكنه عاجز عن تأمين هذه السلطة نفسها على المدى البعيد. صحيح أيضا أن السلطة السياسية تحتاج إلى ثقافة مصاحبة كما تحتاج إلى المشورة والنصح لا بما فيه صالح الحاكم فقط، لكن بما فيه صالح الحكم نفسه وبما يضمن استقراره. لكن نخب الاستبداد ليست إلا شرطا من الشروط التي تعجّل بسقوطه؛ لأنها تمنعه بحكم ولائها المطلق له وبحكم خطابها المزيف من العدول عن ارتكاب كل أنواع الجرائم التي تساعد في تقريب فنائه وسقوطه.
لا وظيفة لنخب الاستبداد إلا الدفع بالنظام نحو الهاوية؛ لأنها تتحول مع الزمن إلى جزء من الوهم والإيهام الذي تمارسه الأنظمة، سواء باسم الدين أو باسم الايديولوجيا والشعارات الرنانة التي سرعان ما ينكشف زيفها.
تعيش المنطقة العربية اليوم على وقع السقوط المريع للنخب الفكرية ومنوالها السياسي وأطروحاتها الفكرية، حيث تهاوت كل الشعارات التي عاشت عليها الأنظمة السياسية مدة تفوق نصف قرن من الزمان. لقد سقطت الكثير من الأقنعة عن المدارس التي أثثت المشهد الفكري العربي طيلة عقود، بعد أن انحازت أغلب هذه المدارس إلى المنظومات الاستبدادية متنكرة للشعارات التي طالما رفعتها.
فلا القوميون ولا اليساريون ولا الليبراليون ولا حتى الإسلاميون قادرون اليوم على إقناع الجماهير العريضة بصواب أطروحاتها، بل إن المرحلة التي تعيشها الأمة اليوم هي مرحلة مؤسسة على القطع الضروري مع كل الرؤى الفكرية التي أثثت المرحلة الحضارية السابقة.
سقطت الكثير من الأقنعة عن المدارس التي أثثت المشهد الفكري العربي طيلة عقود بعد أن انحازت أغلب هذه المدارس إلى المنظومات الاستبدادية
لن تستطيع الأمة تجاوز المنحدر الذي سقطت فيه مع انتصار قوى الثورات المضادة وعودة الاستعمار إلى المنطقة، إلا بصياغة أنساق ثقافية جديدة مؤسسة على حرية الإنسان وعلى القطع مع ثقافة الاستبداد ومدارسه الفكرية. لقد أصبح من الملحّ اليوم على شعوب المنطقة أن تدرك حجم التلاحم بين السلطة السياسية القمعية والأنساق الفكرية والثقافية القائمة في المنطقة العربية. فلا يمكن بناء على ما سبق تجاوز مرحلة الاستبداد السياسي إلا بتجاوز الثقافة التي تروّج له، وهي ثقافة فقدت كل مشروعيتها، بل تحولت إلى شرط من شروط سقوط الاستبداد نفسه.