هذه هي الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين

الكتاب: "أرض جوفاء: الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي"
المؤلف: المهندس المعماري "الإسرائيلي"، إيال وايزمان
الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر بالتعاون مع مدارات للأبحاث والنشر ـ القاهرة 2017
المترجم: باسل وطفه

ما هي طبيعة السياسة الإسرائيلية في تغيير المعالم الفلسطينية؟ وكيف استطاع أن يؤسس لجزر استيطانية سرعان ما أكلت الأخضر واليابس من معظم الأراضي الفلسطينية؟ وهل يمكن لسياسة الأمر الواقع أن تلغي أوطانا وتقيم أوطانا أخرى على أنقاضها؟

المشروع الإسرائيلي في فلسطين من باب الهندسة المعمارية، هو محور كتاب "أرض جوفاء: الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي"، للمهندس المعماري "الإسرائيلي"، إيال وايزمان، الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر بالتعاون مع مدارات للأبحاث والنشر ـ القاهرة، وقد نقله إلى العربية، باسل وطفه، ونُشر لأول مرة عام 2017. 

تكمن أهمية الكتاب الذي يقع في 430 صفحة من الحجم المتوسط، ويتألف الكتاب من مقدمة، وعشرة فصول، في فهم حقيقة مشروع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، من زاوية طمس المعالم وإعادة التأسيس لهندسة معمارية جديدة، وذات بعد استراتيجي، يتضح يوما بعد يوم، ليس في ما يجري على الأرض من تغول استيطاني محموم، وإنما في شكل مشاريع سياسية معلنة، آخرها ما كشف عنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في صفقة القرن.

الكاتب والباحث الفلسطيني أحمد الدبش، يعرض في هذه القراءة الخاصة لـ "عربي21"، لأهم الأفكار والرؤى التي جاءت في هذا الكتاب، الذي لا يقدم وصفا لسياسات تم تنفيذها على الأرض فقط، وإنما أيضا لعمل تراكمي تنفذه حكومات الاحتلال المتعاقبة في فلسطين.  

يقدم الكتاب، "تحقيقًا في التحول الذي طرأ على المناطق الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، ويبحث في السّبل التي رسّخت حضور القوانين (الإسرائيلية) بصيغها المختلفة في الحيّز المكاني، ويحلل التصورات الجغرافية والمناطقية والمدنية والمعمارية إلى جانب الممارسات المتواشجة التي أقامتها وعززت بنيانها. ومن هذا الباب، يقدم صورة عن ماهية الاحتلال (الإسرائيلي) وجذوره، تطوره والآليات المختلفة التي يعمل بها" (ص 16). 

فالكتاب يرصد بالتفاصيل آليات الاحتلال "الإسرائيلي" لترسيخ نفوذه في فلسطين على امتداد أربعة عقود. 

الفصل الأول: تحجير المدينة المقدسة

يحدثنا المؤلف عن القدس، وتعديل حدودها، عبر خطة شاملة جديدة للمدينة، تضمنت رسومات وتعليمات شفوية، ولضمان وحدة القدس، "وبناء المدينة على نحو يردع أي إمكانية لإعادة تقسيمها. أسفرَت هذه الخطة، إضافة إلى سلسلة من الخطط المدروسة اللاحقة والتعديلات والتحديثات على مدى أربعين عاماً من الاحتلال الإسرائيلي، عن بناء إثني عشر (حيَاً) استيطانيا متباعداً ومتجانساً مع المناطق المحتلة المتضمَّنة في المدينة، وقد توضّعت بحيث تكمّل حزاماً من النسيج المعماري يطوّق الأحياء والقرى الفلسطينية الملحقة بالمدينة ويشطرها نصفين" (ص 46). 

من أجل مزج البنيان المعاصر بالقديم، تم استخدام الحجر الجيري "حجر القدس"، و"كانت الغاية من وراء الإكساء الحجري إسباغ طابع الأصالة على المواقع البعيدة عن المركز التاريخي والمبنية حديثًا، بما يوحد السمة المعمارية للمباني الحضرية المتباينة والمتناثرة ويساعد في إظهارها كأجزاء عضوية من بنيان المدينة" (ص 49).

لا يمكن فهم سياسة الاغتيالات الموَجَّهة، وفقاً لمنطق درء الإرهاب وحده، إنما بالأحرى، على ضوء تحولها إلى أداة سياسة تسعى (إسرائيل) من خلالها إلى الاحتفاظ بسيطرتها في المناطق الفلسطينية التي انسحبت من أراضيها، ومن ثم الاحتفاظ بالبعد الإقليمي"

يناقش المؤلف مكانة الأركيولوجيا في تكوين الهوية "الإسرائيلية" منذ تأسيس الدولة. وبحسب المؤلف "كانت ثمّة مهمة وطنية أُلقيت على عاتق الأركيولوجيا، وهي إزالة الطبقة الأرضية المرئية لإظهار الأرض العبرانية التليدة، ومعها الدليل على حق الملكية اليهودية(...) أدت الأركيولوجيا دوراً مؤثراً في إعادة تنظيم التضاريس الأرضية إلى حدّ بعيد على امتداد التاريخ الصهيوني، فأُنشئت القرى والبلدات والمستوطنات فوق المواقع التي يُشتبه أنه لها تاريخاً عبرياً، أو بمحاذاتها، واتّخذت أسماءها التوراتية كذلك"(ص 66). 

الفصل الثاني: تحصينات: الهندسة المعمارية لآرييل شارون

يبحث المؤلف في الجدل المتعلق بالبناء بين عامي 1967 و1973، وسقوط التحصينات "الإسرائيلية" على طول قناة السويس عام 1973، وعبر متابعة التحليلات الخاصة بأرض المعارك والحوارات على المستوى العسكري، يرمى هذا الفصل أيضاً إلى تتبّع سيروة "الحضارة" التي انتقلت الأفكار والأنساق التنظيمية على هديها من الميدان العسكري إلى المدني؛ وبالمحصلة، ترجمة الاحتلال العسكري إلى احتلال مدني في نهاية السبعينيات من القرن الماضي (ص 92). 

الفصل الثالث: مستوطنات.. معركة حول أعالى التلال

يتحدث المؤلف عن المستوطنات، ودور شارون في عملية استيطان المنطقة الجبلية للضفة الغربية، وينقل عن شارون قوله: "أنا أستوطن حيث أستطيع" (ص 143). ويسرد المؤلف الصراعات والأزمات التي نشبت بين الأحزاب ومنظمة غوش إيمونيم حول المستوطنات.

الفصل الرابع: مستوطنات.. عمران بصري

يشير المؤلف إلى أن "جميع الحكومات الإسرائيلية، العمل، والليكود، أو حكومات الوحدة، قد أسهمت عملياً في تدعيم المشروع الاستيطاني وتطويره وتوسيعه" (ص 189). في العموم، "انتهجت الحكومة سياسة دعم قائمة على قانون بسيط: كلما كان المستوطنون على استعداد لتكبّد المشقة والخطر على المستوى الشخصي، وكانوا أكثر بعداً عن مراكز العمل (الإسرائيلية)، ازداد الدعم الحكومي. 

نجحت سياسة الحوافز المالية باستمرار في مواجهة التحدي الذي فرضه عدد الإسرائيليين المتزايد في الضفة الغربية، ويمكن البرهنة على ذلك من خلال الإحصائيات التالية: في أيار/ مايو 1984، ومع نهاية الولاية الثانية لحكومة الليكود، كان هناك 35000 مستوطن، يقيمون في 102 مستوطنة ضمن الضفة الغربية. 

وبحلول عام 1992، عندما خسر الليكود السلطة لمصلحة العمل وابتدأت عملية أوسلو، كان عدد المقيمين في 123 مستوطنة حوالي 100000 في العقد التالي، وفي ظل عملية أوسلو، وعلى الرغم من أن عدد المستوطنات لم يرتفع، تعاظمت الكثافة السكانية إلى حد بعيد، إذ تضاعف العدد ليبلغ 200000 على الرغم من العنف الذي اندلع إثر الانتفاضة الثانية، استمر عدد المستوطنين بالازدياد في المستوطنات ذات الصبغة الدينية المتشددة على وجه الخصوص، ما نجم عنه ارتفاع عدد المستوطنين بنسبة 15.3% خلال السنوات الأربع الأولى من الصراع، ليصبح العدد الكلي للمستوطنين في الضفة الغربية (باستثناء القدس) 268,000 في عام 2006" (ص 192- 193).

الفصل الخامس: نقاط التفتيش: السيادة المشطورة والمرآة ذات البعد الواحد

يناقش المؤلف سياسية "إسرائيل" في المنافذ والمعابر، "فقد أتاح التصميم المعماري [في اتفاقية أوسلو] ضبط كل حالةٍ على حدة والسماح لها بالمرور خلال المعبر، والاحتفاظ بالمسؤولية عن الوضع الأمني على امتداد المعبر. بينما يبقي للفلسطينيين إدارة مبنى المحطة وتكون الأعلام الوطنية الفلسطينية فقط هي الظاهرة لعيان فعلياً(...) يجرى فحص وثائق السفر الخاصة بالفلسطينيين من قبل ضابط إسرائيلي سيقوم بفحص الهوية الشخصية بشكل غير مباشر وبطريقة مستترة، ويقوم رجال الأمن الفلسطينيون ضمن المحطة ببعض التحريات الأمنية، بينما يمكن للموظفين الأمنيين (الإسرائيليين) اتخاذ التدابير الاحتياطية التي تضمن خروجهم من وراء المرآة إلى البهو الرئيس للمحطة في حال حدوث ما يمكن اعتباره وضعاً طارئاً، وصُرح لهم باستخدام السلاح الناري (كخيار أخير)" (ص 212 ـ 213).

نفذت سلطات الاحتلال الإسرائيلي "شبكة واسعة من الحواجز التي تتضمّن نقاط تفتيش دائمة ومؤقتة مجهزة بالجنود، حواجز طرقية حجرية، بوابات حديدية، سدوداً أرضية، خنادق، ونقاط تفتيش (طائرة) أو جوّالة" (ص 223). هذه الحواجز رسخت إيجاد واقع جديد جغرافي واجتماعي واقتصادي.
 
الفصل السادس: الجدار.. أرخبيل الحواجز السياسة المستحيلة للفصل
 
يقول المؤلف: "لا يعني عدم اشتراك معماريّ عريق في تصميم الجدار، الحاجز المبنيّ عبر الضفة الغربية بأسرها لفصل المستوطنات اليهودية، والمدن (الإسرائيلية) عن القرى والبلدات الفلسطينية، أنه يفتقد السمات المعمارية. بصورة متناوبة أو متواقتة، توزعت مكونات الجدار الذي تألف من ألواح إسمنتية بارتفاع 8 أمتار، أسوجة مكهربة، أسلاك شائكة، رادارات، كاميرات، خنادق عميقة، مواقع مراقبة، وطرق مخصصة للدوريات" (ص 247- 248).
 
يحدثنا المؤلف عن النقاش حول الجدار، داخل الحكومة "الإسرائيلية"، والتقلبات المستمرة في مسار الجدار، إذ تشير إلى "كثرة الصراعات التقنية والقانونية والسياسية حول القضايا المتعلقة بالمفاهيم السياسية مثل: السيادة، والأمن، الهوية" (ص 249).
 
يري المؤلف أن "الوهم القائل في أنه يمكن من خلال مجموعة من الخطوط المحصنة من طرف واحد، والمدعمة بالإسمنت، والأسلاك الشائكة، وتقنيات المراقَبة، أن تصبح (إسرائيل) وفلسطين دولتين قوميتين طبيعيتين محددتين إقليمياً، ليس إلا تمويهاً يخفي حقيقة العنف الذي تستبطنه الحدود الكولونيالية المتقلّبة" (ص 275).
 
الفصل السابع: حرب مدينية.. السَّيرُ عبر الجدران 

يحلل المؤلف استراتيجيات حرب "إسرائيل" المدينية خلال الانتفاضة الثانية، ويري "أن صراع (إسرائيل) مع الفلسطينيين قد توفّرَ منذ بدية الانتفاضة على بُعد مدينيّ متميّز (...) استحالت الضفة الغربية خلال (عملية السور الواقي) عملياً إلى مختبر عملاق لحرب المدن على حساب حياة مئات المدنيين، المساكن والبنية التحتية" (ص 286). يشير المؤلف إلى كيفيه الهجوم على مخيمي بلاطة وجنين. يقول: "على أثر الغضب الدولي الذي أعقب التدمير العنيف لمخيم اللاجئين في جنين، أدرك الجيش (الإسرائيلي) أنه كان من واجب فرقة الهندسية تحسين مسنوى (فن التدمير)، الذي بدا أنه خرج عن السيطرة" (ص 311).
 
الفصل الثامن: إخلاءات.. تحرير العمارة

أتمت القوات "الإسرائيلية" انسحابها الكامل من قطاع غزة صبيحة يوم 12 أيلول/ سبتمبر 2005. "بعد الانسحاب بيوم واحد، أكمل الشباب الفلسطينيون ما لم تنجزه محكمة العدل العليا، وأحرقوا أبنية الكنيس. على ركام المستوطنة، رُفعت آلاف من الرايات تمثل جميع التنظيمات الفلسطينية، ولافتات تحمل صورة القادة الفلسطينيين والشهداء" (ص 334). 

يحدثنا المؤلف عن تقويض مخيّم اللاجئين، عبر اقتراحات، "إعادة توطين اللاجئين في مستوطنات قريبة من المدن الفلسطينية(...)اعتبر الفلسطينيون أن المساعى لإنجاز الإسكان الدائم للاجئين تمثل إلغاءً لطبيعة مخيم اللاجئين كمكان إقامة مؤقت وللدليل الملموس على الضرورة الملحة للمطلب الفلسطيني بالعودة إلى الأراضي التي هُجروا منها عام 1948" (ص 343). 

الفصل التاسع: اغتيالات موجَّهَة.. احتلال من الجوّ

منذ بداية الانتفاضة الثانية، ومع القيود التي تحدّ من إمكانية حفاظها على حضورها الدائم على الأرض عبر المناطق الفلسطينية، زادت (إسرائيل) من اعتمادها على منطق تكتيكي تَمثّل في السعي إلى تمزيق المقاومة الفلسطينية السياسية والمسلّحة من خلال اغتيالات موَجَّهة، وأعني: عمليات إعدام خارج الإطار القانوني للدولة، تُجرى من الجو في أغلب الأحيان (ص 355). 

الوهم القائل في أنه يمكن من خلال مجموعة من الخطوط المحصنة من طرف واحد، والمدعمة بالإسمنت، والأسلاك الشائكة، وتقنيات المراقَبة، أن تصبح (إسرائيل) وفلسطين دولتين قوميتين طبيعيتين محددتين إقليمياً، ليس إلا تمويهاً يخفي حقيقة العنف الذي تستبطنه الحدود الكولونيالية المتقلّبة

وبحسب المؤلف، "لا يمكن فهم سياسة الاغتيالات الموَجَّهة، وفقاً لمنطق درء الإرهاب وحده، إنما بالأحرى، على ضوء تحولها إلى أداة سياسة تسعى (إسرائيل) من خلالها إلى الاحتفاظ بسيطرتها في المناطق الفلسطينية التي انسحبت من أراضيها، ومن ثم الاحتفاظ بالبعد الإقليمي" (ص 358). وهذا ما دفع المقاومة في غزة للنزول تحت الأرض، أو كما يقول المؤلف، "كلما أضحت القدرة التدميرية لسلاح الجو (الإسرائيلي) أكثر فعالية توجب على المقاومة أن تتراجع أعمق تحت سطح الأرض" (ص 385). فقد أثبتت الحروب "مدى فعالية الحرب الجوفية" (ص 392).

في الختام، كشف كتاب أرض جوفاء عن طبيعة النظام السياسي "الإسرائيلي" المتمثّلة في هذا المشروع المُعقّد والمفزع القائم في أواخر العصر الكولونيالي الحديث.