منذ منتصف الأسبوع الماضي والعالم يتابع بشغف ما يجري في
مصر منذ الإعلان عن توقف مرور السفن بقناة السويس بسبب جنوح سفينة شحن عملاقة، عبرت بصدق عن واقع الحال في مصر. فلا شيء يسير وفق ما هو مخطط له سلفا، بعد تغلب "الفهلوة" على المنطق، والارتجال على التخطيط، بسبب توسيد الأمر إلى أهل الثقة بعيدا عن أهل الخبرة والاختصاص. ستة أيام متواصلة وقناة السويس داخل العناية المركزة، بعد الجلطة المفاجئة التي أدت إلى انسداد شريان التجارة العالمي، فلم تفلح عشرات القاطرات في إذابتها وإعادة السيولة إلى المجرى الملاحي الأهم في العالم.
تذكرت المشاهد التي دأبت قنوات النظام على بثها للقناة الجديدة أثناء افتتاحها، والجنرال يلبس زيه العسكري منتشيا بالإنجاز الذي حققه بعدما جلب الحفارات والمعدات الهندسية من مختلف أنحاء العالم للانتهاء منها في أسرع وقت ممكن. وهذا التسويق الدعائي المكثف لترسيخ صورة ذهنية براقة في أذهان الجمهور حول المشروع القومي العملاق، الذي دفع عددا كبيرا من المصريين إلى الاستثمار المباشر فيه، أملا في تحقيق أرباح خيالية، فيما يشبه حلما ورديا تحطم على صخرة الواقع بعد تعويم الجنيه المصري وخسارته ما يقرب من نصف قيمته.
دقت ساعة الصفر وجاء الاختبار الحقيقي للتصريحات الوردية التي أطلقت خلال السنوات الماضية حول ازدواج مسار السفن بالقناة، ودور التفريعة الجديدة في إسراع عملية العبور وتسهيلها - بنفس المنطق المستخدم في بناء الكباري وسط الأحياء السكنية - ليستفيق الجميع على الحقيقة المرة التي أكدت كذب ادعاءات ازدواج مسار القناة، وأظهرت القدرات المحدودة للهيئة الهندسية، التي ظل الجنرال يتفاخر بما تمتلكه من معدات، ووصل به الشطط إلى التهديد باستخدامها لهدم بيوت المصريين على رؤوسهم، واتضح أنها تستخدم فقط لسحب البساط من تحت أقدام شركات المقاولات المدنية لتحل محلها في المشروعات التي يتولاها الجنرالات بالإسناد المباشر.
وتجلت الحقيقة المؤلمة في الصورة التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي لآلية ضئيلة الحجم تحاول عبثا سحب الرمال من أسفل السفينة العملاقة، في مشهد عبثي يعبر عما وصل إليه حال مصر، لتظهر مقترحات لاستخدام طرق بديلة وخيارات أخرى لنقل البضائع بعيدا عن
قناة السويس التي يمر من خلالها ما يقارب 10 في المائة من التجارة العالمية.
لن أتطرق لنظريات المؤامرة، وهي كثيرة - وقد يكون لبعضها ما يؤيدها من شواهد الواقع - مثل ربط البحرين عبر قناة تمر من صحراء النقب، ومقترح أنبوب نفط إيران، وطريق الحرير الجديد، لكن تجاهل الأزمات أو محاولة إخفائها بات من الصعوبة بمكان في عصر وسائل التواصل الاجتماعي والسماوات المفتوحة، كما أن سياسة حجب الأرقام والإحصاءات لم تعد تجدي نفعا، والحل هو الاعتراف بوجود الأزمة والحديث بصراحة عن أسبابها ومآلاتها.
ولأن مصائب العسكر لا تأتي فرادى، جاءت كارثة قطار سوهاج، التي راح ضحيتها 19 مصريا وأصيب 200 آخرون، بعد يومين فقط من كارثة إغلاق القناة، لتجمع المحروسة بين فساد البر والبحر، كنتيجة مباشرة لإهمال إصلاح
قطارات السكك الحديدية بدعوى عدم وجود 10 مليارات يمكن تخصيصها لهذا الغرض بموازنة الدولة، وإن وجدت فإن استثمارها في البنوك قد يكون أولى –حسب الجنرال - نظرا للعوائد الكبيرة التي يمكن أن تحققها، بينما قررت الحكومة مضاعفة تكلفة قطار عليّة القوم، الذي يربط العين السخنة بالعاصمة الإدارية من 10 مليارات إلى 19.5 مليار دولار، في إشارة واضحة إلى اعتماد معايير جديدة يتم بناء عليها تصنيف المواطنين ومنحهم الخدمات التي تناسبهم. ووفق هذه السياسة العنصرية يختلف مفهوم المواطنة، ويتفاوت حال المواطنين بين من يتمتع بأرقى الخدمات ومن يُدهس بلا رحمة تحت عجلات القطار فلا يلتفت له أحد، وبين من يحصل على 200 ألف كمكافأة للفوز في لعبة رياضية، ومن يجري تعويض أسرته بخمسة آلاف جنيه بعد وفاته.
المفارقة الغريبة تكمن في أن من يتولى إدارة قناة السويس حاليا جنرال سابق برتبة فريق، وهو نفس الحال عندما يتعلق الأمر بوزارة النقل التي يقوم عليها وزير برتبة فريق، في حالة تعبر بوضوح عن مآلات الأمور بعد تنحية أهل الخبرة من المدنيين وتولية أهل الثقة، وهي عادة درج عليها النظام المصري على مدار سبعة عقود منذ الحقبة الناصرية التي رسخت هذا التوجه، ليصبح الولاء للنظام الحاكم هو مقياس تولي المناصب الحساسة في الدولة، ويتحدد حجم المنصب وفقا لما تقتضيه درجة القرب تلك.
ليس لدينا في مصر ما يعرف دوليا بمصطلح "إدارة الأزمة"، والذي يتضمن الاستعداد لمواجهة عواقب ما قد يحدث، والقدرة على التعامل مع ما حدث بالفعل، من خلال أسلوب علمي يستفيد من الجوانب الإيجابية ويعظم آثارها، ويعمل على تلافي السلبيات وتجنب تأثيرها قدر الإمكان، والناظر لمآلات الأمور يدرك أن تكلفة تعطل الخط الملاحي على المستوي الدولي تخطت مليارات عدة، ربما تكون كفيلة بإحداث نقلة نوعية في السكك الحديدية من حيث التطوير والجودة، ولا يحتاج ذلك إلا إلى توفر الإرادة السياسية ووضع الأمور في نصابها من خلال الاستعانة بأهل التخصص بعيدا عن أهل الثقة، من أجل المحافظة على الأرواح، التي دأب النظام على إهدارها باستمرار منذ عام 2013، حتى بات نزيف الدم من الأمور الطبيعية. ولا نكاد نستفيق من كارثة حتى تقع أخرى، وكأن لعنة الدم أصابت مصر فأصبحت محاصرة بشتى ألوان المحن.