أزمة الكتاب العربي هي تجلٍ من تجليات الأزمات العربية المتعددة، لكن أزمة الكتاب تفاقمت في الفترة الأخيرة، والمسؤول عنها بالطبع الجميع، كتاباً وناشرين وحكومات وقراء.
ففي معرض من
معارض الدول العربية الأخيرة، التي فرحنا بافتتاحها بعد أزمة كورونا، التي حرمت القراء من متعة متابعة نشاط المؤلفين ودور
النشر، وقد دخل كتابي الجديد "صيف أفغانستان الطويل.. من الجهاد إلى الإمارة" معرضَ تلك الدولة، لأفاجأ بعد يومين أو ثلاثة بسحب الكتاب من المعرض، لا لشيء، إلاّ لأن الذباب الالكتروني بدأ حملته القميئة عليّ شخصياً، بنبشه تغريدات لا تلائمه، ليضعها في خانة الاستعداء على بلده، ما دام سقف الوطن، هو السيد الحاكم! يُوقف الكتاب ويصادر بالطبع.
وبالتأكيد حالتي ليست شخصية ولا معزولة عن الواقع العام، فعادة ما يدفع الكاتب الحر ثمن موقفه وكلمته وتغريدته، ومعه يدفع القارئ الثمن بحرمانه من اقتناء كتاب مؤلفه المفضل.
حالتي ليست شخصية ولا معزولة عن الواقع العام، فعادة ما يدفع الكاتب الحر ثمن موقفه وكلمته وتغريدته، ومعه يدفع القارئ الثمن بحرمانه من اقتناء كتاب مؤلفه المفضل
للأسف الشديد تبدأ أزمة الكتاب العربي منذ بداية تفكير الكاتب بالتأليف، حيث ينفق الوقت والجهد والمال ولسنوات، وربما لعقدين أو ثلاثة، كما حصل معي في كتابي الآنف الذكر، وحين يعتزم المؤلف طباعة كتابه تبدأ رحلة العذاب الحقيقية، فكل مطبعة لها توجهاتها وتحارب توجهات أخرى، ليصل الأمر إلى أكثر من تنافس محمود، بل محاربة مرتاديها وحرمانهم من بيع
كتب مؤلفين مفضلين لديها، لا لشيء، إلاّ لأنهم لا يتفقون معها فكرياً وأيديولوجياً، لكن مع توجه المؤلف إلى المطابع ودور النشر سيواجه بابتزازه، في أن يدفع ثمن الطباعة، أما إذا كان الحظ حليفه ووافقت دار على طباعة كتابه دون أن يدفع ثمن الطباعة، فهذا سيُعدُّ مكسباً له.
أما مسألة التكسب من وراء
التأليف في العالم العربي فدونه خرط القتاد. لقد سبق لي أن نشرت كتابين في دار نشر في دولة عربية، وظلت تواصل طباعتها وبيعها لعقدين كاملين دون أن تكلف نفسها مجرد الرد عليّ، فضلاً عن إعطائي ما تعهدت به أصلاً من مردود مادي. وهذا بالتأكيد لا يمنع من وجود دور نشر محترمة، فهناك من تُرفع له القبعة، ويدفع كما يدفع المؤلف ثمن أزمة الكتاب العربي.
جانب مهم من النشر العربي، هو عدم اهتمام دور النشر بالكيف، والنوعية، فلا تُولي هذه الدور عملية التسويق اهتماماً كما يحصل مع دور النشر الغربية. فمثلاً لو أن دور النشر تتواصل مع الصحف العربية القوية - وما أقلها هذه الأيام - لتتفق معها على نشر حلقات مختارة تكشف أسراراً، أو تشكل إضافة نوعية للقارئ العربي، لكان فيه خيرٌ ونفعٌ للجميع، فدور النشر ستتكسب منه، ومعها القارئ والمؤلف، والصحيفة أيضاً، وإلا كيف سيعرف القارئ المسكين في العالم العربي أن كتاباً صدر، إن لم يقرأ عنه في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام بشكل عام؟ وإن كان الأفضل أن تقوم دور التسويق والتوزيع بمهمتها بعيداً عن المطبعة والمؤلف، فهذا له مجاله وفنّه الخاص. ومعرفة الأسواق واتجاهاتها عملية معقدة يعرفها أصحابها، وهي عملية توفر الكثير من المال، وتسهل عمل كل أطراف معادلة الكتاب العربي.
جانب مهم من النشر العربي، هو عدم اهتمام دور النشر بالكيف، والنوعية، فلا تُولي هذه الدور عملية التسويق اهتماماً كما يحصل مع دور النشر الغربية
اللافت أن المؤلف المسكين الذي غالباً ما يدفع من جيبه لطباعة كتابه، يُفاجأ بمن يلتقيه طالباً كتابه هدية، بينما هذا المسكين لم يحصل سوى على 25 أو 50 نسخة في الحدّ الأعلى من دار النشر، وهنا ما عليه إلاّ أن يواجه رفاقه وزملاءه بالحقيقة؛ أنه عاجز عن تلبية كل الطلبات، أو أنه سيرغم على شراء الكتاب من المكتبة ليقوم بإهدائه لرفاقه، الذين غالباً لن يقرؤوا نسخته المجانية، وهو ما حصل معي شخصياً، ويحصل مع كل من يؤلف ويكتب، حتى أنني مازحت بعض أصدقائي الأعزاء، حين أهديتهم كتابي، مشترطاً عليهم إجراء امتحان فيه بعد مدة، لأتأكد من قراءتهم للكتاب!
ومما يؤسف له حقاً وحقيقة أن كثيراً منا لا يتردد في دعوة أصدقائه على غداء أو عشاء، يكلفه ذلك مائة دولار أو أكثر، ولكنه يتردد طويلاً وكثيراً في إنفاق عشرة دولارات على كتاب من يستضيفه. إنها أزمة حقيقية، ليست للكتاب العربي، بقدر ما هي أزمة تفكير وممارسة عربية. وكما قال لي صاحب دار نشر غير عربي مؤخراً: إن نبع النهر الجاري لدور النشر والتوزيع وللقراء قد يجفّ، ونبع النهر هم المؤلفون الذين يدفعون أفدح الأثمان من أوقاتهم وأموالهم، دون نتيجة، فإلى متى سيتواصل نزيف المؤلف؟!