ربما ارتبط اسم الأستاذ بسام جرار، خاصّة لمن هم خارج فلسطين، أو من أبناء الأجيال الجديدة، بأطروحته الشهيرة حول "زوال
إسرائيل" في هذا العام 2022.
ورغم جسارة الأطروحة، إلا أن من الخطأ اختصار الرجل واختزاله بها، خاصّة أن منطق التعامل مع الأرقام الرياضية، التي برهن من خلالها على أطروحته لا يبدو شعبيا، لأن المهتمين الذين تستهويهم بالعادة المعالجات الرياضية هم نخبة أكاديمية قليلة، غير أن الأطروحة نفسها لها جاذبية شعبية لا تقاوم. وبغضّ النظر عن مآلات الأطروحة، ودرجة تصديق الواقع لها من عدمه -خاصة أننا بصدد العام المفترض حدوثها فيه- فإن من حقّ الأستاذ بسام علينا أن نعرّف به، خاصة نحن الذين واكبنا مجالسه العلمية والتعليمية على مدى سنين وعقود طويلة.
هنا، وفي محاولة تعريفنا به، سنتوقف عند أهم المزايا والخصال التي عرفناها عنه، وربما اقتبسناها منه، نختصرها فيما يلي:
رغم جسارة الأطروحة، إلا أن من الخطأ اختصار الرجل واختزاله بها، خاصّة وأن منطق التعامل مع الأرقام الرياضية، التي برهن من خلالها على أطروحته لا يبدو شعبيا، لأن المهتمين الذين تستهويهم بالعادة المعالجات الرياضية هم نخبة أكاديمية قليلة، غير أن الأطروحة نفسها لها جاذبية شعبية لا تقاوم
1- الدقة: إن أول سمة يتمتع بها الأستاذ بسام هي تحرير المفاهيم والمصطلحات والمواضيع التي يتصدّى للحديث فيها أو عنها أو حولها، وهو بهذا يفاجئك بأنه ليس شيخاً عادياً أو واعظاً وخطيباً مصقعاً، رغم أن لتأثير كلماته وأفكاره قوة نابضة ودافعة ومحرّضة؛ لها من الثبات والرسوخ ما يستقر في أعماق النفس والعقل والوجدان بما يفوق بدرجات أثر الوعظ والخطابة التي سرعان ما تتبخر بعد انقضائها. فأفكار الأستاذ بسام هي من النوع طويل المدى الذي يحفر عميقاً في الوعي كما في السلوك.
والأستاذ بسام هنا، ليس من ذلك النوع الذي يلقي الكلام مسترسلاً على عواهنه، أو لا يلقي له بالاً، أو من ذاك الكلام الذي يجري صاحبه وراءه من دون فرامل!
إن أهم ميزة للأستاذ بسام هي أنه يجعل ذهنك منتبهاً ومتيقظاً، ويدقّق معك في الكلمات أو في الحوادث أو في المعطيات، ليقودك من ثمّ إلى استنتاجاته بالسلاسة البرهانية التبسيطية التي يسهل معها الفهم.
وقد عرفنا منهج الأستاذ بسام هذا، منذ سبعينات وثمانينات القرن الماضي، عندما كان يتصدى لتفنيد الأفكار المستوردة، خاصة الفكر الشيوعي ونظرياته. كما كان يتمثل منهجه ذاك في الدقة في شتى الدروس والمحاضرات والعامة والخاصة التي تناولت جوانب الفكر الإسلامي وقضاياه المتشعبة، أو في مجال العلوم الشرعية من تفسير وفقه وأصول فقه وحديث، وغير ذلك.
أي دارس متابع ومثابر لعمله الضخم حول النظام العددي في القرآن الكريم، سيكتشف درجة الدقة التي يتمتع بها الأستاذ، فقد قام بعملية استقرائية مسحية متعددة الأغراض والطبقات مسحت وغطّت كل كلمة، وربما كل حرف في القرآن الكريم
وبسبب ما عرفناه عنه من زوايا وخصال وطرائق تفكير، كان يجعلنا نتوقف باحترام وتقدير عند أي رأي يقوله مهما ظهر في البداية غريباً أو غير متوقع -كأطروحة حول زوال إسرائيل مثلا- وذلك لما نعرفه عما يتمتع به من منهجية برهانية دقيقة. وأي دارس متابع ومثابر لعمله الضخم حول النظام العددي في
القرآن الكريم، سيكتشف درجة الدقة التي يتمتع بها الأستاذ، فقد قام بعملية استقرائية مسحية متعددة الأغراض والطبقات مسحت وغطّت كل كلمة، وربما كل حرف في القرآن الكريم.
وفي المسائل التي لم يكن يقطع فيها برأي؛ كانت لا تنقصه الصراحة ليعلن أن المسألة تحتاج إلى بحث. كما لم يكن يتردّد في الاستدراك على بعض ما كان قد قاله سابقاً عندما يتبيّن له جوانب جديدة، أو كانت خافية عليه، في المسألة ذات العلاقة.
2- التعليم والتفهيم: لعل من أهم مواهب الأستاذ بسام الذهنية، ما يتعلق بقدرته على تطويع الأفكار مهما كانت معقدة وتبسيطها وإدخالها إلى عقول الآخرين بالسلاسة والجدارة المطلوبة. وكنا نلاحظ أن من جمهور جلساته المسجدية مختلف طبقات المجتمع، فكان هناك الطبيب والمحامي والموظف وأستاذ الجامعة وطالبها وعامل الباطون أو أصحاب المهن كالحدادين والنجارين وغيرهم، وكنا نشعر أن الجميع يفهم عليه بنفس الدرجة تقريباً، وهذه من عبقرية التفهيم.
كان الأستاذ بسام يشتهر بقدراته في التدريس والمحاضرة والمحاججة الهادئة. ولم يكن ما قبل التسعينيات يعمد إلى الكتابة والتأليف، رغم غزارة ما يعطيه ويقدمه من أفكار ومواضيع. وبحسب الأستاذ بسام، فهو لم يلجأ للكتابة -التي بدأها في موضوع "عجيبة تسعة عشر" وما تلاه من كشوفاته اللاحقة عن وجود نظام عددي من العلاقات الرياضية المدهشة في القرآن الكريم- إلا بعد أن لمس تقصيراً عند العلماء والباحثين والدارسين المسلمين في هذا الجانب، وربما قاده ذلك لاحقاً في مواضيع في تفسير القرآن الكريم.
على أن اهتمامات الأستاذ ومشاغله الفكرية والفقهية واللغوية ما تزال أوسع بكثير مما تم نشره لغاية الآن.. حتى أننا كنا اقترحنا في النصف الثاني من التسعينيات أن نقوم بتفريغ محاضراته المسجّلة وتبويبها ونشرها في رسائل خاصة، لأنها كانت تنطوي في حينه على تحليلات ومقاربات سياسية وفكرية غاية في الأهمية، وتضرب في العمق، غير أن الظروف القاهرة لم تسعفنا في الاستمرار بذلك المشروع.
والأستاذ بسام، ومن خبراته الطويلة في التعليم والتدريس (كان أستاذاً للدراسات الإسلامية لسنين طويلة في معهد المعلمين في رام الله)، وكان يتمتع بهذه الصفة: عالم ومعلّم ومفهّم. وكانت كفاءة التعليم والتفهيم لدى الأستاذ بسام عالية، لدرجة كان يشعر المرء معها بالامتلاء والشبع بعد قيام الأستاذ بالشرح وطهي وتقديم وجبة ذهنية محكمة وممتعة، لا يحتاج المرء معها لكثير أسئلة أو استفسارات، خاصة أن طريقة عرض الأستاذ بسام كانت تأتي على الالتباسات والثغرات والشكوك والإشكالات، فلا يدع معها مجالاً فالتاً في المسألة المطروحة، إنما يحكمها إحكاماً، ولعله يكمن في هذا بعض جوانب ما يسميه أهل العلم "الطمأنينة"، أي أن مستوى الثقة بالعالِم الذي يأخذ عنه الناس أمور دينهم ينبغي أن يتوفر فيه شرط الاطمئنان إلى دين العالم وفهمه وعلمه وسلامة مسلكه.
3- الصوابية: هناك كثير من الخبراء والمراقبين المثابرين والمتخصصين، ممن يدهشونك في بسط أفكارهم وتحليلاتهم ومعلوماتهم وسعة اطّلاعهم، ولكن القليل منهم من كانت تفلح توقعاته المستقبلية في تصديقها للواقع والوقائع، حتى أن أحد كبار هؤلاء المراقبين المثقفين، ويشار له في الإعلام بصفة "مفكّر"، أخذ يحترس في السنين الأخيرة في التعبير عن توقعاته التي خاب كثير منها في السابق. أما بالنسبة للأستاذ بسام ومن تجربتنا واختلاطنا الطويل به، فقد تميزت توقعاته وأطروحاته بنسبة عالية من الصوابية.
وباعتقادنا أن هذه الصوابية قادمة من كثرة التدبر والتبصّر والتفاعل والانفعال مع النص القرآني، الذي هو كلام الله الخالد الذي يعكس الحق والحقيقة، وهذا ما هو مقطوع به طبعاً، في عقيدة أي مسلم. فالذهن المنشغل بهذا الحق، وبطرائق التفكير فيه، يكسب صاحبه موهبة الصوابية التي تسعى للتماثل مع الحق والحقيقة. ولذلك فإن المرء وهو يستعيد ذلك التاريخ الطويل من مواقف الأستاذ وتوقعاته تستوقفه أطروحته الأخيرة حول "زوال إسرائيل" بنوع من التفاؤل (ليس فقط لأننا ننتظر ساعة خلاصنا وحريتنا وأشواقنا للتحرر من الاحتلال)، بل لأنه ينتمي إلى مسار من التوقعات الصائبة في غالبها، رغم ما يمكن أن يرى البعض في هذه الأطروحة مجازفة ومغامرة جسورة قد تكلف صاحبها مكانته العلمية والفكرية.
المرء وهو يستعيد ذلك التاريخ الطويل من مواقف الأستاذ وتوقعاته تستوقفه أطروحته الأخيرة حول "زوال إسرائيل" بنوع من التفاؤل (ليس فقط لأننا ننتظر ساعة خلاصنا وحريتنا وأشواقنا للتحرر من الاحتلال)، بل لأنه ينتمي إلى مسار من التوقعات الصائبة في غالبها، رغم ما يمكن أن يرى البعض في هذه الأطروحة مجازفة ومغامرة
4- المرجعية: إن الأستاذ بسام ليس مجرد فقيه عالم بأحكام الشريعة، ولا مجرد مفسّر للقرآن الكريم، ولا مجرد مطلّ على قضايا العصر وتحدياته، ولا على قضية من قضايا العصر السياسية والتصارعية (قضيتنا- قضية فلسطين)، وهو في رأينا المتواضع أهم مرجعية فكرية إسلامية تنتج أفكاراً واجتهادات في غرب نهر الأردن؛ مع احترامنا وتقديرنا لجميع الأساتذة المتخصصين بعلوم الشريعة الإسلامية من أساتذة كليات الشريعة الإسلامية ومن أساتذة كليات الشريعة في الجامعات الفلسطينية أو غيرهم.
ولعلنا نقرأ في كتب التراجم كما عند ابن العماد الحنبلي في "شذرات الذهب في أخبار من ذهب" صفةً لبعض الذين ترجم لهم، بالقول إن صاحبها كان من "الأبدال"، ويبدو أن هذه التسمية قادمة من الثقافة الصوفية، ويقول مؤداها بأن هناك في الأمة مائة من أولياء الله وخلصائه من أهل العلم والسلوك كلما مات منهم واحد أبدل الله به آخر. وبعيداً عن هذه المسألة التي تفتقر إلى السند الشرعي، غير أن من رحمة الله بأمّة المسلمين أنه لا يخلو زمان إلا وهيَّأ الله له بعض الرجال ممن يعتصم الناس ويلوذون بهم عندما تشتد الخطوب والتحديات والنوازل.
وهنا نرى أن الأستاذ بسام الذي نهض من بين الناس في العام 1993، عندما كانت الأمة في حالة استسلام مطبق بعد الذهاب إلى مؤتمر مدريد ومفاوضات واشنطن ثم مفاوضات واتفاق أوسلو الكارثي، في هذا الظرف القاتم والقانط وجدنا الأستاذ بسام ينهض ويقول للناس إن هناك في القرآن الكريم ما يُنبئ عن زوال هذه "الإسرائيل" في حدود أعماركم! شكّل هذا الطرح وما صاحبه من كشف لأسرار في النص القرآني عاصماً فكرياً وأخلاقياً وسلوكياً أمام هذه الموجة العاتية من اللايقين والزعزعة والانهزامية، فضلاً عن الحوادث المهولة التي صاحبتنا في العقود الثلاثة الأخيرة.
وفي هذا المجال، ندين بالفضل للأستاذ بسام الذي كان من فضل الله علينا أن كان منتصباً بيننا هادئاً ومرشداً ومعلماً. تعلمنا منه مع طريقته البديعة والمبتكرة في فهم النص القرآني؛ عمق التحليل السياسي والأسس السليمة لفهم قضية صراعنا أيضاً، وقد تشكلت الكثير من مفاهيمنا السياسية، وفهم أحوال عصرنا على مائدته الفكرية الثرية.
نسأل الله أن يجزيه عنا خير الجزاء ويبارك في عمره وفي مواهبه، ويزيده من فضله.