هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ينشغل الرأي العام غالبا بالأحداث الكبرى التي تؤثر على السياسات الدولية وعلى الاقتصاد وعلى معاشات الناس، وينشغل أكثر بموازين القوى، وما إذا كانت هذه الدولة أو المحور أو التحالف، سيتمكن من فض أجندته على الأرض، أم ستضطر إلى التفاوض من أحد الموقعين: الانتصار أو الهزيمة، لكن قليل من يلتفت إلى الأبعاد الفكرية التي تصاحب التوترات الكبرى، والأطاريح الفكرية التي تحملها القوى العالمية المتصارعة، وسلاح الإيديولوجيا في حسم المعارك.
قبل موجات الاستقلال التي عرفتها عدد من الدول العربية ودول العالم الثالث التي خضعت للاستعمار، كان التحضر أو التقدم، هو الأطروحة التي تم تأسيسها لمواكبة عمليات الهيمنة على الشعوب، لكن أن أصبح العالم مفتوحا على صراع قطبين، يتنافسان على النفوذ في جغرافية لعالم المترامية، استعمل الرب بذكاء سلاح الحرية والديمقراطية، لهزم المعسكر الشرقي، وحاول أن يثبت للعالم أنه يمثل معسكر الدفاع عن الحرية، وحق الشعوب في المشاركة في الحكم وفي التنمية، واستطاع بهذه الإيديولوجية أن يحكم سيطرته على العالم، بل وأن يفجر المعسكر الشرقي من الداخل، فقد أثبتت أكثر من دراسة أن سقوط هذا المعسكر جاء أساسا من أزمة الحرية السياسية في نظم الحكم.
بعيد سقوط جدار برلين، سيطرت إيديولوجية الحرية والديمقراطية على العالم، وأنتجت مؤسسات وشبكة ميكانيزمات، وظفتها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد ألأوروبي، في إخضاع الأنظمة وابتزازها، وإلزامها بالبقاء ضمن معسكره، مساهمة في تقوية البينة الهيمنية التي شكلها، وغطت مختلف الأبعاد الأمنية والمالية والاقتصادية والثقافية والتربوية والقيمية.
مآزق الديمقراطية
في هذه الفترة، بدأت تنطلق أصوات من داخل النماذج الديمقراطية ومن خارجها، تنتقد هذه الإيديولوجيا، وتسلط الضوء عل مآزقها.
كتب نعوم شومسكي عن بعض هذه المآزق، وسلط الضوء على سيطرة لوبيات المال وشبكات الإعلام الضخمة على صناعة الرأي العام وتوجيه مزاجه، وتحدث غيره عن تحكم الأجهزة الاستخباراتية في مفاصل الدولة، ومختلف الأوعية التي تشكل مزاج الرأي العام.
وتحدث من خارج النموذج غير واحد من مثقفي العالم العربي ومثقفي العالم الثالث، وركزا على مآزق المساواة في التعامل مع الشعوب، وسياسة الكيل بمكيالين، وأزمة الشرعية في القرار الدولي (الفيتو)، ومآزق الاستثناء (في التعامل تحديدا مع الكيان الصهيوني)، وأزمة الاقتداء في النموذج الملهم (الولايات المتحدة الأمريكية التي يفترض أنها النموذج المهم، سارت سياستها في الاتجاه المعاكس له). وتوقفت عدد من الأنظمة على مفهوم "توظيف الديمقراطية" و"توظيف الديمقراطية" كأدوات للتدخل السياسي، والابتزاز لتحقيق مصالح غير مشروعة.
لكن هذا الجدل الذي صاحب الديمقراطية طيلة الفترة التي غطت مرحلة ما بعد الحرب الباردة، لم يشكل حالة عالمية أو نقطة نظام عامة في العالم، بسبب التفاهمات التي كانت تجري الدول المتقدمة، أو على الأقل الخطوط الحمر التي كانت تؤطر الخلافات الاستراتيجية بين هذه الدول، وفضلت الدول المناهضة للهيمنة الأمريكية أن تؤخر المعركة مع الإيديولوجية الديمقراطية، حتى تكسب المعركة في الداخل، وتعزز شرعيتها، وتعيد بناء أطروحة خاصة بها، تمزج بين الأبعاد الديمقراطية والقومية والسيادية.
واضح من خلال قسمات النظام الجديد الذي يعيش مخاض تشكلاته، أن الجدل صار يتركز بشكل كبير على مفهوم السيادة، لكن إلى جانب هذا المفهوم، ثمة تواتر الجدل حول مفاهيم أخرى، تعتبر من لوازم مفهوم السيادة.
روسيا على سبيل المثال، طيلة العقدين السابقين، اشتغلت بشكل تراكمي لبناء إيديولوجية الداخل، فتجنب أخطاء التجربة السابقة، وتبنت نموذجها الخاص للديمقراطية، دمجت فيه بشكل قوي ثلاث أبعاد أساسية: البعد القومي، والبعد التاريخي، والبعد السيادي.
يشترك البعد القومي والتاريخي، في مشترك واحد هو إعادة بناء روسيا القومية التاريخية، التي تلعب فيه اللغة الروسية والثقافة الروسية دورها المركزي في إعادة إحياء المجد الامبراطوري، بينما شكل البعد السيادي العنصر الرئيس في بناء المنظور الأمني والاستراتيجي الروسي، فكان النظام الرئاسي الذي يحتفظ فيه الرئيس بالصلاحيات الواسعة هو النموذج، الذي يصهر هذه الأبعاد الثلاثة.
الصين نفسها، وإن كانت بنسبة أقل، غيرت كثيرا من منظورها السياسي للحكم، وتكيفت مع ضغط الإيديولوجية الديمقراطية، وأدخلت بعض مفرداتها في بنية الحكم ومؤسساته، لكن بانتظام تام في النموذج الثقافي، والرهانات الأمنية والاستراتيجية، وباستحضار كامل، لمتطلبات تامين نجاحات النموذج الاقتصادي والتجاري، وامتداداته في العالم.
الحرب الروسية على أوكرانيا.. هل تشكل النموذج الإيديولوجي المناهض؟
منذ عقدين، لم تنجح روسيا ولا الصين في إنتاج إيديولوجيا مناهضة للهيمنة الأمريكية والأوروبية على العالم، بل صبت محور اهتمامها على هدفين اثنين: بناء قوة ردع اقتصادية أو عسكرية تمكنها من تقوية شروط تفاوضها مع الغرب أو تحصينها من استهدافاته، والاشتغال على البين الداخلية، بالاشتغال على إعادة بناء الشرعية السياسية، حتى لا تكون التجربة مصدر استهداف من الداخل كما حصل للنموذج السوفياتي والمعسكر الشرقي برمته، حين أسقطه عطب فقدان الحرية السياسية.
لكن، مع شعور الولايات المتحدة الأمريكية بتنامي التهديد الروسي والصيني، وتوجهها نحو خيارات توسيع الحلف الأطلسي، والاقتراب من جدارات الأمن الروسي والصيني (تقوية العلاقة مع أوكرانيا وتايوان)، وبداية اندلاع الأزمة الأوكرانية، بدأت روسيا والصين تهتمان ببناء الإيديولوجية الفكرية المناهضة.
في البدء تمحور مفردات هذه الإيديولوجية عل مفهوم الأمن، ثم توسع مفهوم الأمن، وبدأ الاشتغال على مفهوم السيادة، وذلك بسبب أن مفهوم الأمن القومي، كان دائما ما يحيل على أزمات خاصة، تهم علاقة روسيا بأمريكا، أو علاقة الصين بها، في حين، أضحى مفهوم السيادة، مصدر إلهام، إذ يدفع كثير من الأنظمة إلى الانخراط فيه إما لتبرير سياسات خاصة مرفوضة غربيا، أو لكسب قضية عادلة، تمانع الدول الغربية في تعجيل تسويتها، أو للتحلل من ابتزاز غير مشروع تمارسه الدول الغربية على بعض البلدان لتأمين مصالحها أو كسب مصالح أخرى.
استقراء خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يعكس هذه التحولات، فقد ظل طيلة العقد السابق، يذكر بالمخططات الأمريكية لاستهداف الأمن القومي الروسي، مركزا على سياسات الناتو، وكيف انقلب من طمأنة روسيا إلى تهديد أمنها، وكيف نقض كل تعهداته. يمكن أن نلاحظ في خطابه على وجه خاص، تركيزه على سياسات الولايات المتحدة الأمريكية في أوكرانيا، وتركيزه على استهداف القوميات الروسية في إقليم دونباس، واجتثاث ممنهج لللغة والثقافة الروسية من هذا الإقليم، فضلا عن دعم انقلاب من للنخب الموالية للغرب من التحكم في القرار السياسي الأوكراني، وتسهيل كل السياسات الأمريكية ات المواجهة ضد روسيا.
لأول مرة، يتم تدشين نقاش سياسي وإيديولوجي عن الهيمنة في أبعادها المالية والنقدية (استغلال أمريكا وأوربا لنظام سويفت، هيمنة الدولار والأورو، استهداف العملات الوطنية)، وبدأ الخطاب الإيديولوجي الجديد يتمترس بمفهوم العملة الوطنية، وضرورة تشجيعها في التعاملات الدولية، لمقاومة الهيمنة الأمريكية على اقتصادات العالم والمعاملات المالية الدولية.
بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، ورد الغرب بموجات عقوبات اقتصادية ضد موسكو، والاتجاه لتقوية تحالفاته، وتهديد الدول التي تحاول أن تخرج عن هذه التحالفات أو تحاول بناء تحالفات مع روسيا، تطور خطاب الرئيس الروسي، بل وخطابات المسؤولين الروس، وتقوى بمفردات جديدة، بدأت تركز على مختلف أبعاد السيادة، الاقتصادية والمالية والنقدية والدفاعية السياسية والثقافية واللغوية، وتعيد قراءة تاريخ العلاقات الدولية من مدخل نقد الهيمنة الأمريكية وتسلط الضوء على تحيزاتها وتناقضاتها، وسياسة الكيل بمكيالين، وغياب العدالة والمساواة في تدبيرها للسياسة الخارجية مع البلدان وأيضا في تدبير النزاعات والتورات في العام.
لأول مرة، يتم تدشين نقاش سياسي وإيديولوجي عن الهيمنة في أبعادها المالية والنقدية (استغلال أمريكا وأوربا لنظام سويفت، هيمنة الدولار والأورو، استهداف العملات الوطنية)، وبدأ الخطاب الإيديولوجي الجديد يتمترس بمفهوم العملة الوطنية، وضرورة تشجيعها في التعاملات الدولية، لمقاومة الهيمنة الأمريكية على اقتصادات العالم والمعاملات المالية الدولية.
على المستوى السياسي، بدا خطاب السيادة ينتج بعض ثماره، فلم تعد قضية الديمقراطية ثابتا أساسيا في التعامل مع الأنظمة ولا في قبول شرعيتها، وأصبحت كثير من الأنظمة الفاقدة للشرعية السياسية بسبب قيامها بانقلابات (نموذج بوركينافاسو، مالي، مصر..) أو بسبب إجهازها على المؤسسات الديمقراطية (تونس) متحللة من الضغط الأمريكي والأوربي، بل تسجل في كثير من الحالات، صمت غربي عن الإدلاء باي موقف ضد بعض الانقلابات، لاعتبارات مصلحية استراتيجية، وهي التي كانت من قبل تجعل من الديمقراطية واحترام مؤسساتها معيارا أساسيا في الاعتراف بشرعية الأنظمة السياسية.
وعلى المستوى الثقافي، بدأ هذا الخطاب يركز على مفهوم السيادة الثقافية، وعلى مفهوم التعدد اللغوي، والغنى والثراء الذي يشكله هذا التعدد، ومخاطر الاستسلام للهيمنة اللغوية والثقافية التي فرضها الغرب طيلة عقود من الزمن.
الإيديولوجيا الجديدة.. المفاهيم، الفاعلون والأدوار
واضح من خلال قسمات النظام الجديد الذي يعيش مخاض تشكلاته، أن الجدل صار يتركز بشكل كبير على مفهوم السيادة، لكن إلى جانب هذا المفهوم، ثمة تواتر الجدل حول مفاهيم أخرى، تعتبر من لوازم مفهوم السيادة.
فقد بدأ الخطاب يتمحور حول مفهوم استقلال القرار، والمصلحة الوطنية، واعتبارات الأمن القومي، والحرية في سم العلاقات الدولية، والحرية في التحالف والاصطفاف، والحرية في الحياد، وغيرها من المفاهيم التي ترسخت كسلوك سياسي لدى الدول منذ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا (استقلال القرار الطاقي، الحياد في الحرب، اشتراك الموافق العربية في موقف دعم الحوار بين روسيا وأوكرانيا لحل النزاع بدل الاصطفاف مع الغرب).
كما استعادت مفهوم العدالة ألقه في الخطاب السياسي للدول، واستعادت كل المفاهيم التي تدور في فلك هذا المفهوم موقعها ضمن الإيديولوجية الجديدة المتشكلة، وذلك من قبيل مبدأ المساواة في التعامل مع الدول، ورفض مبدأ الكيل بمكيالين، ورفض منطق الاستثناء في التعامل الدولي مع انتهاكات الدول للقانون الدولي (نموذج الكيان الصهيوني).
وإلى جانب ذلك، استعاد مفهوم التحرر من الهيمنة موقعه ضمن الإيديولوجية الجديدة، وبدأ يأخذ أبعادا أخرى إلى جانب البعد السياسي، فأضحى التحرر المالي (التحرر من هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على المؤسسات المالية الدولية)، وتكثف التنظير للتعدد الثقافي لكسر الهيمنة الثقافية الأمريكية عل العالم.
وإلى جانب ذلك، بدأت الإيديولوجية الجديدة تنحث مفهوما آخر، صنفته فلسفة الحداثة ضمن التقليد، وهو ما يمكن الاصطلاح عليه بمفهوم المحافظة، ذلك المفهوم الذي يحمل معه يم الدفاع عن الأسرة، والقيم الدينية، واحترام الأديان، منع الازدراء بمبادئها ورموزها، وذلك ضمن منظور كلي يسعى لكسر الهيمنة القيمة الغربية، التي أضحت تفرض على الشعوب إحداث تغييرات فقسرية على أنماط حياتها وقيمها، باسم حتمية الحداثة والتحديث.
ومع استعادة هذه المفاهيم لموقعها، وظهور إرهاصات نظمها ونسجها ضمن إي إيديولوجية سياسية معبئة، بصد كسر نظام أحادية القطب، إلا أنها لا تزال في طور التأسيس المتعدد الأطراف، والذي يكون في الغالب استجابة لتحديات تواجهها بعض الدول في شكل تعاطيها مع الضغوط الهيمنية للغرب.
فقد قامت تركيا في الآونة الأخيرة بدور مهم في إعادة التأسيس للمفاهيم المؤطرة لهذه الإيديولوجية الجديدة، ومس خطاب الرئيس رجب طيب أردوغان مختلف أبعاد هذه المفاهيم (المساواة، العدالة، نبذ الكيل بمكيالين، السيادة، الأمن القومي، هيمنة العملات ألأجنبية....)، وقامت إيران قبلها بجهود محدودة، في التنبيه لمخاطر الهيمنة وسياسة الكيل بمكيالين، حساسية موضوع السيادة واستقلال القرار السياسي، ثم جاءت الحرب الروسية ألأوكرانية، لتعطي مديات أبعد لهذا المسار، الذي يبدو أنه أخذ يتشكل كمفاهيم، وكمركوز، وفاعلين، وتحالفات، وأيضا سياسات.
ثمة فاعلون كثر بروزا في الآونة الأخيرة، يمكن أن يساهموا في وضع اللمسات الأخيرة على تشكل الإيديولوجية المناهضة، لكن المشكلة تكمن في تعدد الأدوار، وتناقشها أحيانا، فتركيا وورسيا مثلا، قامتا في الآونة الأخيرة بجهود كبيرة من أجل بناء هذه الإيديولوجية والتنبيه إلى أهميتها، لكن تناقضات المصالح التي تطبع علاقتهما، تحد من إمكانية تحويل هذا التفاهم الإيديولوجي إلى سلوك سياسي موحد. وهكذا الأمر بالنسبة لتناقضات الموقف بين تركيا وإيران، وتناقضات الموقف بين الهند والصين، وتناقضات الموقف من باكستان (عمران خان) وبين الهند، وتناقضات الصين نفسها مع روسيا.
في الخلاصة، لقد تشكلت المفاهيم، وأنضجت التوترات العالمية شروط تشكل إيديولوجية النظام الجديد، بأقطابه المتعددة، لكن المشكلة تكمن في تشكل الإطار السياسي الناظم لتناقضات وأدوار الفاعلين الجدد، وهو ما تستغله الولايات المتحدة ألأمريكية لإدامة وضع الهيمنة وتعطيل شروط تبلور نظام دولي جديد.