بدءاً ذي بدء، أنا لا أعول كثيراً على البيانات الختامية لأي مؤتمر كان أو
اجتماعات قادة الدول، فهي في الغالب تحمل زخرف القول غروراً، حروفها رشيقة جميلة وعباراتها
منمقة دبلوماسية، وأحيانا تُكتب قبل انعقاد المؤتمر وقبل اجتماع القادة، حتى صارت
كلاشيهات مصنوعة تحت الطلب، يُعاد طبعها مع كل مؤتمر أو اجتماع حسب النوع والغرض!
ولكنني دائماً أركز على ما بين السطور وأقرأ ما تطويه تحتها، وأبحث عن دلالاتها،
كما لا تخدعني صور اللقاءات والأيدي المتشابكة بين القادة والابتسامات المصطنعة
على وجوههم، فقد علمتنا تجارب التاريخ وما مر فيه من أحداث؛ كم كانت في تلك الأيادي
المتشابكة خناجر مخبأة بين الأصابع، وكم كانت تخفي تلك الابتسامات وراءها بغضاً
وكراهية في القلب بل وربما عداءً!
لذلك لم أهتم كثيراً بما صدر في بياني قمتي جدة وطهران، فإذا كان بيان قمة
جدة قد خلا مما توقعه الجميع من تشكيل تحالف عسكري عربي صهيوني بقيادة أمريكا، فلا
يعني ذلك أنه لم يوضع على الطاولة ولم يُناقش باستفاضة، أو يؤكد إلغاء الفكرة من
أساسها، حتى ولو صرح وزير خارجية
السعودية "فيصل بن فرحان"، في البيان
الصحفي، بأن قمة جدة لم تناقش هذا الملف، وأنه بالأساس غير موجود على طاولة القمة
العربية الأمريكية، وذلك في رده على سؤال لأحد الصحفيين حول ما أثير قبل القمة من
أنها ستبحث في تشكيل تحالف أمنى عربي أمريكي إسرائيلي.
إذا كان بيان قمة جدة قد خلا مما توقعه الجميع من تشكيل تحالف عسكري عربي صهيوني بقيادة أمريكا، فلا يعني ذلك أنه لم يوضع على الطاولة ولم يُناقش باستفاضة، أو يؤكد إلغاء الفكرة من أساسها
أبدى الوزير السعودي اندهاشه من تناول وسائل الإعلام لهذا الموضوع قبل
القمة، ولكن هذا الاندهاش يؤكد أن موضوع التحالف الأمني قد نوقش في الغرف المغلقة،
ودعك من خطابات قادة الدول العربية في الجلسة الافتتاحية والتي أذيعت على الهواء
مباشرة، فهي لتجميل وجه القادة أمام الشعوب العربية ولتلطيف القعدة العربي وما
أدراك ما القعدة العربي وما تحتويه من ملذات وطيبات.
وكان مفروضاً عليهم في هذه القعدة تقديم الطبق الفلسطيني أمام الضيف الكبير
التي أقيمت المأدبة على شرفه، ففلسطين كبلد محتل لا تعنيهم بشيء، فستة من القادة
العرب التسعة المجتمعين في القاعة لهم علاقات دبلوماسية واقتصادية وعسكرية مع
الكيان الصهيوني المحتل لأرض فلسطين، والثلاثة الآخرين يسيرون على نفس الدرب بدون
علاقات رسمية مع دولة الاحتلال.
ويمكنا القول إن التطبيع العسكري قائم بالفعل مع كل تلك الدول عن طريق
القيادة الوسطي (المركزية) الأمريكية في قطر، بعد أن أصبح العسكريون الصهاينة
جزءاً من النطاق العسكري في المنطقة بقرار أمريكي في أواخر عهد ترامب، وبالتالي
يشارك العسكريون العرب في مناوراتها..
ولقد ذكرت وكالة إعلام أمريكية تقريراً تقول فيه إن التعاون العسكري العربي
الإسرائيلي هو أمر واقع منذ فترة، وأن أحد تطبيقاته جرى في 15 آذار/ مارس الماضي،
بحصول تعاون بين جيوش عربية والمنظومات الدفاعية الإسرائيلية باستهداف طائرتين
مسيرتين إيرانيتين وسقوطهما فوق أراض عربية..
التطبيع العسكري قائم بالفعل مع كل تلك الدول عن طريق القيادة الوسطي (المركزية) الأمريكية في قطر، بعد أن أصبح العسكريون الصهاينة جزءاً من النطاق العسكري في المنطقة بقرار أمريكي في أواخر عهد ترامب
ولقد لبت الدولة المُضيفة، المملكة العربية السعودية، رغبة ضيفها الكبير وفتحت
أجواءها أمام العدو الصهيوني عشية المؤتمر، وتفاخر الضيف بدوره بأنه أول رئيس
أمريكي يسافر بطائرة مباشرة من إسرائيل إلى السعودية، واعتبرها رمزاً مهماً في
طريق التطبيع والذي يمشي بخطى متسارعة على حد قوله!
هؤلاء القادة العرب التسعة ما كان لهم أن يتكلموا عن الحق الفلسطيني وإقامة
دولتهم الحرة المستقلة، والقدس التي يجري تهويد أحيائها على قدم وساق؛ وتهجير
أهلها من الفلسطينيين المرابطين المدافعين عن المسجد الأقصى الذي تنتهكه وتدنسه
قوات الاحتلال في حملاتها المتكررة عليه، وهم غارقون في غرام الكيان الصهيوني،
ولكنه نوع من المتاجرة بالقضية الفلسطينية التي اعتاد القادة العرب المتاجرة بها
منذ أن سبقهم إليها كبيرهم جمال عبد الناصر؛ الذي علمهم سحر كلمة فلسطين ومدى
تأثيرها على قلوب ووجدان الشعوب العربية..
لقد كشف الصحفي الصهيوني "يوسي ميلمان" بصحيفة هآرتس قبل وصول
بايدن للكيان الصهيوني، عن تاريخ طويل خفي من الاتصالات والاجتماعات بين الجانبين
السعودي والصهيوني منذ الثمانينيات من القرن المنصرم، عن طريق السفير السعودي
آنذاك في واشنطن "بندر بن سلطان"، والذي واصل اتصالاته واجتماعاته مع
مسؤولي الموساد وكذلك مع رئيسي وزراء سابقين لدولة الاحتلال، هما إيهود أولمرت
وبنيامين نتنياهو..
ويؤكد الصحفي مليمان، أن السعودية اشترت أسلحة وأجهزة وبرامج تنصت من
الكيان الصهيوني، وأن ولي العهد محمد بن سلمان سبق وأن اجتمع في مدينة نيوم
السعودية برئيس الوراء الصهيوني آنذاك نتنياهو، والذي كان بصحبته مسؤول مخابرات!
ولقد سبق الحديث عن أن ابن سلمان زار تل أبيب سراً وهبطت طائرته في مطار بن
غوريون للقاء القادة الصهاينة عام 2016، لتقديم أوراق اعتماده لتولي عرش المملكة
العربية السعودية، وحينما نشرت وسائل الإعلام الصهيونية الخبر مدعماً بصورة الطائرة
الملكية، لم يصدر بيان سعودي رسمي يكذب الخبر!
إن هناك توافقا تاما بين دول عربية، وعلى وجه الخصوص دول الخليج العربي والكيان الصهيوني، على رفض المشروع النووي الإيراني، ولكن تلك الدول تخشى الدخول في تحالف عسكري صريح مع الكيان الصهيوني، خوفا من الدخول في صراع عسكري مباشر مع إيران
لا شك أن هناك توافقا تاما بين دول عربية، وعلى وجه الخصوص دول الخليج
العربي والكيان الصهيوني، على رفض المشروع النووي الإيراني، ولكن تلك الدول تخشى
الدخول في تحالف عسكري صريح مع الكيان الصهيوني، خوفا من الدخول في صراع عسكري
مباشر مع إيران، فلقد عانت هذه الدول كثيراً من اعتداءات مباشرة على أراضيها من
أذرعها العسكرية في المنطقة، مثل عمليات الحوثيين التي استهدفت عمق الأراضي
السعودية ومواقع إماراتية وناقلات محلية وأجنبية في المياه الإقليمية للخليج
العربي.
ولعله لهذا السبب لم يتضمن البيان الختامي لقمة جدة إنشاء هذا الهيكل
الإقليمي المزعوم أو الناتو العربي الصهيو- أمريكي، الذي جرى الحديث عنه قبل زيارة
بايدن للسعودية. ومن وجهة نظري فإن الاهتمام كان بالجانب الدفاعي فقط، فالجانب
الصهيوني اقترح إنشاء "مشروع الدفاع الجوي للشرق الأوسط"، والذي سبق وأن
أعلنت دولة الاحتلال عنه الشهر الماضي، والذي يتضمن تنبيه الأطراف المعنية بعضها
بعضاً على الفور بشأن المسيرات المهاجمة..
وإذا كان البيان الختامي لقمة جدة لم يتضمن بناء هذا التحالف المشبوه، فإنه
موجود ما بين سطوره، وأن الولايات المتحدة ستبقي الضامن الأبدي لمصالح الكيان
الصهيوني في أي شكل من
التحالفات العربية الأمريكية، أما دمج دولة الاحتلال صراحة
وبشكل مباشر في هذا التحالف فهي مسألة شكلية أو مسألة وقت لا أكثر، أو لنقل مشروع
مؤجل إلى حين، فغاية أمريكا هي دمج الكيان الصهيوني في المنطقة العربية والإسراع
في إنجاز التطبيع بينها وبين الدول العربية بحيث يصبح نسيجا واحدا، فإن اتفاقيات
التطبيع تعتبر المفتاح السحري نحو تشكيل الناتو العربي الصهيو- أمريكي المشين!
لا شك أن زيارة الرئيس بايدن للمنطقة كانت بمثابة استدارة واهتمام بالشرق الأوسط
من جديد، بعد أن أعطتها الإدارة الأمريكية ظهرها واتجهت إلى آسيا الوسطى لحصار
الصين وتشديد الطوق عليها. وقد فرضتها عليه التطورات الجيو- استراتيجية المتمثلة
بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانيا وتهديدات الأمن والطاقة في أوروبا. لقد قال في كلمته:
"إن واشنطن لن تترك الفراغ في
الشرق الأوسط لكي تنفذ منه موسكو وبكين وطهران"،
وكأن مصائر هذه الدول وشعوبها يحددها فقط التنافس بين القوي الكبرى. فهو يدرك
تماما أن الدول العربية وخاصة دول الخليج؛ مصالحها مع أمريكا كدولة عظمى وتستطيع
أن تملي إرادتها عليها، مهما سارت هذه الدول في طريق التفاهمات مع موسكو وبكين،
وربما بتشجيع من أمريكا نفسها، ولكنها في النهاية في العرين الأمريكي. فلا ننسي أن
أمريكا هي التي سمحت لروسيا بالدخول عسكرياً إلى سوريا لقمع الثورة السورية وإنقاذ
السفاح بشار من السقوط..
جاءت قمة طهران باهتة بلا طعم ولا لون ولا رائحة، فالكل كان يغني على ليلاه، والكل يتكلم عن الإرهاب من وجهة نظره، والكل له أهدافه المتضاربة أو المتناقضة مع شريكي القمة. فبوتين يسعى لإنشاء تحالف استراتيجي مع إيران وتأليب تركيا على أمريكا، بينما سعت إيران إلى دعم الموقف الروسي في حربه ضد أوكرانيا كي تكسبها في صفها في محادثات الملف النووي
فلا يغرنك ما أشيع عن رفض الدول العربية تأييد السياسة الأمريكية تجاه روسيا
وفرض العقوبات عليها لإنهاك اقتصادها وحصار نفوذها، وأن السعودية لم تستجب برفع
معدلات إنتاج الطاقة بالمعدل الذي طلبته أمريكا للتعويض عن النفط والغاز الروسي
واكتفت بزيادة محدودة، ربما تكون مشاغبة أطفال أو نوعا من الدلال ومن قبيل المقايضة ليس
أكثر!
وليس من قبيل الصدفة أن يحضر الرئيس الروسي "فلاديمير بوتن" إلى
المنطقة، بعد أقل من ثمان وأربعين ساعة من مغادرة بايدن، لقد أراد إثبات الوجود
ونفي العزلة الدولية والظهور مع حليفين إقليمين قويين بينهما عضو في الحلف الأطلسي
(تركيا)، وكأنه يرد على بايدن عملياً برسالة مفادها "نحن هنا ولنا نصيب في
الشرق الأوسط أيضا ونستطيع تجميع الحلفاء والتنسيق الأمني معهم"!
لقد جاءت قمة طهران باهتة بلا طعم ولا لون ولا رائحة، فالكل كان يغني على
ليلاه، والكل يتكلم عن الإرهاب من وجهة نظره، والكل له أهدافه المتضاربة أو
المتناقضة مع شريكي القمة. فبوتين يسعى لإنشاء تحالف استراتيجي مع إيران وتأليب
تركيا على أمريكا، بينما سعت إيران إلى دعم الموقف الروسي في حربه ضد أوكرانيا كي
تكسبها في صفها في محادثات الملف النووي، وتريد من روسياً موقفاً حاسماً تجاه الضربات
المستمرة من الكيان الصهيوني على القوات الإيرانية وعلى المليشيات التابعة لها في
سوريا، فيما طالبت تركيا بدعم روسي وإيراني لعمليتها العسكرية المزمعة في الشمال
السوري..
من المؤكد أن أمريكا لا تزال ممسكة بخيوط اللعبة تحركها كما تشاء وكيفما تشاء.. ولا يغُرنك ما يقوله ويردده الكتاب القوميون العرب من أفول النجم الأمريكي وانتهاء زمن القطب الأوحد
وانتهت القمة من دون تغيير حقيقي في مواقف الدول الثلاث المشاركة، باستثناء
إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن اتفاق مع نظيره الروسي بوتين على توريد
الحبوب من أوكرانيا، وقد شاركت الأمم المتحدة في الاتفاق، مما يعتبر انتصارا دبلوماسيا
تاريخيا لتركيا، إذ أنها أصبحت في قلب معادلة الأمن الدولي بقوة. ولكن جاء الموقف
الإيراني الرافض للعملية العسكرية في سوريا مخيباً لآمال أردوغان في تحييد إيران
تجاه هذه العملية، بل دعاه المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي للحوار
لحل مشكلة تواجد حزب العمال الكردستاني، بدعم من واشنطن وروسيا، على حدوده مع
سوريا..
وانفض المولد، عفوا أقصد القمتين، دون تحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع
تحسم مواقف الدول المشاركة فيهما، ولكن من المؤكد أن أمريكا لا تزال ممسكة بخيوط
اللعبة تحركها كما تشاء وكيفما تشاء.. ولا يغُرنك ما يقوله ويردده الكتاب القوميون
العرب من أفول النجم الأمريكي وانتهاء زمن القطب الأوحد، فالدولار الأمريكي يكتسح
كل العملات حاليا أكثر من أي يوم مضي، وتكدست كل الأموال الساخنة في العالم في خزائن
أمريكا، واقتصادها هو أفضل أداء اقتصادي في العالم في ظل الأزمة العالمية للطاقة
والحبوب..
twitter.com/amiraaboelfetou