أفكَار

في تفكيك عقدة الاستعمار الغربي.. من القوة الصلبة إلى اللينة

بنسالم حميش: الواقع الاستعماري هو هذا الواقع المحقق بالوكالات التجارية والسكك الحديدية، التي تمهد جميعها لتحويل عالم ما وراء البحار إلى أسواق تستثمر فيها القوى المستعمرة فائضات إنتاجها.. (فيسبوك)
بنسالم حميش: الواقع الاستعماري هو هذا الواقع المحقق بالوكالات التجارية والسكك الحديدية، التي تمهد جميعها لتحويل عالم ما وراء البحار إلى أسواق تستثمر فيها القوى المستعمرة فائضات إنتاجها.. (فيسبوك)
عقدة اسمها الاستعمار

ظاهرة الاستعمار هي هذا الأمر الواقع الذي تبلور منذ بداية القرن التاسع عشر في اقتسام العالم بشتى أنواع التحكم والهيمنات، من أقواها وأعنفها تلك التي مورست بالاحتلال والضم على بلدان إفريقية وعربية وآسيوية من طرف قوى أوروبية متقدمة اقتصاديا وعسكريا. ففي إحصائيات كثيرة ومتقاربة، منها مثلا الواردة في مادة ''استعمار'' عن الموسوعة البريطانية، أن من 1825 إلى 1914 اتسع مجال السيطرة الأوروبية الاستعمارية المباشرة من 35% من سطح الأرض المأهول إلى حوالي 85%، فكان هذا ما جعل أنجلترا تسيطر على 30 مليون كم2 و400 مليون نسمة، وفرنسا على 10 مليون كم2 و48 مليون نسمة، فيما عادت الحصص الأقل اتساعا إلى ألمانيا وإيطاليا وبلجيكا والولايات المتحدة..

الواقع الاستعماري هو هذا الواقع المحقق بالوكالات التجارية والسكك الحديدية، التي تمهد جميعها لتحويل عالم ما وراء البحار إلى أسواق تستثمر فيها القوى المستعمرة فائضات إنتاجها الفلاحي والصناعـي، وتستفرد من خلالها بالامتيازات الجمركية وباستغلال الأراضي والمناجم.

إن ذلك الواقع في إطاره الحديث أو المعاصر لا يميزه عن التجارب الاستعمارية السالفة إلا درايته المعرفية والإدارية وتفننه في التحلي بشتى أنواع التبريرات الأيديولوجية، فإذا كان احتلال إسبانيا والبرتغال لمتسعمراتها في إفريقيا وأمريكا الجنوبية خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر يقوم بشكل واضح مفضوح على الغصب والنهب المنهجيين (تماما كما هو الحال في وصف ماركس لتراكم رأس المال البدائي)، فإن الاستعمار الامبريالي قد بات مصرا على التقدم من وراء أغطية ذرائعية (1)، وفي كل الأحوال عبر قنوات خطابات إيديولوجية قد تتمايز من حيث درجاتها، ولكن ليس من حيث طبيعتها، وتقوم جميعها على ركن ركين: تفوق الجنس الأوروبي على ما دونه من الأجناس الأخرى، وبالتالي حق الغرب في الهيمنة على الشعوب الجنوبية والشرقية من أجل تأدية رسالته التاريخية في تهذيب وتحضير العالم المتخلف، الخ.

في الخطوط الأمامية المكشوفة للهيمنات الاستعمارية، نجد طبعا طوابير المغامرين والمبشرين والمستخدمين المدنيين والعسكريين في أجهزة القمع والإدارة والتجسس، وعلى رأسهم طبعا الحكام والمقيمون العامون، كبوجو في الجزائر وبالبو في ليبيا، أو كآخرين منهم من تركوا كتابات ككرومير في مصر صاحب  Modern Egypt، وليوطي في المغرب صاحب Paroles d'action وبالأخص Vers le Maroc، الخ. وكانت أعمال تلك الطوابير تظهر في شكل أبحاث ميدانية وتقارير ومراسلات (منها مثلا ما يسمى بالنسبة لمنطقة المغرب العربي بالوثائق الخضر، التي هي الآن بحوزة مركز الدراسات العليا لإفريقيا والمغارب''، الذي يوجد مقره في باريس.. وأما في الدوائر الاستكشافية والتوطيئية أو في الحلقات الخلفية التبريرية، فإننا نجد هذه الجماعات من المغامرين والجواسيس والرهبان المبشرين أو من المستشرقين المحترفين·

لعل أبلغ مثال على وثاقة الصلة بين الاستعمار الفعلي وممهديه من المغامرين والمبشرين يقوم في حالتي توماس ـ إدوارد لورانس (تـ 1935) وهو ضابط أنجليزي ومعتمد دولته السري التي بعثته إلى الحجاز بدعوى مساعدة عرب الجزيرة على الإلتفاف حول قوميتهم قصد محاربة الحكم العثماني والتخلص من أغلاله، وذلك بزعامة شرفائهم، الذين كان من أقواهم وأفيدهم في تنفيذ مشروع تلك الدولة الأمير فيصل، الـمحصن في جبل صبح، الدرع الواقي لمكة.

أما الغاية الحقيقية لمخططي التسرب الإنجليزي في الحجاز، الذي بدأ منذ 1888 فهي كما لخصها لورانس نفسه: ''إن بعض الأنجليز، ومن بينهم كيتشنر أساسا، اعتقدوا أن ثورة العرب على الأتراك قد تتيح لأنجلترا، وهي تحارب ألمانيا، أن تهزم حليفها تركيا''(2)· وقد كُلف لورانس إذن بالتوطؤ لتحقيق هذه المهمة المزدوجة، التي توفق فيها إلى حد ما، فكان الأداة المسخرة لسياسة بلاده المكيافيلية التوسعية.

لعل أبلغ مثال على وثاقة الصلة بين الاستعمار الفعلي وممهديه من المغامرين والمبشرين يقوم في حالتي توماس ـ إدوارد لورانس (تـ 1935) وهو ضابط أنجليزي ومعتمد دولته السري التي بعثته إلى الحجاز بدعوى مساعدة عرب الجزيرة على الإلتفاف حول قوميتهم قصد محاربة الحكم العثماني والتخلص من أغلاله، وذلك بزعامة شرفائهم، الذين كان من أقواهم وأفيدهم في تنفيذ مشروع تلك الدولة الأمير فيصل، الـمحصن في جبل صبح، الدرع الواقي لمكة.
وهو يسجل بالحرف قائلاً: ''لقد بُعثت إلى هؤلاء العرب كأجنبيّ عاجزٍ عن التفكير في أفكارهم أو المصادقة على معتقداتهم، ومكلف فقط من حيث الواجب بتدريبهم وضمان نجاح كل حركاتهم حين تكون مطابقة لمصلحة إنجلترا· وبما أنني لم أكن قادرا على اكتساب شخصيتهم، فقد كان بوسعي أن أخفي عنهم شخصيتي، وبدون مشاحنة أو اعتراض أو نقد أن أختلط بهم لكي أمارس عليهم تأثيرا من دون أن يشعروا''(3)· غير أن اتفاقية سايكس ـ بيكو، في السنة نفسها التي قامت فيها ثورة العرب (1916)، أتت لتكشف عن أن نوايا الأنجليز، كما هو الحال لشركائهم الفرنسيين في الاتفاقية، كانت استعمارية أساسا، وأن لورانس لعب دور الجاسوس الواعي بمهمته ''الوطنية''، كما يؤكد ذلك اعترافه في تذييل كتابه أركان الحكمة السبعة، إذ يقول بواضح العبارة، وهو يعرض الدوافع التي حركت حلمه المنتهي بسقوط دمشق في أيدي الأتراك: ''إن أقواها أيضا كان هو الرغبة المناضلة في الانتصار، المقرونة بالإقتناع أن انجلترا، من دون العون العربي، لا يمكنها أن تدفع ثمن الانتصار في الحقل التركي" (4).
 Without Arab help, England could not pay the price of winning its Turkish sector"

يميز جوزيف نيي J. Nye بين القوة الصلبة hard power التي هي قوة الحكم القائمة على الطاقة العسكرية والاقتصادية، وبين القوة اللينة soft power التي هي قدرة دولة في جعل "بلدان أخرى تريد ما تريده هي"، بواسطة الثقافة والإيديولوجيا. لكن القوة الصلبة، كما يؤكد نيي "تنتشر على نحو مهم في العالم، والبلدان الكبرى تقل باطراد قدرتها على تسخير مصادرها التقليدية لبلوغ غاياتها". وبالعكس "إذا كانت ثقافة دولة وإيديولوجيتها مغربتين، فإن دولاً أخرى ستكون منقادة إلى قبول هيمنتها" وبالتالي القوة اللينة "لا تقل أهمية للقيادة عن القوة الصلبة".

غير أن هنتنغتون، صاحب هذا الإيراد، يذكر بحق أن القوة اللينة لا تكون ناجعة إلا بقيامها على القوة الصلبة، وإذن لا يمكن للأولى أن تستمد عناصر إغرائها إلا من الثانية، وإنّ تدني هذه ينعكس سلباً على تلك ويؤدي إلى عزوف البلدان الأخرى عنها. ويختم بما هو ميدئيا أقرب إلى الصواب قائلاً: "إن البلدان غير الغربية ما إن تنمي وسائلها الاقتصادية ةالعسكرية والسياسية حتى تثبت بثقة أكبر مزايا قيمها ومؤسساتها" (5).

لكن هنتنغتون يعلم في قرارة نفسه أن البلدان القوية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، هي التي تقنن درجات التقدم خارجها وتوزع أوراقه بشروط ومقادير مضبوطة ومحروسة تضمن لها في كل الأحوال والتقلبات بقاءها كقوة سائدة مهيمنة. ولا أدل على ما نقوله من كون صاحب صدام الحضارات يعترف هو نفسه بذلك الواقع مشخصاً في إحدى تجلياته الملموسة، الكامنة في ازدواجية المواقف ىوالمعايير التي رفعتها تلك البلدان إلى سدة السياسة المتبعة سراً أو جهراً أمام قضايا ومعضلات مجمل بلدان الجنوب؛ وهذا ما يسجله خبيرنا الموظف عن البلدان الغربية ـ نستشهد به عن قصد من باب "شهد شاهد من أهلها" ـ : "إنها (أي تلك القوة) تدافع عن الديمقراطية لكن حينما تأتي بالأصوليين الإسلاميين إلى الحكم؛ تحرم انتشار السلاح النووي على إيران والعراق وليس على إسرائيل؛ تعتبر حقوق الإنسان مشكلاً في الصين وليس في العربية السعودية؛ ترد العدوان عن الكويت الغني بالنفط وتتلكأ في حالة الهجومات على البوسنيين الذين ليس لهم نفط، إلخ" (6).

وينسى صاحبنا في حالة إسرائيل واللوبيات الصهيونية الغربية تحويلها لقضية المحرقة النازية (الهولوكست) إلى حكرة تجريمية انتفاعية مستدامة، هذا في حين أن تاريخ الاستعمار الإبادي تُطوي في الغرب سجلاته السوداء ولا تُروى ولا يُعوض عنها.

ويضيف هنتنغتون إلى وصفه ذاك لسياسة الغرب النفاقية هذا المعطى: "لما فهم القادة الغربيون أن المسلسل الديمقراطي في المجتمعات غير الغربية يخلق حكومات معادية للغرب، اجتهدوا في التأثير على الانتخابات، وقللوا من حماسهم السابق في الدفاع عن الديمقراطية في تلك المجتمعات" (7).

وإجمالاً هناك معطى المصالح الوطنية والتجمعاتية الغربية التي تعلو ولا يعلى عليها، إذ تحدو بحكومات بلدان في الشمال، عند الحاجة، إلى إسناد مهمات السهر والمحافظة على مواقعها ومنافعها إلى أنظمة دكتاتورية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، مضحية في ذلك بكل "حق في التدخل" من أجل الدفاع عن الديمقراطية والشعوب (كما دلت على ذلك حالات كثيرة: باتيستا كوبا وبينوشي الشيلي وشاه إيران وسوموزا النيكاراغوا وماركوس الفلبين وموبوتو الزايير وسوهوتو إندونيسيا، وصدام حسين الثمانينيات، إلخ).

هينتغتون: "لما فهم القادة الغربيون أن المسلسل الديمقراطي في المجتمعات غير الغربية يخلق حكومات معادية للغرب، اجتهدوا في التأثير على الانتخابات، وقللوا من حماسهم السابق في الدفاع عن الديمقراطية في تلك المجتمعات"
أما تعامل بلدان الشمال مع الجنوب بسياسة الكبح والردع ودوس الحقوق فيدلل عليه تاريخ الاستعمار كله، كما تظهره بنحو سافر جلي أكثر من حالة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

أ‌ ـ حالة محمد علي والي مصر (1805- 1848) الذي سعى إلى النهوض بمصر وتحديثها علمياً واقتصادياً وثقافياً، وذلك بعد أن وسع حكمه إلى الجزيرة العربية والسودان وسوريا والأناضول وحقق انتصارات عسكرية مهمة؛ إلا أن الأوروبيين بزعامة إنجلترا تدخلوا لإعاقة مشاريعه التنموية وإيقافها، فبات يقول: "إني لست من دينهم، لكنني إنسان مثلهم، ويلزم أن أعامل إنسانياً"؛ وكان ذلك التدخل بدعوى ميول وَالي مصر إلى الاستقلال والاستقواء تجاهها وتجاه الباب العالي العثماني الآخذ في التصدع والإذغان لهيمنة تلك القوى وحمايتها، فاضطر محمد علي إلى التراجع عن مشاريعه، وقبول تحول حكمه على مصر وحدها إلى خديوية وراثية..

وتذكرنا من وجوه تلك الحالة بحالة السلطان المغربي محمد الثالث الذي حاول خلال النصف الثاني للقرن الثامن عشر إصلاح أحوال بلاده بنهج غير مسبوق من الللامركزية الإدارية والتسييرية، بإسناد تدبير الجباية لا إلى قوة الجيش (كما على عهد جده إسماعيل)، بل إلي إدارة المستحقات الضريبية على التجارة الخارجية، الموانئية والبحرية. وقد أدت هذه السياسة دوراً مهما في مراودة بعض وجوه التحديث الواعدة؛ غير أن صعوبات داخلية وبالأخص الإكراهات والضغوطات الخارجية عاكست توجهها واستمراريتها. وهكذا أتى الاستعمار الأوروبي لتعميق الأزمات المغربية وإدارتها لصالح تغلغله وسيطرته، وذلك من خلال مسلسل موسوم معلّم بثلاثة تواريخ كبرى: مؤتمر مدريد 1880، اتفاقية الجزيرة الخضراء في 1906، وأخيراً توقيع مولاي حفيظ على معاهدة الحماية الفرنسية في 30 مارس 1912.

بـ ـ حالة محمد مصدق رئيس الحزب الوطني والوزير الأول سابقا في إيران، الذي أمم في 1951 ثورة بلاده النفطية، وسعى إلى إرساء الديمقراطية نظاماً وممارسة؛ ثم سرعان ما تمّ إسقاطه من طرف الشاه في 1953، وذلك بإيعاز من وكالة المخابرات الأمريكية (CIA)، كما اعترف به تقرير للوكالة نفسها نشرته في أبريل 2000 "نيويورك تايمز"، مما حدا بمادلين أولبرايت، يكرتيرة الدولة السابقة في الخارجية، إلى إقرار بدور بلادها في ذلك الانقلاب والاعتذار عنه (يومية لومند، 20 مارس 2000). ويلزم تذكر حالات أخرى كثيرة ومعروفة، منها العدوان الثلاثي (فرنسا وإنكلترا وإسرائيل) على مصر في 1956 بعد إقدام جمال عبد الناصر على تأميم قناة السويس؛ ومنها اغتيال باتريس لومومبا في 1961 بإيعاز من دول غربية للحفاظ على مصالحها وامتيازاتها الاقتصادية في الكونغو كينشاسا وإقليمه كاتنكا الغني بالثروات المعدنية؛ وقد اعترفت الحكومة البلجيكية كؤخراً في غضون يناير 2002 بمشاركة بلادها في ذلك الاغتيال، واعتذرت عنه للشعب الكونغولي.
التعليقات (0)