كانوا يعطّرون جوانب دمشق القديمة ومجالس الحديث والفقه والسيرة النبويّة في جامع بني أميّة، بجميل حديثهم وعميق علمهم، فأطلق عليهم آل العطّار لعذب حديثهم وعطر كلامهم، نبغ منهم محمد رضا بن إبراهيم بن محمود العطّار؛ وهو فقيهٌ وشاعرٌ وعالم بالسيرة النبويّة، وبالإضافة إلى تدريسه في الأموي، فقد تقلد مناصب عدة في القضاء المدني والشرعي، وعندما نجم استبداد الاتحاديين أعلن موقفا متقدّما منهم، فحُكم عليه بالإعدام فهرب إلى البوادي السوريّة، فألقي القبض عليه ونفي إلى الأناضول، وبقي فيها إلى نهاية الحكم التركي لسوريا، فعاد إلى دمشق ليرزق فيها سنة 1927م بطفله الذي أسماه عصام.
نابغة المنبر
"تعوّدتُ الخطابة وأنا في المدرسة
الابتدائية؛ كانوا في إدارة المدرسة إذا زارتنا مدرسة أخرى، وتكلّم بعض أساتذتها،
طلبوا إليّ، بل ألحّوا عليّ، أن أردّ ـ على غير رغبة مني ـ باسم الإدارة والأساتذة
والطلاب جميعا.
في الثانية عشرة من عمري، عرفت "مجلة الرسالة" التي كان
أصدرها أحمد حسن الزيات في القاهرة سنة 1933م، وكان يكتب فيها شيوخ الأدب وروّادُه
الكبار، واشتريت بعض أعدادها القديمة من إحدى المكتبات، فقرأت للرافعي والزيات
والمازني وطه حسين وأحمد أمين، وعباس محمود العقّاد بعدَ
وفاة الرافعي رحمهم الله
جميعا، وفي مجلة الرسالة قرأت لعلي الطنطاوي، وأعجبت به وبما قرأته له".
هكذا وصفَ الزّعيم المسجّى طفولته، فالفصاحة فيه موهبة، والبيان عنده
ملكة، والقراءة نهمٌ لا يشبع منه، وكل هذا كان إلى جانب القرآن الكريم الذي حفّظه
إياه والده طفلا، كما حفّظه ألفية ابن مالك وهو في طفولته الأولى، وهذه الطفولة
تشي بشخصيّة تتربّى على الزعامة في حجر أب جمع بين العلم والحريّة، وفي كنف أستاذ
ملك جرأة التقدير لطالبه فأطلق قدراته مبكرا؛ كان الشيخ علي الطنطاوي ذلك
الأستاذ، وكان اللقاء الأول بينهما يحمل درسا بليغا حُقّ لكل المشتغلين بدورات
صناعة القادة أن يثنوا الرّكب أمامه.
"سمعت به أوّل مرة في الجامع الأموي في
دمشق وأنا في نحو الثامنة من العمر كان ذلك في سنة 1935م، وله من العمر زهاء ستٍّ
وعشرين سنة.وفي سنة 1945 أو 46 افتتح المعهد العربي الإسلامي في دمشق،
وحضرتُ فيه بعض الدّروس. ودعت إدارة المعهد مرة الأستاذ الطنطاوي لإلقاء درس أو
محاضرة أدبيّة على طلبة صفوفه العليا وبعض أساتذته، وحضر الأستاذ الطنطاوي وألقى
الدرس أو المحاضرة، ثم طلب إلى الحضور أن يسألوا أو أن يعقّبوا على ما قال،
وتكلّمتُ كما طلب؛ وكان لي نظرة غيرُ نظرته، ورأيٌ غير رأيه في بعض ما سمعناه منه،
وبعد نحو دقيقتين أو ثلاث استوقفني، وطلب إليّ أن أقف بدَله على المنبر، وأن يجلس
بدلي على مقعد الدّرس، فأبيت واستحييت، فأقسم عليّ أن أفعل، وقال لي بحرارة وحبّ:
أنت أحقُّ بأن يُتلَقّى عنك، ثم التفت إلى الحضور وبينهم بعض الأساتذة وقال: والله
لا أدري كيف يأتون بمثلي وعندهم هذا العالِمُ الأديب.
ووقفتُ على المنبر، ولم أتابع الحديث فيما كنت فيه؛ ولكنني تحدثت عن
الأستاذ الطّنطاوي، وعن آثاره، وخصائص أدبه، حديث العارف المستوعب المتعمّق، وهو
ينظر إليّ بدهشة ولا يكاد يصدّق، فلمّا انتهيت قال لي: من أنت؟ قلت عصام العطّار.
قال: هل تعرف الشيخ رضا العطار؟ قلت: هو أبي، وكان أبي أيضا من رجال
القضاء. ومنذ ذلك الوقت بدأت معرفتنا الشخصية المباشرة، وأخذت خطاي طريقَها إلى
بيته في الجادة الخامسة في المهاجرين، وخطاه طريقها إلى بيتنا في
"الزهراء" قرب الجسر الأبيض، واتصلت حبال الودّ بين الأسرتين، الرجال
بالرجال، والنساء مع النساء".
وإنّك لا تدري ممّن تعجب؛ من موقف الطنطاوي الذي يقدم درسا عميقا
لكل المربّين والمدرسين والعاملين في استكشاف الطاقات والمواهب، أم من موقف
العطّار الذي بادل الحبّ بالحب والتقدير بالتقدير والعرفان بالعرفان، فجعل كلّ
كلامه عن الطّنطاوي تعريفا وثناء.
في هذه الأجواء وبين هذه العقول والقامات ترعرع العطّار، حتى غدا
نابغة خطباء دمشق وهو في العشرين من عمره، وينقل لنا الشيخ علي الطنطاوي في
"الذكريات" وهو يتحدث بمرارة عن تجربته في الانتخابات النيابيّة التي
ترشح لها سنة 1947م، فخسر لأسباب كثيرة بعضها متعلق بالتزوير، وبعضها متعلق
بالتحالفات الحزبية التي دفعت بعض المقربين له من أصحابه للوقوف ضده؛ فيقول
متحدثا عن لمسة وفاء وسط هذا الألم: "لقد رأيت الوفاء من جيراننا في الحيّ،
ورأيت الوفاء من تلاميذي وتلاميذ أبي، حين أقام لي الشيخ محمود العقّاد رحمة الله
عليه حفلة في مدرسته "المدرسة التجارية العلمية" جمعَتْ وجوه البلد،
وفي هذه الحفلة ظهر خطيب جديد كان يومئذ شابّا في العشرين، فبهر الناسَ بخطبة
ارتجلها، وبهرني مع الناس هذا الذي صار من بعدُ نابغة الخطباء، وهو عصام العطّار".
الوحدة أكبر من أخطائها
قامت الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958م على يد عبد الناصر الذي اشترط
حل الأحزاب والتنظيمات، ولم يكن هناك أي خلاف داخل جماعة الإخوان المسلمين في
سوريا، التي تتوق إلى الوحدة وتنادي بها وتؤصل لها، فأعلن السباعي حلّ الجماعة.
وفي مسجد جامعة دمشق حيث يولّي آلاف الشباب وجوههم يوم الجمعة، كان
عصام العطار المتمسك بالوحدة والمنظر لها الصوت الأبرز في مواجهة طغيان عبد الناصر
الذي زاد عن حد الاحتمال، فكان يهدر بالحق منتقدا الإجراءات القمعية التي تفرضها
سلطات الوحدة، وكان يعلن بوضوح بأن طريق الوحدة يتناقض مع الديكتاتورية، ويحذر
عبد الناصر من مغبة انتقاص حقوق الإنسان، وأن ذلك سيكون وبالا على الوحدة برمتها.
وفعلا وقع ما حذر منه العطار وأعلن الانفصال، وقع القوميون
والشيوعيون والاشتراكيون الذين كانوا يعلنون تأييدهم لعبد الناصر على وثيقة
الانفصال، وبعضهم ممن أسّس هذه الوحدة أمثال أكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار،
أما الإخوان فقد اختلفوا في الرأي، غير أن العطار كان حازما واضحا في رفض التوقيع
على وثيقة الانفصال بأي شكل من الأشكال، واستطاع توحيد الإخوان على رأيه فأعلنوا
جميعا رفضهم للانفصال، على الرغم من أنهم كانوا الأكثر تعرضا للاضطهاد في ظل
الوحدة.
وكان العطار يجيب عندما يسأل عن سبب رفضه التوقيع على وثيقة
الانفصال: "كيف تريدونني أن أبارك حركة هدمت حلما يسكن أبناء الأمة منذ
قرون، إن خلافنا مع نظام الوحدة شيء، وتمسكنا بالوحدة شيء آخر"، وكانت عبارته
التي يرددها على منبر مسجد الجامعة؛ "إن الوحدة أكبر من أخطائها".
في مواجهة الاستبداد والطّغيان
بعد الانفصال، لم يتوقف العطار عن رسالته الداعية إلى إرساء الحرية
السياسية، فدعا الحكم الجديد إلى انتهاج الديمقراطية.
دعا معروف الدواليبي المكلف بتشكيل الوزارة عصام العطار للمشاركة
فيها، غير أن العطار أعلن بكل وضوح: "لا يمكنني القبول بالمشاركة في حياةٍ
تقول إنها ديمقراطية، ولكنها جاءت بانقلاب عسكري، وهذه الانتخابات لن تعيش طويلا
حتى يتم الانقلاب عليها من جديد".
وفعلا كان ما توقعه، وبعد أشهر وقع الانقلاب الذي أطاح بالرئيس ناظم
القدسي، وتم اختيار ثلاث عشرة شخصية لاستلام الحكم، وكان من بينها عصام العطار
الذي أعلن من على منبر مسجد الجامعة رفضه للانقلاب، ورفضه للمشاركة في لجنة استلام
الحكم، وطالب بإعادة رئيس الجمهورية المنقلب عليه، مع تهديد بإجراءات شعبية مناهضة
للانقلاب، فما كان من سلطة الانقلاب إلا الرضوخ والإفراج عن الرئيس ناظم القدسي، وإعادته إلى رئاسة الجمهورية.
أجبرت سلطة الانقلاب الرئيس قدسي على اختيار بشير العظمة لمنصب رئاسة
الوزراء، فأعلن عصام العطار من على المنبر رفضه لاستلام العظمة رئاسة الوزراء؛ كونه
شيوعيّا سيحرف سوريا عن توجهها العربي والإسلامي، وطالب بتشكيل حكومة ائتلافية
يشارك فيها الجميع، أو حكومة حيادية يطمئن إليها الجميع، فدعاه الرئيس إلى القصر
الجمهوري وعرض عليه أن يقبل ببشير العظمة رئيسا للوزارة، مقابل أن يختار أربعة
وزراء يسميهم بنفسه؛ فرفض العطار هذا العرض، وما كان من حكومة بشير العظمة أمام
موقف العطار إلا أن تقدم استقالتها.
وفور انقلاب البعث عام 1963م، اشرأبت الأعناق لموقف عصام العطار فزحفت
عشرات الألوف إلى مسجد الجامعة في أول خطبة عقب الانقلاب، لتجد المسجد محاطا
بعشرات الدبابات، وكل هذا لم يرهب العطار الذي خطب خطبة عظيمة قال فيها: "صفحتنا أنصع من أي صفحة، وجبهتنا أرفع من أي جبهة، وطريقنا أقوى من
أي طريق، وأنا أتحدى كل إنسان كائنا من كان أن يضع ذرة من الغبار، لا أقول على
جباهنا المرتفعة، ولكن على أحذيتنا وأقدامنا، وأعلن أنني أرفض أي ضرب من ضروب
الحكم الديكتاتوري الاستبدادي، والطغاة الماضون سقطوا طاغية بعد طاغية بعد
طاغية تحت أقدامنا ونحن على هذا المنبر، وسيذهب الطغاة الجدد كما ذهب الطغاة
القدماء".
وبعدها مباشرة، فرضت قوى الانقلاب عليه الإقامة الجبرية إلى أن خرج
إلى الحج عام 1964م، ومنع من العودة إلى سوريا بعد ذلك ليتنقل في منافي الأرض، وليحط
رحاله في منفاه الأخير في مدينة آخن الألمانية.
بنان.. جبهة المجد الدّامية
"فُرِضَ عليَّ فَرْضًا من سلطات ألمانيا ألا أستقرّ في مكان، فهناك كما قالوا قتلةٌ مسلّحون يقتفون أثري، ويريدون
قتلي، فيجب أن يتغيّر عنواني وسَكَني باستمرار، قلت لهم: دعوني أُقْتَل فأنا لا
أخافُ القتلَ، ولا أرهبُ الموت، ولا أُحَمِّلُكُم ولا أُحَمِّلُ أحدا غيري
مسؤولية ما يصيبني؛ قالوا: إنّ وجودك في مكانٍ دائم يُهَدِّدُ حياةَ غيرك من
السكّان، وينشُرُ القلقَ والفزع في الشارع الذي تسكن فيه، ويصنع كذا وكذا وكذا من
الأخطار والأضرار، فلا بدّ لك كما طلبنا من تغيير عنوانك وسكنك باستمرار!
سَنَةٌ ونصفُ السنة، لا يكادُ يستقرُّ جنبي في بلد أو سَكَن حتى
يُقالَ لي: ارحل فقد عرف مكانك! ارحل.. ارحل.. ارحل، وفي هذا الرحيل المتواصل في
الصيف وفي الشتاء، وفي الربيع والخريف، بين مدن وقُرىً، وفنادق ومنازل منقطعة
عن العمران، يباعد بعضَها عن بعض أحيانا مئاتُ الكيلومترات، وأنا مُتعَب مُرْهَق مَريض مَريض".
هكذا يصف الزّعيم عصام العطّار حالته إثر وصوله إلى ألمانيا، فلم يتركه
الطغاة من الملاحقة، وهكذا هو الاستبداد ترعبه الكلمة، وتقض مضجعه الروح الوثابة،
وتهزّ أركانه الهمّة العليّة.
وفي السابع عشر من آذار عام 1981م كانت الفاجعة التي لم يُشف منها
الأستاذ عصام العطار إلى أن فارقت روحه جسده، اغتيال بنان الطنطاوي؛ أم أيمن التي
كانت فداءه، ولعل خير من ينقل المشهد المفجع، هو والدها الشيخ علي الطنطاوي الذي
يقول في "الذكريات" التي نشرت عقب أربع سنوات من اغتيال بنان: "ما
صدّقت إلى الآن ـ قد مرّ على استشهادها أربع سنوات ـ أنها ماتت؛ إنني أغفل أحيانا
فأظنّ إنْ رنّ جرس الهاتف أنها ستُعْلِمني ـ على عادتها ـ بأنها بخير لأطمئنّ
عليها. تكلّمني مستعجلة ترصف ألفاظها رصفا، مستعجلة دائما، كأنها تحسّ أن الردى
لن يبطئ عنها، وأن هذا المجرم، هذا النذل، هذا... يا أسفي، فاللغة العربية على
سعتها تضيق باللفظ الذي يُطلَق على مثله، ذلك لأنها لغة قوم لا يفقدون الشرف حتى
عند الإجرام.
إن في العربية كلمات النذالة والخسة والدناءة وأمثالها، ولكن هذه
كلها لا تصل في الهبوط إلى حيث نزل هذا الذي هدّد الجارة بالمسدس، حتى طرقَت عليها
الباب لتطمئن فتفتح لها، ثم اقتحم عليها، على امرأة وحيدة في دارها، فضربها ضرب
الجبان. والجبان إذا ضرب أوجع! أطلق عليها خمس رصاصات تلقّتها في صدرها وفي وجهها،
ما هربت حتى تقع في ظهرها، كأن فيها بقيّة من أعراق أجدادها الذين كانوا يقولون:
ولسنا على الأعقابِ تَدْمى كُلومُنا
ولكنْ على أقدامِنا تقطُرُ الدِّما
ثم داس الـ... لا أدري والله بِمَ أصفه؟ إن قلت "المجرم"
فمِن المجرمين مَن فيه بقيّة من مروءة تمنعه من أن يدوس بقدمَيه النجستين على التي
قتلها ظلما ليتوثّق من موتها، ربما كان في المجرم ذرّة من إنسانية تحجزه عن أن
يخوض في هذه الدماء الطاهرة التي أراقها. ولكنه فعل ذلك كما أوصاه مَن بعث به
لاغتيالها، دعس عليها برجليه ليتأكّد من نجاح مهمّته، قطع الله يديه ورجلَيه. لا،
بل أدعه وأدع مَن بعث به لله، لعذابه، لانتقامه. ولَعذابُ الآخرة أشدّ من كل عذاب
يخطر على قلوب البشر.
لقد كلّمتها قبل الحادث بساعة واحدة، قلت: أين عصام؟ قالت: خبّروه
بأن المجرمين يريدون اغتياله وأبعدوه عن البيت. قلت: فكيف تبقين وحدك؟ قالت: بابا
لا تشغل بالك بي، أنا بخير. ثق والله يا بابا أنني بخير، إنّ الباب لا يُفتَح إلا إن فتحته أنا، ولا أفتح إلا إن عرفت من الطّارق وسمعت صوته. إنّ هنا تجهيزات
كهربائية تضمن لي السلامة، والمسلّم هو الله.
ما خطر على بالها أن هذا الوحش، هذا الشيطان، سيهدّد جارتها بمسدسه
حتى تكلّمها هي، فتطمئنّ فتفتح لها الباب.
ومرّت الساعة فقُرع جرس الهاتف، وسمعت من يقول لي: كلّم وزارة
الخارجية. قلت: نعم؟ فكلّمني رجل أحسست أنه يتلعثم ويتردّد، كأنه كُلّف بما تعجز
عن الإدلاء به بُلَغاء الرجال، بأن يخبرني... كيف يخبرني؟ وتردّد، ورأيته بعين
خيالي كأنه يتلفّت يطلب منجى من هذا الموقف الذي وَقَفوه فيه، ثم قال: ما عندك أحد
أكلّمه؟ وكان عندي أخي، فقلت لأخي: خذ اسمع ما يقول.
وسمع ما يقول، ورأيته قد ارتاع ممّا سمع وحار ماذا يقول لي، وكأني
أحسست أن المخابرة من ألمانيا، وأنه سيُلقي عليّ خبرا لا يسرّني، وكنت أتوقّع أن
ينال عصاما مكروه، فسألتُه: هل أصاب عصاما شيء؟ قال: لا، ولكن... قلت: ولكن
ماذا؟ عجّل يا عبد الغني فإنك بهذا التردّد كمن يبتر اليد التي تَقَرّر بترُها
بالتدريج، قطعة بعد قطعة، فيكون الألم مضاعَفا أضعافا. فقُل وخلّصني مهما كان
سوء الخبر.
قال: بنان. قلت: ما لها؟ قال، وبسط يديه بسط اليائس الذي لم يبقَ في
يده شيء. وفهمت وأحسست كأن سِكّينا قد غُرس في قلبي، ولكني تجلّدتُ وقلت هادئا
هدوءا ظاهريّا، والنار تتضرّم في صدري: حدّثني بالتفصيل بكل ما سمعت. فحدّثَني.
وثقوا أنني لا أستطيع ـ مهما أوتيت من طلاقة اللسان ومن نفاذ البيان ـ أن أصف لكم
ماذا فعل بي هذا الذي سمعتُ".
هذا والدها، أما زوجها عصام العطّار، فقد بقي كلّ عمره لا يفتأ يذكرها، وكلما ذكرها بكاها كأنّه يبكيها لأوّل مرّة، وعاش ثلاثًة وأربعين سنة بعدها يشتاق
لقاءها، وما كتبه عنها وقد كتب وقال عنها الكثير: "مضى في هذه السنة 2019م
ثمانية وثلاثون عاما على استشهاد زوجتي بنان علي الطنطاوي "أم أيمن"
رحمها الله.
ثمانية وثلاثون عاما مضتْ على غياب هذا الكوكب الذي أضاء حياتي وحياة
أسْرتي في أحلك ليالي الغربة والتشرّد والخطر والمَرض، وأضاء لمنْ كان حولنا حيثما
سرينا في الأرض. ثمانية وثلاثون عاما مضت على فراق زوجتي وحبيبتي وصديقتي ورفيقة
دربي، وسندي وعوني، حيث لا سند ولا مُعين إلا الله.
ثمانية وثلاثون عاما مضتْ على رحيل هذه المسلمة العظيمة، والزوجة
العظيمة، والأم العظيمة، والإنسانة العظيمة.. لمْ تحمل في قلبها وفكرها هموم بلدها
وأهلها وأخواتها وإخوتها فحسب، بل حَمَلَتْ مع ذلك هموم عالمها العربيّ والإسلامي،
وهموم الإنسانية والإنسان أَنَّى كان هذا الإنسان، وفاضت في قلبها الرحمة فشملت
سائر المخلوقات، وكَمْ رأيتُها تبكي لمآسي ناس لا نعرفهم في بلاد لا نعرفها، وكم
سمعتُها تُذكِّر في أحاديثها ودعوتِها إلى تعارف الشعوب، وتراحمها وتعاونها على
الحقّ والعدل والخير.
وكانت ـ رحمها الله ـ تعرفني وتفهمني وتُحِسّ بي إحساسا عجيبا، كأنها تسكن في داخلي، وتعيش معي مشاعري وخواطري، ولو لم أنبس ببنتِ شفة. كانت
تستطيع بنظرة واحدة خاطفة أن تستشفّ ما يدور في خَلَدي، وأن تعرف ـ مَهْما كنتُ
عاديَّ المسْلَك، هادئ المظهر ـ إن كنتُ في أعماق نفسي حزينا أو مسرورا، مشغول
البال أو مُطْمئنّ النفس، وكانت وهي شريكة حياتي كلها تستطيع أن تُقدّر دون سؤال
أسباب ما أنطوي عليه من سرور أو حزْن، ومن طمأنينة أو قلق، وما كان أقدرها عند ذلك
على أن تحيطني من محبَتها وفهمها ومشاركتها الوجدانية العميقة الصادقة في ظروفنا
المختلفة الصعبة بكلّ ما يسرّي عن النفس، ويُجدّد العزم والنشاط، ويعين على متابعة
الطريق مهما كانت المصاعب والظروف.
كانت ـ رحمها الله ـ قادرة رغم حساسيتها الشديدة وتأثّرها الشديد
بكلّ ما يعرّض لنا أو ينزل بنا قادرة على أن تسْتَنْبت أزاهيرَ سرور في أراضي
الأحزان، وتوفّر لنا لحظات مُتَع بريئة في زحْمة الواجبات والأعمال، وأن تحوِّل
غرفا حقيرة سكنّاها إلى ما هو أحْلى من قصور، وأن تجعل سعادة غريبة تسكن معنا، وتعيش بيننا حيث سكنّا من البلدان، وكثيرا ما شعرنا في غرفنا الحقيرة بهذه السعادة
الغامرة، وبنشوة الاستعلاء على الشدائد والمغريات في سبيل الله عزَ وجلّ.
ما أحَبّتْ زوجة زوجها أكثر ممّا أحَبَّتْ بنان زوجها
وما فهمتْ زوجة زوجها أكثر ممّا فهمتْ بنان زوجها
وما أعانتْ زوجة زوجها أكثر ممّا أعانتْ بنان زوجها
وما تعبت زوجة بزوجها، ولا ضحَّت زوجة من أجل زوجها أكثر ممّا تعبت
وضحَّت بنان
وما شاركتْ زوجة زوجَها في النعماء والبأساء، والسرّاء والضرّاء،
واليسر والعسر، والصحة والمرض، والأمن والخوف، والغربة والوطن بقلبها وفكرها وكلّ
كيانها وطاقاتها، وآثرتْ زوجها على نفسها في مختلف ظروفها وحالاتها أكثر من بنان.
لقد امتزجتْ حياتها بحياتي قلبا وفكرا، ورؤْية وأملا، وإرادة
وعملا.. كان قلبي ينبض في صدرها فتُحسّ ما أُحِسّ، وتطلب ما أطلب؛ وكان قلبها
ينبض في صدري فأحسّ ما تحسّ وأهْفو إلى ما إليه تهْفو، فكأنّنا في معظم أمورنا شخص
واحد: إذا تكلمتْ ـ كما يعرف ذلك كلّ من
صَحِبنا أو عرفنا أو سمعنا ـ فالروح روحي، والنّبْرة نبْرَتي، واللهجة لهجتي؛ وإذا
كتبتْ فاللغة لغتي، والأسلوب أسلوبي؛ فما يفرِّق بين ما أكتبه أو تكتبه إلا ذوّاقة بصير خبير".
لعلّها اقتباسات طويلة على غير عادتي في المقالات، لكن من يملك روح
الطنطاوي في الحديث عن ابنته بنان؟! ومن يستطيع نقل فجيعة عصام العطار بزوجته مثل
كلماته وحروفه؟!
فلسطين.. محطته المستمرّة
كثيرة هي المحطات في حياة الزعيم عصام العطار، وقضايا الأمة كلها
كانت قضيّته التي يعمل لها كما لو أنّه الوحيد الذي يقف على ثغرها، أمّا فلسطين،
فلم تكن محطة بل كانت جزءا من روحه وفكره وهمومه التي لا تفارقه ولا تغادره، ولك
أن تسمعه وهو يخاطب مخيم جنين عقب ملحمته البطوليّة:
فُقتَ القصورَ الشّامخاتِ جلالا
وَغَدوتَ رمزا خالدا ومثــــــــــــــــــالا
أَمُخَيَّمَ الأبطالِ دُمِّرَ صـــــــــــامدا
كم ذا ستَصنعُ بَعدكَ الأبطالا
أَمُخَيَّمَ الأبطــــــــــــالِ أَلفُ تحيةٍ
تسمو إليـــــــــــكَ وتنحني إجلالا
إن كانَ بعضُ النّاسِ يَحسُنُ قولهُ
فلقد سَبَقتَ بِفِعلِكَ الأقـــــوالا
وكأنه يخاطب غزة اليوم كما خاطبها في حرب 2014م قائلا: "لن
تهزم غزة بعد اليوم، ولن تموت مع هذا الإيمان والعطاء والشموخ قضيّة فلسطين، هذه
الملحمة الأسطوريّة العظيمة، والبطولات والتضحيات العظيمة، منعطف عميق في قضيّة
فلسطين وفي تاريخنا العربيّ والإسلامي الحديث، حيّاكم الله يا شهداء غزّة، يا
أبطال غزة"
إنّ المحطات في حياة الأستاذ عصام العطار أوسع من عباراتنا
وتعبيراتنا، وكليلةٌ هي الكلمات في حضرة الزعيم المسجى، وباهتةٌ تبقى العبارات
عندما تحاول مجاراة جواد لم يقبل أن يسرَج، وبقي يصهلُ في ميادين الحريّة إلى أن فاضت
روحه شامخا لم ينحنِ لعاصفة ولم يخضع لمرحلة.