للأسبوع الثاني على التوالي نتحدث عما يجري في
إدلب، أولا
لغياب الحديث عنها والتركيز عليها، والسبب الثاني لأهمية المشروع الذي يعيشه الشمال
السوري المحرر بعد انشقاقه عن النظام السوري، وقدرته على الثبات والوقوف بوجه عشرة
جيوش أجنبية على الأرض السورية، فضلا عن الاعتماد الذاتي على مقدراته وإمكانياته، وقدرته
على تقديم نفسه كنموذج ناعم قادر على الحكم بشكل مختلف ومميز عن الكيانات الأخرى على
الأرض السورية، كيان الأسد، أو قسد أو كيان الخاضع للسيطرة التركية، ويحدثنا زملاؤنا
الصحافيون الأجانب عن تميز نموذج إدلب في الحوكمة مقارنة بالنماذج الثلاثة الأخرى.
على هذه الخلفية يمكن فهم ما يجري في إدلب اليوم، إذ إنه
على الرغم من كل الملاحظات والمؤاخذات على حوكمة هيئة
تحرير الشام، إلاّ أنها تبقى
الأبرز مقارنة بالنماذج الثلاثة الأخرى، وبالإمكان البناء عليها، مع تفهم جوهر الحراك
الشعبي في الشمال السوري المحرر بعد خلية العملاء، وتكشف مدى التعذيب الذي كانت تقيمه
دائرة من دوائر جهاز الأمن العام التابع للهيئة بحق المعتقلين. ولكن الخطوات الإصلاحية
التي اعتمدتها الهيئة وعلى رأسها ضم جهاز الأمن العام إلى وزارة الداخلية، وسحب خمسة
ملفات منه لصالح الوزارة،
لا رابط بين هذه القوى المحركة للحراك، سوى الاتفاق على ما لا يريدونه وهو الجولاني، أما عن المشروع المقبل فهذا غير موجود في حسابها
طمأن البعض على ضبط عمل هذا الجهاز، الذي كان له دور قيادي
وريادي حقيقي في تصفية تنظيم الدولة، والذي لم يكن خطره على إدلب وسكانها، وإنما على
تركيا وربما أبعد من تركيا، يوم تمت تصفيته، مما مكن أهالي إدلب والمشردين فيها العيش
بسلام وأمان، بالإضافة إلى جهوده في ضبط المنطقة أمنيا، ولذا فمطالبة البعض بحلّه لا
يقولها عاقل، إذ إن البديل هو الفوضى والفوضى فقط.
افتقار الحراك إلى الشخصيات الرمزية المعروفة المتناغمة،
بالإضافة إلى غياب المشروع الموحد له، وغياب التحضير لليوم التالي بعد سقوط الهيئة،
كل هذا من المخاوف المرعبة التي يخشاها سكان الشمال السوري المحرر، فالحراك لم يعد
أحد يعرف هويته، فهو مزيج من أقصى الصوفية إلى أقصى السلفية المتطرفة، فضلا عن فصائل
لديها ثارات مع جبهة النصرة قبل أن تتحوّل إلى هيئة تحرير الشام، فوجدت الفرصة سانحة
لها اليوم من أجل تصفية حساباتها على مذبح خمسة ملايين سوري يعيشون في إدلب. وهناك
حزب التحرير الذي يعد أكثر الجهات تنظيما، متمتعا بعلاقات دولية وإمكانيات مالية، بالإضافة
إلى شخصيات منعوته بالتشدد، فضلا عن مجموعة حراس الدين المبايعة لتنظيم القاعدة.
كل هذا يؤكد أن لا رابط بين هذه القوى المحركة للحراك،
سوى الاتفاق على ما لا يريدونه وهو الجولاني،
أما عن المشروع المقبل فهذا غير موجود في حسابها، وهو ما يتهدد مشروع الملايين الخمسة
في الشمال السوري المحرر.
تحوّلت إدلب ونظامها السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي والتعليمي إلى أشبه ما يكون بكيس ملاكمة لكل هذه القوى المتناحرة والمختلفة فيما بينها
لقد تحوّلت إدلب ونظامها السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي
والتعليمي إلى أشبه ما يكون بكيس ملاكمة لكل هذه القوى المتناحرة والمختلفة فيما بينها،
لا سيما بعد رفضها لكل الوساطات التي قدمها ناشطون إغاثيون وقوى أكاديمية للتوفيق بين
الحراك وبين سلطة الأمر الواقع، والسبب يعود ببساطة إلى افتقار جهة واحدة تمثل الحراك،
وعلى هذه الخلفية على القوى المثقفة والنخب العُلمائية والمشيخية أن تقف لحظة تأمل،
لتأخذ في الاعتبار مصير خمسة ملايين مواطن، في حال انهارت سلطة الأمر الواقع وتمكن
هذا الحراك متعدد الرؤوس، حينها سنجد إدلب وقد عمدت كل جهة من الحراك إلى شد الرضيع
الإدلبي إلى جهتها، بحيث كل واحدة فيهم تدعي أنه ابنها..
على القوى النخبوية والعلمائية أن تستقي معلوماتها من رأس
النبع، عبر زيارات لإدلب والالتقاء بالنخب الحقيقية، وبالعلماء والمشايخ وطلبة العلم
الحقيقيين، والاستماع لكل الاتجاهات من الحراك ومن سلطة الأمر الواقع، فضلا عن جهات
مستقلة ذات حكمة، وما أكثرها، للخروج بتصور حقيقي بعيد كل البعد عن التفكير الرغائبي
الذي يهيمن على كثير من الجهات اليوم، المصرّة على استخدام إدلب ككيس ملاكمة، بحجة
هيئة تحرير الشام وزعيمها أحمد حسين الشرع، لكن العملية غدت أشبه ما تكون بلعبة بولياردو،
صحيح أن ضرب الكرة ظاهريا هي كرة الشرع أو الجولاني، لكن في الحقيقة الهدف كرة إدلب
البولياردوية، ومشروعها الذي وصل إلى ما وصل إليه.