قبل 18 يوماً كانت رائحة الورد الجوري، وأزهار القرنفل بألوانه المختلفة المتراصة على طول الأراضي الزراعية تفوح في بلدة
خزاعة، بمدينة خانيونس، جنوبي قطاع غزة، فتجعل من صباح، مروة النجار، صباحاً استثنائياً، يُوقظها بنشاط وفرح، لإكمال يومها في البلدة الريفية الدافئة.
غير أن هذه الرائحة بدأت تذوب، وتتلاشى أمام ركام و دمار ما تّخلفه الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والمتواصلة لليوم الثامن عشر على التوالي.
ومنذ فجر أمس الأربعاء، وحتى هذه اللحظة من يوم الخميس، وحدّها رائحة الموت تنتشر في المكان، كما تقول النجار (45 عاماً).
ولا يمكن لها وهي أم لخمسة أطفال محاصرين داخل بلدة خزاعة، أن ترتب حروفاً تصف بها الهجوم الإسرائيلي على البلدة الواقعة شرقي خانيونس.
يأتي صوتها باكياً مخنوقاً "إنهم يرتكبون
مجزرة، أفظع من مجزرة الشجاعية، شرقي مدينة غزة (التي وقعت الأحد الماضي وأسفرت عن استشهاد أكثر من 70 شخصاً)، لقد حاصروا البلدة، وأخذوا يقصفون المنازل والأراضي بعشوائية، براً وجواً، هناك من العائلات من تمكن من الهرب، ولكن الكثيرين مثلي، ظلوا محاصرين".
تبكي النجار، كلما تذكرت أنها قد تتحول هي وأولادها في أي لحظة إلى "رقم" يزيد من "عدّاد الدم" الذي لا يتوقف في غزة.
ومنذ فجر الأمس، بدأت إسرائيل هجوماً برياً وجوياً على بلدة خزاعة، حيث بدأ الهجوم وفق شهود عيان باستهداف أراضٍ فارغة على طول حدود البلدة من كافة جهاتها.
وتلا ذلك، بحسب الشهود، قصف عشوائي، وإطلاق نار على مداخل البلدة والشوارع المؤدية إليها، ما أدى إلى فصلها عن البلدات المجاورة ومحاصرتها، وبعد ذلك دخلت آليات الجيش الإسرائيلي إليها، وتم اقتحام عدد من منازل المواطنين فيها واتخاذها كنقاط للمراقبة، وانطلاق العمليات العسكرية الإسرائيلية منها بعد حشر السكان في إحدى غرف المنزل.
ووفق أشرف القدرة، الناطق باسم وزارة الصحة الفلسطينية، فإنّ الطواقم الطبية لا تزال عاجزة عن انتشال وإحصاء العدد الكلي للشهداء والجرحى.
وقال القدرة "هناك 30 شهيدا حتى اللحظة، معظمهم من النساء والأطفال"، محذراً من تكرار مشهد "مجزرة" حي الشجاعية.
"إنّها كالشجاعية، بل أشد قسوة".. يصرخ أنور أبو ريدة (45 عاماً) ، وهو يروي عبر هاتفه المحمول ما يجري هناك حيث بلدة خزاعة.
وأمام أصوات القصف المدفعي العشوائي والعنيف، والغارات الجوية يختفي صوت أبو ريدة، "الأقرب إلى النحيب".
"أين العالم الحر؟ أين ضمير الإنسانية؟ الآن قد أموت، أقاربي وجيراني كلهم تحت أنقاض البيوت، اعتقلوا عشرات الشبان، واقتادوهم لجهة مجهولة" .. يواصل أبو ريدة صراخه قبل أن ينقطع الاتصال به.
ووفق شهود عيان فإن الجيش الإسرائيلي اعتقل عشرات الشبان من بلدة خزاعة، القريبة من الحدود الإسرائيلية، واقتادوهم لجهة مجهولة.
ووفق ما يرويه، سعد قديح، (38 عاماً)، أحد الناجين من القصف العنيف في البلدة، فإن قناصة الجيش الإسرائيلي الذي اعتلى أسطح المنازل داخل البلدة "يطلقون النار على كل شيء متحرك".
ويقول قديح الذي يتلقى علاجه في إحدى المستشفيات لوكالة الأناضول "من استطاع الهرب، في الساعات الأولى من القصف، فقد نجا، الوضع الآن يبدو مأساوياً، وهناك مجزرة، بل مذبحة، الطائرات قصفت عشرات المنازل فوق رؤوس ساكنيها، لقد قصفوا أمامي عدداً من النساء والأطفال، وأحالوا أجسادهم إلى أشلاء".
أما إياد النجار، الذي تمكنت طواقم الدفاع المدني من إنقاذه، فيصف ما يجري في خزاعة بـ"المحرقة".
ويقول بصوت مرتجف "الموت في كل شارع، في كل زقاق، ما من بيت إلا وقصف إما بالطائرات، أو بالقذائف، الأمر لا يمكن وصفه".
ويكاد، وفق شهود عيان، أن يتكرر في بلدة خزاعة ما حدث في حي الشجاعية، ويروي الشهود من داخل البلدة أن الجيش الإسرائيلي "لا يكتفي بإطلاق القذائف المدفعية، بل يُطلق مئات القذائف الحارقة والمسمارية".
ويقول أحد المسعفين بعد دخوله البلدة لأمتار قليلة، أجبرتّه النيران الإسرائيلية بعدها على التراجع هو وكافة سيارات الإسعاف : "البلدة تبدو ككتلة من اللهب، نداءات الاستغاثة من الداخل، لا تتوقف، ونحن لا حول لنا ولا قوة، دخلنا لأمتار قليلة فقط، فتعثرنا بدمار هائل، وأراضٍ زراعية محروقة بالكامل، هناك عائلات بأكملها محاصرة، وهناك وفق شهادات أهالي البلدة عشرات الجثث تحت الأنقاض".
سيكون العالم على موعدٍ مع صور صادمة، وقاسية برأي الحقوقي الفلسطيني، والباحث في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، ياسر عبد الغفور.
ويقول عبد الغفور، وهو من سكان شرق مدينة خانيونس إن "الوضع لا يمكن لأي مفردات أن تصفه قسوته، وبشاعته".
ويضيف" 12 ألف مواطن يقطنون بلدة خزاعة، الآن هم مشردون، نازحون، ومنهم من هو تحت الأنقاض، ومنهم من لا يزال يصرخ محاصراً، وما من أحد يستطيع الوصول إلى إنقاذه".
ويتابع "لقد تم قصف عيادة صحيّة، وبداخلها عشرات المصابين الذين يتلقون علاجهم، ما تسبب بمقتل وإصابة العديد منهم، والقذائف تنهال على البيوت، فتدمرها على ساكنيها، هناك شهادات مرّوعة يرويها سكان البلدّة، وكأننا أمام سلسلة من المجازر البشعة على غرار ما حدث قبل أيام في حي الشجاعية".
ووفق الشهادات، فإن الحديث وفق عبد الغفور يدور في الوقت الحالي عن أكثر من 30 شهيدا، معرباً عن خشيّته من وقوع المزيد من الشهداء والجرحى تحت ركام المنازل، وفي الشوارع.