المتأمل للمشهد السياسي علي الساحة
المصرية منذ سنوات يلاحظ بوضوح وجلاء هذا الكم الكبير من فقدان الموضوعية والمصداقية، وسياسة الكيل بمكيالين وأحيانا بعدة مكاييل، ولقد تجلي هذا الأمر بأوضح صوره بعد الانقلاب حيث تساقطت الأقنعة، وتهاوت النجوم الفضائية التي صنعها الإعلام علي عينه طوال السنوات والعقود الماضية، وانقشع غبار الانقلاب عن سقوط مدو ومزر للنخبة التي تصدرت الساحة، ولم تتوقف عن الحديث عن الديمقراطية والحريات وحقوق الانسان فلما جاءت ساعة الاختبار الحقيقي وقفت في صف الانقلاب والديكتاتورية، وانتهاك كل الحقوق والحريات، وتنكرت لكل ماصدعت به رؤؤسنا من مبادي وقيم، ولم يثبت إلا أقل القليل الذين قبضوا علي الجمر، وتمسكوا بمبادئهم، ولم يدفعهم الاختلاف أوالخصومة السياسية أو الفكرية مع فصيل آخر الي التغاضي عما تؤمن به من قيم ومبادئ.
وأتوقف هنا عند قضية وصم
الإخوان بالإرهاب، بعد أن تحولت الجماعة في ظل الانقلاب من الجماعة المحظورة الي الجماعة
الإرهابية، وبعد أن أخذ الانقلاب يسوق نفسه علي أنه حامي حمي المنطقة والعالم كله ضد الإرهاب.
والحقيقة أنه بعد بحث عن هذا الإرهاب المنسوب الى الإخوان لن تجد في النهاية إلا الحادثتين اللتين يتم الحديث عنهما منذ عهد
السادات ومبارك وهما حادثتا مقتل الخازندار والنقراشي، واللتان يتم استدعاؤهما على عجل والعزف عليهما، وتردديهما كالاسطوانة المشروخة منذ عقود في مواسم الهجوم علي الإخوان من جانب أبواق وكتبة النظام ومعارضي الإخوان، ومن يقرأ مبررات قرار الانقلاب فى 25 /12 /2013 باعتبار الإخوان جماعة إرهابية لن يجد فعليا - بعيدا عما احتوي عليه القرار من أخطاء وأكاذيب - غير حادثتى الخازندار والنقراشى واللتين تعتبران في حد ذاتهما دليل على نبذ الإخوان للعنف بدليل أنهما لم يجدا مايستشهدان به على قيام الإخوان بأعمال عنف إلا حادثتين وقعتا فى عام 1948، وهما كانا محل إدانة من مرشد الجماعة الشيخ حسن البنا.
والحقيقة ليس الهدف هنا مناقشة وتقييم دور النظام الخاص المعروف إعلاميا بالتنظيم السري، أو الحديث عن ملابسات هاتين الحادثتين، وهل كانتا بعلم قيادة الجماعة أم لا؟ ولكن أتوقف هنا عند المعيار الذي يستخدمه معارضو الإخوان وأبواق الانقلاب فى رمي الإخوان بالإرهاب استنادا الي حادثتين وقعتا منذ أكثر من ستين عاما في الوقت الذي يغضون فيه الطرف عن بعض الكيانات والشخصيات التي تورطت في مثل هذه الأعمال في تلك الفترة في إطار سياسة الكيل بمكيالين، وانتقاء بعض أحداث التاريخ وتوظيفها في خدمة الصراعات السياسية.. فهل كانت فكرة الاغتيالات السياسية للقوي المتعاونة مع الإنجليز قاصرة علي الإخوان فقط؟ وهل الإخوان فقط هم الذين تورطوا في هذه الأعمال؟
الواقع أن فكرة الاغتيالات السياسية للمتعاونين مع الإنجليز كانت سائدة في تلك الفترة من جانب بعض الكيانات والشخصيات التي يضفي عليها البعض أوصاف الزعامة والقداسة، وأعني هنا تحديدا
عبد الناصر والسادات اللذين تورطا في أعمال لا يمكن أن توصم إلا بالإرهابية بنفس المعيار الذي يطبق علي الاخوان بل إن بعض الأعمال الإرهابية التي تنسب لعبدالناصر أشد فداحة لأنها صدرت من رجل مسؤول بالدولة، وليس من جانب شخص أو تنظيم.
فيذكر عبد الناصر في كتابه "فلسفة الثورة":.
"وأعترف - ولعل النائب العام لايؤاخذني بهذا الاعتراف - أن الاغتيالات السياسية توهجت في خيالي في تلك الفترة علي أنها العمل الإيجابى الذي لامفر من الإقدام عليه إذا كان يجب أن ننقذ مستقبل وطننا. وفكرت في اغتيال كثيرين وجدت أنهم العقبات التي تقف بين وطننا وبين مستقبله...."
ولم يتوقف الأمر عند مجرد التفكير، بل اتجه عبدالناصر الي التنفيذ بالفعل وقام بمحاولة فاشلة لاغتيال اللواء حسين سري عامر قائد سلاح الحدود.
وقد تحدث عبد الناصر عن الصراع النفسي داخله عقب المحاولة الفاشلة حول وسيلة الاغتيالات السياسية وانتهائه الي أنه ليس الطريق الإيجابي لتحقيق الأهداف الوطنية لدرجة أنه تمنى ألا يموت الرجل "وهرعت في لهفة إلى إحدى صحف الصباح وأسعدني أن الرجل الذي دبرت اغتياله قد كتبت له النجاة"
فهل كان عبد الناصر صادقا في مشاعره وأقواله تلك؟ الواقع أن عبد الناصر لم يكن صادقا في موقفه، وهذا ليس رجما بالغيب، ولا تفتيشا في النوايا، فالرجل الذي أبدى الندم علي محاولة الاغتيال، وتمنى نجاة حسين سري عامر، هو نفس الرجل الذي سار في نفس التفكير والتدبير بعد ذلك وتحديدا في أزمة مارس 1954.
فبعد اضطرار عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة الي إعادة محمد نجيب تحت ضغط الجماهير، واشتداد الصراع بين محمد نجيب ومعه خالد محي الدين المطالبين بالديمقراطية وباقي أعضاء مجلس قيادة الثورة اقترح عبد الناصر في 4 مارس 1954، كما يذكر عبد اللطيف البغدادى عضو مجلس قيادة الثورة فى مذكراته " انسحاب مجلس الثورة على أن يعمل كل فرد من أعضائه علي تكوين(team) فريق له مكون من عشرة أفراد، مهمته التخلص من العناصر الرجعية والأفراد الذين يناهضون الثورة والذين يقفون في طريقها كسياسي الأحزاب القديمة والإخوان المسلمين والشيوعيين، ولكن لم يتجاوب أحد من أعضاء المجلس في هذا الاتجاه".
وفى يوم 19 مارس وقعت عدة انفجارات فى القاهرة فى مبنى محطة السكة الحديد والجامعة ومحل جروبي، ويذكر البغدادى فى مذكراته أنه توجه هو وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم أعضاء مجلس قيادة الثورة لزيارة عبد الناصر فى بيته، نظرا لمرضه يوم 21 مارس، " فأبلغنا أن الانفجارات التي كانت قد حدثت في اليوم السابق وأشار إليها في اجتماع المؤتمر، إنما هي من تدبيره؛ لأنه كان يرغب في إثارة البلبلة في نفوس الناس، ويجعلها تشعر بعدم الأمن والطمأنينة على نفوسهم وحتى يتذكروا الماضي أيام نسف السينمات... إلخ، وليشعروا بأنهم في حاجة إلى من يحميهم على حد قوله".
فى صباح يوم 27 مارس اندلعت المظاهرات التى تم تدبيرها من جانب عمال النقل وهيئة التحرير وأفراد الحرس الوطنى والبوليس الحربى الذين ارتدوا الملابس المدنية، والتى أخذت تهتف بسقوط الحرية والديمقراطية.
وقد أتت المظاهرات أكلها وتقرر إرجاء تنفيذ القرارات الديمقراطية التي اتخذها مجلس قيادة الثورة من باب المناورة حتى نهاية الفترة الانتقالية فى 10 يناير 1956، ونزلت قوات الجيش الى الشوارع وتوجه عبد الناصر إلى زيارة اتحاد نقابات النقل المشترك الذى كان لرئيسها لصاوي أحمد الصاوي الدور الأكبر فى هذه المظاهرات.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد تم توجيه المتظاهرين الى مجلس الدولة بعد نشر أخبار عن انعقاد الجمعية العمومية لمجلس الدولة لاتخاذ موقف ضد قرارات مجلس قيادة الثورة حيث تم اقتحام المجلس والاعتداء بالضرب على رئيسه السنهورى باشا.
لقد ثبت أن إضراب عمال النقل كانت من تدبير عبد الناصر، وقد رتب الأمر إبراهيم الطحاوى وأحمد طعيمة من زعماء هيئة التحرير بالاتفاق مع الصاوى أحمد الصاوى سكرتير اتحاد عمال النقل نظير أربعة آلاف جنيه، ويذكر خالد محى الدين عضو مجلس قيادة الثورة فى مذكراته الآن أتكلم: "ولك عزيزى القارئ أن تتصور إضرابا لعمال النقل تسانده الدولة وتحرض عليه وتنظمه وتموله، وأتوقف تحديدا أمام كلمة تموله هذه، فلقد سرت أقاويل كثيرة حول هذا الموضوع، لكنني سأورد هنا ما سمعته من عبد الناصر بنفسي، فعند عودتي من المنفى التقيت عبدالناصر، وبدأ يحكي لي ماخفى عني من أحداث أيام مارس الأخيرة وقال بصراحة نادر: "لما لقيت المسألة مش نافعة قررت أتحرك وقد كلفنى الأمر أربعة آلاف جنيه".
أما أنور السادات فيتحدث بالتفصيل في مذكراته "البحث عن الذات" عن دوره في محاولة اغتيال زعيم الوفد النحاس باشا، واغتيال أمين عثمان، والذي كان يري أن من "المهم أن نتخلص ممن كانوا يساندون الإنجليز في ذلك الوق، وكان على رأس هؤلاء في نظرنا مصطفي النحاس باشا رئيس حزب الوفد الذي سقط في نظرنا منذ أن فرضه الإنجليز بقوة السلاح في 4 فبراير 42".
وبالرغم من فشل محاولة اغتيال النحاس التي جرت في سبتمبر 1945 - أي قبل ثلاثة سنوات تقريبا من حادثتي الخازندار والنقراشي - فقد قرر السادات وجمعيته السرية التي شكلها اغتيال أمين عثمان الذي كان وزيرا للمالية في وزارة النحاس، والذي كان قد صرح أن العلاقة بين مصر وبريطانيا زواج كاثوليكي، وقد تم تنفيذ العملية في يناير 1946 حيث أطلق عليه حسين توفيق النار فأرداه قتيلا.
وعلي عكس عبد الناصر، لا يبدي السادات أي قدر من الشعور بالذنب، ولو ظاهريا، كما فعل عبد الناصر، بل علي العكس، نجد أن الرجل يشعر بالتيه والفخر لما قام به، ويفرد الصفحات الطوال في مذكراته للحديث بكل أريحية عن الدور الذي قام به بعد القبض عليه وبعد اعترافات حسين توفيق التفصيلية في تقويض أدلة الجريمة.
ولعل السؤال للإخوة التي تجرح مشاعرهم الرقيقة، وتنغص عليهم حياتهم حادثتى الخازندار والنقراشى – وهما محل إدانة في كل الأحوال – اللتين وقعتا منذ أكثر من ستين عاما ...وهم الذين ماتت مشاعرهم إزاء المذابح التي ارتكبها الانقلاب بالأمس القريب... لماذا تجمدت مشاعركم الرقيقة عما قام به عبد الناصر والسادات؟ وهل ما قاما به أعمال وطنية أم إرهابية ؟!!!!