هناك خطابان حول الإرهاب؛ خطاب أهوج مخبول، وخطاب آخر موضوعي مسؤول. الخطاب الأول يستغل مقولة الإرهاب ويوظفها توظيفا مُسيسا ويحاول تعميم ذلك على كل جوانب حياة الناس ليشعرهم بالخطر الماحق والخوف والترويع القادم (المحتمل) حتى يمكن تجييش الجيوش وتعبئة المشاعر والوجدان في حرب لا يعرف لها عدو محدد أو عنوان أو ميدان. أما الخطاب الثاني بالتزامه بالموضوعية واستناده إلى المسؤولية، إنما يقدم خطابا رصينا يحاول من خلاله في البحث عن هذه الظاهرة، فإن أحدا لا يستطيع أن ينكر وجودها. أما عن البحث في الأسباب والعوامل فإن من الواجب علينا أن لا نقوم باختزالها ضمن رؤية مسيسة في عملية صناعة صورة يكون من مصلحة أصحابها تشكيل غطاء لمصالحها وتبرير لتحالفها وشن حرب تستنزف الموارد، فتمرر مصالح لهذه القوى المتحكمة وتختطف كل الثمار والمغانم لمصلحتها. الخطاب الثاني كما أكدنا يكشف هذه الخطة ويحاول البحث في دائرة العوامل الحقيقية التي تؤدي إلى وجود الظاهرة واستمرارها وأسباب استغلالها وركوبها.
في نمط الخطاب الملتزم المسؤول وفي تصريحات نادرة يقوم رئيس وزراء فرنسا الأسبق "دومينيك دو فيلبان" معلقا على حدث "صحيفة
شارلي إيبدو" ليخرج من دائرة الحدث الجزئي إلى مغازيه حول قضية الإرهاب والاتهام به، باحثا بعمق عن العوامل الأساسية الكامنة والدافعة لتلك الظاهرة مصححا ما استطاع إلى ذلك سبيلا تلك الرؤية الأخرى التي يحملها ذلك الخطاب المحرض المخبول ليقدم خطابا بديلا، خطابا كما وصفناه ملتزما مسؤولا، ليس من الهدف إذا تقصى تصريحات رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق بنصها ولكن المهم في هذا السياق روح تلك التصريحات، والتي اتهم فيها الغرب بصنع ما وصفه بالإرهاب الإسلامي، معتبرا أن التدخل العسكري في أفغانستان والعراق وليبيا ومالي ساهم في "تضاعف أعداد الإرهابيين الذين كانوا بضعة آلاف وأصبحوا يعدون نحو ثلاثين ألف مقاتل"، وطالب الغرب بالوقوف أمام الحقيقة المؤلمة التي شاركوا بقوة في صنعها. وفي مقال نشر له قبل يومين بصحيفة لوموند الفرنسية، قال دو فيلبان إن فرنسا تُجر إلى حرب خارج السيطرة، مؤكدا ضرورة المحافظة على القيم الديمقراطية للدولة الفرنسية وتعزيز كل السبل لبناء "إسلام فرنسي" معتدل بعيد عن التطرف.
ها هو الاختلاف حول ظاهرة الإرهاب يطل علينا من جديد من أناس وثقافات وحضارات تكيل بألف مكيال، تتناسى في الذاكرة الإبادات الجماعية والذين قتلوا في أحداث وحروب عالمية، يتناسون كل ذلك ويبرئون أنفسهم ويضعون رموزهم في صدارة المشهد الذي يعلم الدنيا قيم السلام والحرية وكل القيم المتعلقة بالحقوق الإنسانية ويخفون ويتغافلون ما استطاعوا كل ما يتعلق بجرائمهم الماضية والقائمة والقادمة ليعبروا بذلك عن تلاعب بالمعايير التي يمكن أن نفهم الظاهرة الإرهابية من خلالها ونحدد الآليات المناسبة للتعامل معها، والمآلات التي من المتوقع أن تنتج عنها.
وفي عنوان دال لهذه الازدواجية سنجد أن ناعوم تشومسكي قد ألف كتابه الإرهاب الدولي ليعبر عن تلك الحقيقة حينما يحكي "قصة الإسكندر الأكبر" الذي ملك الدنيا آنذاك والقرصان الصغير الذي يختطف سفينة هنا أو هناك، راصدا الحديث بين القرصان والإمبراطور عندما خاطبه وبكل عمق سيدي الإمبراطور أنا أخطف سفينة فتسمونني لصا أو قرصانا، وأنت تختطف العالم جميعه وتروعه فيلقبونك بالإمبراطور. إن المفارقة الحقيقية في هذه القصة تتمثل في صناعة الصورة التي تجعل من الإرهاب الكبير عملا مشروعا بينما تجعل من مشاهد إرهاب تضعه تحت مجهر الاهتمام فتضخمه وتجعله كامل مساحات الظاهرة الإرهابية لتحتل كامل الاهتمام وكل ساحات الميدان. وعلى الرغم من أننا نرفض الإرهاب الكبير قبل الصغير فإننا نؤكد أن موازين الأشياء تفترض بنا أن نتحرك صوب متن الظاهرة لا هوامشها ومواجهة صُلبها لا أعراضها.
ثم لنعود بالذاكرة للمشهد الذي رأيناه لحضارة غربية ارتكبت كل ما ارتكبت من مآس في ظل ظاهرة استعمارية أتت على الأخضر واليابس وصادرت الموارد والثروات ونهبتها بلا أدنى وازع أو ضمير ولا زالت تستمر في تبرير إرهاب الدنيا واصطناع بعض بؤر الإرهاب الصغير، فيكون ذلك من صنعتها وتحت أعينها ونرى في هذا المشهد (التظاهرة فى باريس) إرهابيين في أوطانهم من حكام ومسؤولي العرب والعالم بعضهم يمارس "إرهاب الدولة" باستبدادهم، ينتهك حقوق الإنسان ليل نهار ولا يقيم وزنا لحرمة أي إنسان، وآخر يضيع الحقوق ويتغافل عنها ويتهاون فيها، في أول صف يجمع بين الجلاد والمفترض فيه أن يكون صاحب القضية. بين عباس ونتنياهو تضيع الحقوق الفلسطينية ويمارس الكيان الصهيوني إرهابا واسعا في عدواناته المتكررة والمتعمدة. فهل يمكن بالفعل أن نتحدث عن مقاومة إرهاب وفي صدر من يتحدثون بذلك نتنياهو مجرم الكيان الصهيوني، حتى دفع البعض عن أن يتحدث عن مفارقة "إرهابيين ضد الإرهاب"؟ وفي المظاهرة رُفعت ذات الصور المسيئة للإسلام والمسلمين ولا يحرك أحدا ساكنا، وتحت دعاوى قيم الحرية وحرية التعبير، وفي ذات الصحيفة هناك من طُورد متهما بمعارضة السامية، هنا نجد المفكر العميق "عزمي بشارة" حينما يؤكد أن القضية ليست في حرية التعبير ولكن القضية الكبرى هي في "القتل". بينما نرى ذلك الخطاب المحرض المخبول يسكب زيتا على النار بكل استخفاف من "راكبي الموجة"، سواء تعلق هذا ببعض هؤلاء الذين يتَعيّشون مكرسين سلطانهم واستبدادهم على قاعدة من "مقولة الإرهاب المحتمل"، أو من بعض هؤلاء الذين يخوضون صراعا سياسيا آثروا فيه ألا يجعلوا الصناديق ساحة له، بل بالاستناد لسلطة عسكرية فاشية باطشة وقضاء جائر وشرطة بوليسية قامعة لتنهي ذلك الصراع بالاستئصال لهم في ساحات القمع والاستبداد. ها هو رجل من مدعي الأكاديميا يتحدث مروجا عن "نبوءة السيسي" ولسان حاله يقول للغرب "مش قولنالكم"، هنا يأتي الخطاب الملتزم المسؤول ليقدم إجابة أخرى في فحوى ما قاله "دو فيلبان" إذا كان هناك رئيس عربي يؤكد أن الإرهاب بسبب نصوص القرآن المقدسة فهو يؤكد أن الإرهاب بسبب سياسات الغرب الخاطئة تجاه الآخرين، ولكن هؤلاء أصحاب التفويض والإرهاب المحتمل والمفتعل واصطناع الظاهرة في إطار تسييسها يعبر عن مدى خطورة هذا الخطاب المحرض المخبول، فالأمر لا يتعلق بنبوءة للسيسي ووصفها بذلك، ولكنها لغة ومفردات التحريض والتفويض بافتعال الظواهر واصطناعها لا مواجهة الإشكالات الحقيقية وحلها.
إن العالم كله مدعو ليس لتغذية اصطناع ظاهرة أو أوهام لخطاب مجنون ماجن محرض مخبول، ولكنه في حاجة إلى خطاب يتحرك لمواجهة صلب الظاهرة والعوامل الفاعلة في تكوينها واستمرارها بخطاب عالمي وإنساني ملتزم موضوعي مسؤول، هنا فقط يمكن أن نحدد المشكلة بحقيقتها ويمكن أن نقدم الحلول في حقيقتها.