قالت الأختان وهما الصفا ويمنى، إن أختهم المروة، المقيمة في دبي ناطحات السحاب الرز، ستزور البلد بعد
انقطاع طالت مدته خمس سنوات. سماها الوالد المرحوم على اسم شعيرة الحج مثل أختها الصفا، وكان من حظه وحسن المقادير أنه مات ولم يرَ كل هذه المذلة.
وتصحيف مروة هو ميرفت، ميرفت لفظ تركي لاسم عربي، لكن اسم الأخت بات ميمي. وكانت الأسرة الشامية قد صارت في أسوأ حال، وهي مؤلفة من خمسة من الذكور الأبناء، وثلاث بنات، ولهم أولاد وبنات، وقد دمرت بيوت الأختين، واثنين من الأخوة الخمس في الريف الدمشقي، فلجأ المنكوبون إلى بيت الأخ الكبير أبي المعتز.
أهل الشام يحبون اسم معتز كثيرا، ولعله الأول فيها انتشارا وشيوعا. وكان أبو معتز خبيرا اقتصاديا في وزارة النقل، ورث من أبيه حب الشعر العربي، وكان يردد كل يوم بيتا يكرره النهار كله، ينتقي أبياتا فيها أمجاد تليدة: وَإنَ ذكرَ المجدُ الفيتهُ، تَأزّرَ بالمَجدِ ثمّ ارْتَدَى. وكان آخر بيت ردده في أيام السكون الذي يسبق العاصفة، هو بيت مالك بن الريب: فيا ليتَ شعري هل بكتْ أمُّ مالكٍ، كما كنتُ لو عالَوا نَعِيَّكِ باكِيا. وسجن أبو المعتز، وخرج بعد شهر تماما، كانت شدة أذن أمنية في المظاهرات الأولى، وشدة الأذن السورية، أقرب إلى الخنق فهي شدة الروح. اعتقلوه من أمام مشكاة الفرن، أخذوا جميع منتظري الرغيف، كأن الرغيف جريمة تضعف الشعور القومي، والجوع تهمة توهن روح الأمة. اعتقلوا شائب الشعر في وقار الخامسة والخمسين، وهو خبير في الوزارة، وفّر عليها ملايين الليرات، وشدة الأذن معناها: لا شبع من الخوف، بل جوع دائم. خرج من المعتقل شخصا آخر، على عكس الكونت دي مونت كريستو. لم يضحك بعد الحرية مرة واحدة، ولا يعرف لمَ لم يضحك، ولم لا يتكلم؟ فالشكوى تريح النفس، وتَجلو عَوارِضَ ذي ظَلمٍ، والبكاء أحسن من الكلام وأجلى للهم، لكنه صامت. فيا ليتَ شعري هل بكتْ أمُّ مالكٍ، كما كنتُ لو عالَوا نَعِيَّكِ باكِيا.
استبشرت العائلة بقدوم الأخت الصغرى المروة، واستبشرت العوائل النازحة التي تقيم كلها في شقة تكاد تغرق في طين الزحام، ثلاثة أمتار للنفر، أي أقل من زنازين مساجين أوربا، فلكل سجين أوربي غرفة، الانفرادية رحمة. وكلهم نازحون، مكلومون، ينزفون أرواحهم في كل نصف خطوة، فلا خطوة كاملة في الشقة الضيقة، يمشون مثل العصافير، قيدا قيدا.
أزواج مع زوجاتهم، وزوجات مع أزواجهم، وعمتان واحدة مصابة بالزهايمر، والثانية مصابة باكتئاب حاد لخسارة ابنها شهيدا في قبر مجهول، ولا تسيطران على الإرادة والتحكم بأجهزة الجسم، وأهمها جهاز الإطراح، فكيف يضحك أبو معتز، وقد فقد عمله، وأصيب بأمراض جلدية يتعالج منها بالطب الشعبي والطب البديل لغلاء أسعار الأدوية، فالقوانين تقول: إن من يغيب عن عمله نصف شهر من غير إذن يفقده. وتأول بعض المتفائلين أن الغرض من الاعتقال كان فصل أكبر عدد من الموظفين الشاميين، الذين اجترأوا وأشعلوا النار، أي قطع الأرزاق، واسم الأجور في الدولة الموقرة هو "منحة الرئيس"، فالرئيس هو سيد الوطن، والوطن مزرعته، وبالضرورة المواطنون عبيده، والغالب أن النظام أصيب بزهايمر العنف، ولا يسيطر على جهاز الاطراح الذي كان معطلا وانفجر دما على الشعب.
وجاءت مروة أو ميرفت شكلا ثانيا، مخالبها طويلة وشفتها متورمة. وعلم الجميع أن اسمها ميمي، فهي تتخاطب على الفيسبوك مع صاحباتها بهذا الاسم، وابنها وابنتها يناديانها أيضا بهذا الدلع، فهي تجده أكثر ظرفا وجدة من النداء التقليدي، وكانت قد حملّت صورة أهل داريا المهجّرين وكتبت تحتها: وداعا للزبالة... ويبدو أنها تتعاطى السياسة أحيانا! وكان الجميع يطمعون في قدومها، فهي غنية وزوجها يعمل مهندسا عند أمير، ويقود مشاريع عملاقة، وميمي تتحدث متباهية عن أموال كثيرة وزيارات يقوم بها زوجها إلى بلدان كثيرة، وتلمح إلى أنه يحب الفليبين، وتذكر ميمي المساج، وتضحك من التلميح الجنسي الضامر في أعكان الفليبين، لأهلها الجائعين المذعورين. وتقول عاذرة زوجها إن عمله يبيح له المحظورات، فهو يغيب كثيرا في الأسفار وكسّيب ويؤلمه ظهره، ويحتاج إلى "مساجات" وتدليك. وأبو معتز لا يضحك، ولا يتكلم ولا يبكي، وابنته عزة، تكاد تقول لما استيأست من طول رحلته في الصمت "سِفارُكَ هذا تاركي لا أبا ليا"، وهو يحترق مثل إخوته وأبناء إخوته من غير نار مثل خشب الفحم في طاحونة صنع الفحم. يعود من عمله بعد الغروب فتخلى له الغرفة وينام، لا أحد يعرف ماذا يجول في صدره. استبشر بعثوره على عمل بديل في سوق الهال الجديد، بعد السجن، رحمةً من ربك. عمل عاملا وهو في الخامسة والخمسين، كصبي، يحمل سحاحير الخضار، وأكياس الفواكه، ويعود مع ظهور القمر بخضرة كثيرة، أكثرها معطوب، لكنها تؤكل، فلا شيء يهدر أبدا، حتى قشور الخضار، بل إن العائلة لم تعد تقشر الباذنجان والبطاطا والخيار على رقتها، وصارت قشور البطيخ فاكهة تؤكل، فالعائلة كبيرة. وأحيانا يتصل به ميسورون وتجار للمشورة الاقتصادية، يسألونه عن أفضل الطرق لحماية المال في هذه الحرب، فيقترح عليهم، ويكل الأمر إلى الله، وينال أحيانا على الاستشارة بعض المكافآت الرمزية. وسكان الشقة في الطابق الثالث يصطدمون ببعضهم، ويتخاصمون، وأرواحهم في مناخيرهم. يوميا تشهد الشقة عشرات الخصومات، ولا تخلو من مريض، أمس علُق المصل للطفل أيمن، أصيب بالتيفوئيد، والذهاب إلى المشفى يحتاج إلى معجزة مالية وسياسية، والشبان الذين كانوا طلابا في الاعدادية والثانوية لم يخرجوا من البيت منذ خمس سنوات، فهم مقيمون فيه إقامة جبرية، شبان في ميعة الصبا، والشاب يحب الجري والركض والمرح... أسماء بلداتهم المدمرة تهمة مؤكدة، كأنهم هم الذين دمروها، والنظام يحشو سجونه بالشباب لمبادلة عظمى يوما ما، أو للهواية والتسلية. لن يصدق أحد أن نظاما دمر بيوتا ومدنا، وقتل أهلا، ستقول له الضحية: بالروح والدم نفديك يا قاتل، والأَولى اعتقال أهل الضحية، وهذا ما يفعله النظام: تغّذ بالضحية قبل أن تفكر هي بالعشاء. قتل كثيرون على اسم العائلة، أو على اسم مكان الإقامة، وغاب كثيرون في بطون السجون المجهولة والسراديب، وأحيانا في دوائر حكومية أمنية.
جاءت الأخت الصغرى، والأخت الصغرى هي الأرق في الحكايات، وهي الأوفى عادة، فهي تفوز بكثير من الحنان، أكثر من أخوتها لأنها آخر العنقود، وهكذا كانت في قصة الملك لير، لكن الأخوات أنكرن المروة، فقد تغيرت شكلا وروحا، صار حالها حال عماد حمدي: "أختي فوق الشجرة" ، ليست هذه مروة التي يعرفونها وعاشوا معها، كانت قد أجرت عملية جراحية في شفتها السفلى فلم تعد تعرف، قالت إن العملية التجميلية غالية في أوربا، وقد جاءت هذه المرة لتعمل عملية جراحية في أنفها، وأنفها جميل لا عيب فيه، قالت إن الموضة هذه الأيام هي المنخر العالي المقوس الخنابة!
حجزت موعدا عند جراح تجميل معروف، وذهبت وحدها من غير محرم، خدرها الطبيب، وعمل لها العملية التي استغرقت ساعتين، تصورتْ الأخوات أختهن مخدرة وممددة على سرير الطبيب، من غير محرم، قالت: لقد أقسم قسم أبقراط! جسد المرأة هنا حرم آمن، مثل السياسة، والذكر ينسى أبقراط ورب أبقراط عند هبوب أعاصير الشهوة في الخلوة التجميلية، خاصة إذا كانت جميلة مثل المروة، فهي من شعائر الله، يقولون في الأمثال طباخ السم يذوقه، فكيف إذا كانت عسلا مثل ميمي.
عادت بعد يومين، فبدت مضحكة بشكلها الجديد، هي نفسها استغرقت وقتا حتى تأتلف أو تطبّع نفسها مع وجهها الجديد، وخرجت سعيدة، والعائلة جائعة لم تذق اللحم منذ سنين، وتتنظر منها معونات مالية. أبو معتز كان يحضر بعض الدهون والمخلفات الحيوانية من عند جيرانه القصابين، فلا شيء يهدر أبدا، حتى أقدام الدجاج وعظام الصدر والرقاب صارت تؤكل وتتحول إلى وجبات دسمة يتصارع عليها الناس، فأجر الموظف نزل إلى عُشر أجره السابق، وأجره القديم أصلا لم يكن أجرا يقارن بالأجور في البلاد المحترمة.
أقامت ميمي في شقتها، فزوجها كان قد اشترى شقة كبيرة وأغلقها لحين العودة، والناس فوق بعضها في الشام. ارتفع عدد السكان من ثلاثة ملايين إلى ستة، وربما أكثر. قال إنه يخشى أن يعطل المستأجرون دهانها، ويعبثوا بزينتها، والبلد تقصف والحواجز تخطف وتعتقل، ويدخر لمعتقله الأبيض يومه الأسود، ولا أحد يعلم من سيحيا ومن سيموت، فالبلد كلها على شفير تغيير كبير.
ولم يبادر أحد من الأخوة أو الأخوات لطلب النجدة، فكيف يطلبون وهي ترى حالهم، لم تفكر الصغرى الرقيقة في الحكايات، وفي قصة الملك لير، في أن تؤجر أحد أخويها أو أختيها الشقة الكبيرة. هي ترى أن العائلة فوق بعضها، وأنهم يأكلون الخبز والماء، وينامون في الممرات والسقيفة، وهم يقفون بالدور على المرحاض، ثلاثة وعشرون فردا في شقة صغيرة، وليست القوارب البلم هي وحدها التي تغرق، فالبلاد تغرق أيضا، والمياه مقطوعة غالبا، والمصلون فيهم يصلون بالتيمم، الماء للشرب فقط.
حوّل المعتز ابن أبي المعتز السقيفة إلى سكن ووطن. إنه ابن صاحب الشقة، ويحق له ما لا يحق لغيره، والسقيفة من حقه، لا يجاوز ارتفاع سقفها مترا، والمرء لا يحسن الاعتدال فيها، المعتز يتسلق سلما خشبيا لصق بالحائط توفيرا للمكان، وينام فيها ويدرس مضطجعا، إلى جوار خزان الماء، لم يرفع قامته منذ خمس سنوات، عمل لنفسه فحوصا، ودرس الثانوية كلها فيها. تحضّر له أمه المناهج، فيدرس ويمتحن نفسه، وينجح، على أمل أن تتغير الأحوال، ويقدم البكالوريا حرا، فلا يجرؤ أحد على الخروج، ولا كهرباء، فالدراسة مسلية أيضا، وهو يطمح للنزوح إلى ديار الحجة ميركل، لو بلغ بحر ايجه لعبره سباحة، مثل السمكة أو الفقمة أو الكلب، وهو لا يعرف السباحة. من حسن حظ العوائل أن العلاقة مع الجار أبو وليد حسنة، وهو جارهم المقابل للشقة، أبو وليد عجوز نزح أبناؤه كلهم إلى أوربا: ألمانيا والسويد وأمريكا، وبقي وحده في الشقة الواسعة، طلب منه معتز النجدة، فحمام الدار ومرحاضه لا يكفيان، فهو مشغول على مدار الساعة، فرحب، وترك لهم الباب مفتوحا، بل إنه لم يمانع في سكن أختين من الأخوات عنده، فهو وزوجته عجوزان ويحتاجان إلى الأنس، والكهرباء مقطوعة دائما..
جاءت الأخت بأنف جديد، والعرب عندما تتضايق تسبُّ الخشم: يقول المرء لخصمه سأكسر خشمك، والأنفة العربية جاءت من الأنف. دعاها أبو معتز في اليوم الثالث لقدومها إلى وليمة ترحيبا بعودتها، "فالعزيمة" من التقاليد. استدان مالا، وساعده الصهران اللذان لا يزالان يعملان، فالكل سيأكل. صنعت الأخوات والكنائن وليمة كريمة، وامتلأ البيت برائحه طعام لذيذ لم يشهده منذ سنوات، أكلت العوائل الجائعة كلها أكل الكفار في سبعة أمعاء، ولم تأكل ميمو. قالت إنها أكلت كثيرا في الصباح، كانت مدعوة إلى إفطار دسم في مطعم القنديل، وكانت مخالبها طويلة، ويصعب الأكل باليد، فهي تعيقها عن الحركة، فتسارع الأختان وبنات الأختين إلى معاونتها في رعاية الولدين، فهي تخشى على مخالبها الملونة والمبرقة من الكسر، فيصطحبون ابنتها الصغيرة وابنها المشاغب الفاجر إلى المرحاض، والمرحاض مشغول دائما، أما جهاز الاطراح في الدولة فمصاب بإسهال القصف اليابس والغازي! في دبي ناطحات السحاب لديها خادمتان من الفليبين، قالت إنها اختارتهما بشعتين، فزوجها نفسه خضراء، ويموت على رياضة المساج، ولا تسلم منه أنثى... فحل. تذوقت بعض الأطايب الشامية ملاطفة، وأبو معتز لا يضحك، ولم يأكل إلا لقيمات، فهو لم يضحك منذ خمس سنوات، والعائلة تظن أنه أيضا يأمل في مساعدة من الأخت، فهي غنية، والكل يأمل، فهم بأشد الحاجة إلى قرش مقروش، إنها ابنته تقريبا، رباها على يديه، كان يصطحبها إلى نزهات الحدائق عندما كانت طفلة في حضنه، ويلهو معها، وأبرزت العائلة صورا لها، هكذا تفعل الأخوات عادة، فهن يحببن الذكريات ونسيب الصور. وربما تعمّدن ذلك حتى يثرن الحنين إلى الأيام الخوالي، ويثرن نخوتها، وكن يلمحن لها في كل صورة إلى فقرهم وحاجتهم، وكانت ميمي تبتسم، وهي تنظر إلى الصور القديمة بأظافرها الطويلة، وتقول إنها علامة الأناقة. استهجنت حال البلد، وقالت إن الشام عادت إلى العصر الحجري، وأبلغت أخواتها أن برنامجها مكتظ بالمواعيد في أسبوع الزيارة، فهي مدعوة كل يوم من أيام الأسبوع إلى صالة من صاحباتها الشاميات اللاتي عدن للزيارة معها في "كروب"، أي فريق سياحي، وسمعت العائلة أنها عملت حفلات بمئات الآلاف من الليرات، وأبو معتز لا يضحك أبدا، ولم يطلب منها أحد شيئا، فالعائلة تعتز كثيرا بنفسها، وبين الأخوة كلفة شديدة، وقديمة، ومعتز اسم شامي أصيل.
زارت ميمي العائلة خلال الأسبوع مرتين، مرة من أجل الدعوة، والمرة الأخيرة للوداع. قالت إنها كلفت بعض أصحابها بـ "دوكرة" شقتها الكبيرة. لم يعجبها الدهان السابق. وعرفت الأخوات أنها عملت عملية تجميله ثانية غير عملية الأنف، وكانت لمكان غريب، يدفع المرء للشهقة حياء وخجلا، كانت العملية لسرتها! وأرتهم إياها وهي تضحك، قالت إنها لا تسبح، ولا تعرف السباحة، لكن زوجها يحب السرر المدورة، وقالت: السرة: ...احتياطي! والأختان ساكتتان وخجلتان من الكنتين النازحتين المكلومتين، فهن معتزات بأنفسهن، ومذعورات من التلميحات الغريبة في كلامها، وأم المعتز شاحبة، لا تضحك مثل زوجها وإن ذ كــــر المــــجـــــد ألــــفــيــتـــــــه، تـــــــأزّر بـــــــــالــــمــجـــد ثـــم ارتــدى، فقدت أم المعتز بيتها للغزاة الضيوف المحتلين، وكأنها تعيش في مخيم، أحسن من مخيم قليلا، وقالت ميمي إن العملية تحتاج إلى تخدير، فهي مؤلمة، وأنها لم تخبر أحدا، فشهقت الأختان، فالتخدير ثالثه الشيطان، وأبقراط كان سببا في قتل مئات الأطباء الذين عالجوا متظاهرين، وقالت إنها اشترت موبايلا جديدا، أيفون ستة، فهو في الشام أرخص بعشرة دولارات من دبي، وقد باتت مثل زوجها تفهم في الاقتصاد. وأخرجت القديم، والأختان وأبناء الأختين وبنات الأختين والأخوين يطمعون فيه، فأجهزتهم قديمة، أو معطلة، أو هي هواتف أجساد من غير أرواح الشرائح، أو من غير رمق الشحن، وهم يتناوبون أحيانا على حساباتهم في الفيسبوك بجهاز واحد، كما يتناوبون على المرحاض الذي يعمل على مدار الساعة. قالت إن ابنها يحب اللعب به، وأبو معتز ينظر، ولا يضحك، ولا يتكلم، ولم يطلب منها أحد الجهاز، فمعتز اسم شامي أصيل. مؤكد أن الملك لير ينزف من الداخل، ولم يضحك منذ خمس سنوات، ويعمل في خريف العمر صبيا عند بائع خضرة في سوق الهال الجديد، لكن الحمد لله، ليس في العائلة سوى شهيد واحد، والشهداء عند ربهم يرزقون، ليس من معتقلين حتى الآن، صحيح أنهم معتقلون في الدار، لكن مصيرهم معلوم، وهم أحياء. وقالت ميمي إنها ستسافر غدا، وإنها حجزت تذكرة، واشتاقت لبيتها في دبي، فالحياة هنا لا تطاق من غير كهرباء، وستعود لمتابعة مسلسل هندي على قناة دبي، وقالت لازمكم شيء؟ وهي جملة تقال، أخيرا قالتها، لكن أحدا لم ينطق بشيء، أن يقول لها أحد ما: ادفعي فقط ثمن العزيمة، فقد استدانها أخوك الكبير الملك لير عارية مستردة، لكن الحمد لله أكل الجميع، فشكرا ميمي.
سكت الجميع، وهمّ الجميع بالكلام، لكن أحدا لم يتكلم، وحان موعد سفرها بالطائرة، وقبّلت في موعد السفر العائلة واحدا واحدا، بشفتيها السيلكون، وودعتهم، وذكرتها الأختان بأنها لم تزر قبري الوالد والوالدة، فقالت الله يرحمهم، وإنها ستقرأ لهم الفاتحة، فهي تصل من أي مكان، فالتغطية الإلهية جيدة، وضحكت، وسافرت. ولم يضحك الملك لير الشامي، فهو لم يضحك منذ خمس سنوات، وكان قد اعتقل، وليس مثله من يعتقل، فهو خبير اقتصادي، وفّر على الدولة ملايين الليرات، وإن ذكرَ المجدُ ألفيته، تَأزّرَ بالمَجدِ ثمّ ارْتَدَى. أخذ أذنا من معلمه في المحل لوداع أخته، ودعها، وعاد إلى مملكته الجديدة في سوق الهال الجديد، فهي أقل زحاما من الشقة، وابنته عزة، تكاد تقول لما رأت طول رحلته الصامتة "سِفارُكَ هذا تاركي لا أبا ليا" ، كان واضحا أنه يحس بالتعب، وأنه ربما يريد أن يبكي أو يشتكي، والشكوى تجلو عوارض ذي ظلم، والمعتز في السقيفة لا ينزل، ولم يرفع رأسه منذ خمس سنوات إلا في المرحاض، ويطمح إلى ظلال بلاد النجاشية ميركل، فالبلد تحضُّ على هجرة أهلها، وجهاز الاطراح يعمل ويطرح شعبا إلى السماء أو خارج أرضه، وأم المعتز شاحبة، ومن تحت في الشارع تعلو أصوات مظاهرة لطم ( عاش ورائية) إيرانية غازية و باكية، لكن الملك لير لم يبك حتى الآن، وكان آخر بيت رددّه الملك منشدا قبل الثورة لأهل بيته، هو بيت مالك بن الريب، الذي يقول: فيا ليتَ شعري هل بكتْ أمُّ مالكٍ كما كنتُ لو عالَوا نَعِيَّكِ باكِيا.