احتج سقراط (اسم مستعار لصحفي عربي) على ترتيب خبر الحج أولا في الأخبار، فهو لا يفهم كإعلامي معنى أن يصير الحج خبرا أولا في فضائيات بعض الدول العربية، وليس في كلها، فلبعض الدول حج خاص إلى قبر أم الرئيس. أمزجتنا "متعودة دايما" على خبر: استقبل وودع، وقد حنّ مزاجك إلى العادة في العشر الأوائل من ذي الحجة. ومن المعلوم أن النظام السوري العلماني لم يكن ينقل خبر الحج الذي تنقله وكالات الأنباء العالمية كلها حتى في يوم عرفة، مع أنه خبر عالمي في كل نشرات الأخبار حتى الأمريكية والإسرائيلية، ففي عرفة يجتمع في صعيد واحد ثلاثة مليون حاج من كافة أصقاع الأرض شعثا غبرا، يعجون ويثجون. لنحسن الظن ولنقل أنه كان يريد خبرا عن أعداد القتلى السوريين يوميا، وهو خبر لم يعد يعني شيئا، أمسوا مثل القتلى على لعبة الأتاري.
خبر الحج ليس فيه رؤساء، هو خبر عن الشعوب التقية التي تؤدي فريضة الركن الخامس بعد أن استطاعت إليه سبيلا، والاستطاعة خبر العمر لثلاثة أرباع الحجيج، والإسلام عند المسلمين، هو قوام حياتهم وعيشهم، والغالب أن صاحبنا "لائكي"، وعلماني يؤمن باللائكية الفرنسية، أو يهوى جمع الطوابع و "اللايكات" على إشعاراته الذكية في سوق الفيسبوك، علامة ذلك أنه وصف مناسك الحج التي سنّها إبراهيم عليه السلام في بوسته "بالطقوس". طقوس في عينك- وأنا لا أشتم- فهي في عيني، مشاعر.
يقرُّ الجميع بأهمية سلاح الإعلام، بعضهم يجعله الثاني، وبعضهم يسميه السلطة الرابعة، والرأي قبل شجاعة الشجعان، هو الأول وهي المحل الثاني، والحج إعلام صاف لدى المسلمين، يقول خالق الخلق " وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِر يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجّ عَمِيق * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّام مَعْلُومَات"، بل لعل سقراط أفندي يجهل أن الله خلق الناس للعبادة، لا ليسمعوا خبر استقبل أو ودع، فدائما هو الخبر الأول في نشرة الأخبار، أو هو خبر مؤتمر قمة يتقمقم فيها قمامة الناس من الرؤساء القتلة، أو وزراء خارجية القتلة، مثل ثنائي والت ديزني القاتل توم وكيري، وما من أيام أفضل عند الله من أيامَ عشر ذي الحجة يا سقراط، وعند المسلمين الذين تبث لهم الفضائيات الأخبار. وأن السبب في امتياز عشر ذي الحجة هو لمكان اجتماع أُمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن بعض السلف كانوا يخرجون إلى الأسواق والشوارع في الأيام العشر، فيقومون بمظاهرات يسقطون فيها النظام، فالتكبير إسقاط للنظام العادي والنظام اليومي، فيُكبرون ويُكبر الناس بتكبيرهم، ومما يُستحب أن ترتفع الأصوات به التكبير وذكر الله تعالى، سواء عقب الصلوات، أو في الأسواق والدور والطرقات ونحوها. سيقال هذا موعظة أو خطبة جمعة، وأنتم لا تحبون المواعظ وتفضلون عليها مقابلات مع نجوم هوليود وسجاجيدهم الحمراء التي حيكت من دمائنا.
وهل نخوض إلا معارك دينية يا سقراط؟ فلمَ يرفض أبو علي بوتين أن تتولى السنّة الدولة في سوريا إذا؟ ولمَ يتقصد الألوية الإسلامية؟ وكل الألوية المعادية للأسد إسلامية. منذ زمن بعيد لدي شكاوى على تغطية الفضائيات العربية لموسم الحج، بما فيها فضائية الجزيرة الرصينة، لكنها شكاوى على النوع، وليست مثل شكوى سقراط، على الدرجة. أما العربية ذات التمويل السعودي فهي أكثر الفضائيات اهتماما بالحج وبأمرين فيه، هما الدعاية لخدمة الحجاج، وتوظيف الحج سياسيا لخدّامه، والثاني هو تعقيم الحج من الإسلام وعزله عن الأركان الأخرى وسلخه من قيمته الحضارية، ومقاصد الشريعة، وتحويله من شعيرة عظمى إلى "طقوس" كما ورد في إحدى نشراتها، وفي إشعارك يا سقراط.
مراسل فضائية سعودية هي "الأم بي سي" قال قبل أيام: إن الحج مناسبة لالتقاء جميع القوميات و"الأديان!، وما يخفي المرء، يظهر في فلتات اللسان،! وأمس رأيت مذيعة جديدة حسناء في العربية، مسرفة في الزي والدلع، فظننت أني سأتابع برنامجا عن الفن السابع، ثم فوجئت بعد دقيقة بأنّ البرنامج هو عن الركن الخامس الذي تجتمع فيها الأركان الخمسة! وكانت الجزيرة قد استضافت في برنامج بلا حدود الشيخ أحمد الريسوني، وطرحت عليه أسئلة المشاهدين حول الحج، وبينها سؤال عن توظيف الحج في السياسة، فأجاب جوابا دبلوماسيا فيه معاريض وتخلُص، وقال: وهل الحج إلا مظاهرة سياسية عالمية، إلا أنني أظن أنه كان مداريا أو مداجيا، فالحج ركن مغدور أو مهدور من أركان الإسلام، حاله مثال حال رمضان شهر الصوم، الذي يتحول إلى شهر الإسراف والتفريط.
الحياد في الإعلام كذبة يا سقراط، وهو أخطر سلاح وأنعمه، وقد صار خشنا، تستخدمه الدول في غسل الأدمغة. و من أحدث حروبها، أن صورة على غلاف الدير شبيغل لأردوغان عدو الغرب الأول، مع مآذن ومنارات إسلامية! ومنها عريضة كتاب سوريين وقعوها ضد أمريكا وروسيا، احتج عليها ناشطون لأنها وثيقة دبرت بليل فلم تنل حظها من الدعوة والعرض قبل الاستيفاء توقيعا، وآخرون احتجوا على الترجمة الفرنسية التي حرص مترجموها على إدراج أسماء الكتاب الفرنكوفونيين الحبايب.
صديقي سقراط :
عندي احتجاج أكبر من احتجاجك، وهو أن الحج مهدور من كل النواحي، بما فيها الهدر الإعلامي، فيمكن للمراسلين جمع عشرات القصص الرائعة عن الحجاج الذين جاؤوا من كل فج عميق، لكن التقارير الإعلامية لا تتحدث إلا عن سلامة الحجاج، وهي مثل تقارير التلفزيونات السورية عن إنجازات الحركة التصحيحية، وكأنّ الله جعل هذه الشعيرة ركنا حتى تبرهن الشرطة السعودية أنها لطيفة وتقوم بالواجب، وتخدم الحاج مجانا من غير ريال واحد!
وأزيد سقراط بيتا من الشعر والفلسفة والإعلام، فأقول: إن الفضائيات الهندية، والهند دولة المليار، وهي مستقلة في مزاج أفلامها وإعلامها ودينها، تصدر خبر الاحتفال بإغراق صنم الإله غانيش، الإله الفيل، ويستغرق الخبر وقتا غير قصير في النشرة، وهو خبر ديني، وكنا نتمنى أن يصير الخبر الأول في فضائياتنا هو بغلة العراق، كما في الدول المتقدمة" التي تهتم بخبر إنقاذ هرة، كما لو أنه حدث كوني. والبغلة هي التي قال عنها الفاروق: " لو أن بغلة في العراق تعثرت لخشيت أن يسألني الله عنها، لمَ لمْ أُمهّد لها الطريق"!
الفضائيات الغربية تتجاهل خبر سقوط مئات القتلى بأسلحة حكومتها، وثقبها الأوزون بمثقب الفساد والإفراط والبطر، نعم يا سقراط: "عض رجل كلبا" هو الخبر، و"عض كلب رجلا"، ليس خبرا، الغرب سنّوا هذه القاعدة، وليس كل ما يسنّه الغرب صحيحا، فهم يسنون لنا الخوازيق منذ الحروب الصليبية.
للشعب الهندي قواعده الإعلامية، ولروسيا سكة الحديد العريضة، ولبريطانيا مقود السيارة على اليمين، فلمَ لا تكون لنا بعض الخصوصية في جعل خبر الحج هو الأول في هذه الأيام الفضيلة. وكان السيد حازم نهار قد صنف الساخرين التقدميين من عيد الأضحى في أربعة أصناف:
فئة الطائفيين الذين يضيقون بما هو إسلامي، وفئة العلاكين والخواجات والمثقفين، وفئة الواهمين، و فئة تيوس الإيديولوجية. وأرى أن هناك فئات أخرى قد تبلغ العشرة يا سقراط، ونحن نرجم الشيطان من غير خسارة طماطمة واحدة، لا كما يحدث في مهرجان الطماطم الإسباني المؤسف. صحيح أننا لا ننتفع بالحج كما ينبغي، ونهدره هدرا، دنيا وآخرة، وفي هذه الأيام تصير الأمة على أعصابها ليس لاجتماع أربعة ملايين في صعيد واحد، وليس لأن في كل سنتين هناك حادث مؤلم، ضحاياه بالعشرات والمئات، وإنما لأن أكبر مظاهرة في الكونت تقع فيه، وضد النظام العالمي لو شئنا.
يا سقراطيس: سلّم لي على الفلسفة، وعلى أفلاطون، وعلى الخبر الأول، وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفا.