خلقت الادعاءات المتسرعة بهزيمة "
الإرهاب" في
سوريا؛ دينامية جديدة من الصراعات الدولية والإقليمية، تؤذن بحلول حقبة من المعارك المحدودة دون أن تبلغ حد الحروب الشاملة. وإذا كان الاحتلال الأمريكي للعراق 2003 وإزاحة نظام صدام حسين السني قد أسفر عن وضع العراق تحت وصاية
إيران، فإن التدخل الأمريكي في سوريا 2011، وهزيمة تنظيم أبو بكر البغدادي السني، أفضى إلى جعل سوريا تحت سيطرة إيران. وأحد أكبر المفارقات في التاريخ المعاصر أن أحد أهم ذرائع التدخلات الأمريكية في العراق وسوريا كانت تهدف إلى الحد من النفوذ الإيراني الشيعي ومحاربة "الإرهاب" السني، وعقب كل تدخل أمريكي كانت إيران تخرج أكثر قوة وأشد نفوذا، وكان "الإرهاب" يكتسب خبرة أكبر ونفوذا أوسع.
في هذا السياق، تبدو السياسات الأمريكية التي تسيير على هديها الدول الأوروبية تعمل على تحقيق نقيض أهدافها المتعلقة بحرب "الإرهاب". ففي كل جولة من التدخلات، تزداد قوة الجمهورية الإيرانية، وتتنامى قدرة المنظمات الجهادية. لكن ذلك لا يبدو غريبا في ظل هيمنة منظورات غربية تصر على ربط العنف والتطرف والإرهاب؛ بثقافة ودين المنطقة، وليس بالأسباب والشروط والظروف الموضوعية السياسية والاقتصادية. فتنامي الحالة الجهادية الموسومة بـ"الإرهابية" برز في سياق ثلاثة ظروف استراتيجية؛ الأولى: محلية وطنية، وتتمثل بانغلاق الأنموذج السياسي وفشل وعود التحول الديمقراطية ورسوخ الاستبداد، والثانية: إقليمية، وتتمثل بعدم التوصل إلى سلام عادل وحقيقي في فلسطين، والثالثة: عالمية، وتتمثل بانهيار الاتحاد السوفييتي وسيادة القطب الأمريكي الواحد وحلول العولمة.
تصر السياسات الأمريكية على السير على طريق تأجيج حالة العنف في المنطقة، وتدفع باتجاه تغذية منابع "الإرهاب" الرئيسية في المنطقة. فعقب إعلانها عن هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية تبنت منظورات استرتيجية توسس لديمومة العنف والإرهاب عبر أطروحة "صفقة القرن"؛ التي تقوم على أساس تصفية القضية الفلسطينية، وإدماج إسرائيل في المنطقة من خلال تأسيس تحالف بين الإمبريالية الأمريكية والدكتاتوريات العريية والاحتلال الإسرائيلي تحت ذريعة مواجهة الخطر المشترك المتمثل بالمنظمات "الإرهابية" والجمهورية "الإيرانية. وقد بات واضحا أن منظومة العنف الإرهابوي في المنطقة هو رد على نظام العنف البنيوي المتجسد بالإمبريالية الخارجية والاحتلالية الإسرائيلية والطائفية الإقليمية والدكتاتورية المحلية.
على مدى عقود ادعت الولايات المتحدة الأمريكية أن إيران تشكّل تحدياً شاملاً لمصالحها، وتهديدا واسعا لحلفائها وشركائها في الشرق الأوسط. ولم تخل أي وثيقة للأمن القومي الأمريكي منذ سقوط نظام الشاه وصعود الجمهورية الإيرانية الإسلامية؛ من الحديث عن الخطر الإيراني واعتبار إيران دولة راعية للإرهاب، فضلا عن كونها دولة مارقة، ومع ذلك من ذلك تمكنت إيران خلال العقود الأربعة الماضية من التمدد والانتشار، وتمكين سيطرتها وزيادة نفوذها، وخلق فضاء جيوسياسي من طهران إلى بغداد، مرورا بدمشق وصولا إلى بيروت، فضلا عن نفوذها في البحرين واليمن. وفي كل مرة ادعت أمريكا التصدي للنفوذ الإيراني، كانت إيران تخرج بنفوذ أكبر وتوسع أعظم.
منذ قدوم إدارة ترامب، بات الحديث عن الخطر الإيراني حدثا يوميا، وأصبحت التهديدات لازمة خطابية لأركان الإدارة الأمريكية، كان آخرها تحذير مستشار الأمن القومي الأمريكي هربرت ماكماستر؛ من تزايد قوة ما وصفها بـ"شبكة وكلاء" إيران في المنطقة، حيث قال ماكماستر، أثناء مؤتمر ميونيخ للأمن في 17 شباط/ فبراير 3018، إن إيران تبني وتسلح شبكة قوية على نحو متزايد من الوكلاء، في دول مثل سوريا والعراق واليمن. وأضاف أن شبكة وكلاء إيران أصبحت أكثر قوة، وأن الوقت حان للتصرف تجاه طهران.
إن المواجهة الأمريكية للنفوذ الإيراني هي أقرب إلى الأوهام، فبحسب الواشنطن بوست تفرض إيران اليوم هيمنتها ونفوذها على القوس الممتد من طهران وحتى البحر الأبيض المتوسط، ومن حدود حلف شمال الأطلسي إلى حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأيضاً على امتداد الطرف الجنوبي من شبه جزيرة العرب. فلدى إيران اليوم الآلاف من المليشيات المتحالفة معها، والجيوش التي تقاتل وكالة عنها في الخطوط الأمامية في سوريا والعراق واليمن، والتي تملك عربات مدرعة ودبابات وأسلحة ثقيلة، فضلاً عن آلاف من أعضاء الحرس الثوري الإيراني الذين يشاركون في تلك المعارك؛ ممّا أكسبهم خبرة كبيرة.
تشير التطورات المتسارعة في سوريا إلى بروز منطق جديد في نمط المواجهة بين أمريكا وإيران. ففي تطور مهم ولافت، أسقطت الدفاعات الجوية السورية مقاتلة إسرائيلية قصفت أهدافا عسكرية داخل سوريا في 10 شباط/ فبراير 2018، وسرعان ما اتهمت إسرائيل إيران بإسقاط الطائرة، وتنامى الحديث عن منطق المواجهة الجديد الذي يتجاوز حروب الوكالة. وعلى الرغم من حرص البلدين وكافة الأطراف الدولية والإقليمية على التهدئة وعدم التصعيد، فإن حقبة جديدة من الصراع تبرز في المنطقة، لكنها بعيدة عن منطق المواجهة الشاملة نظرا للكلفة الباهظة والعواقب الخطيرة.
في أعقاب الغارات الإسرائيلية على سوريا أصدرت إدارة ترامب بيانات تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، لكنها لم تقدم أي مساعدة عسكرية (على الأقل علناً) للعمليات ضد القوات الإيرانية في سوريا. وفي هذا الصدد، أعلنت واشنطن أنها تعتزم إبقاء نحو ألفي جندي شرقي نهر الفرات في شمال وشرق سوريا، ولا تزال مهمتهم غير واضحة المعالم، باستثناء دعوى هزيمة تنظيم "الدولة الإسلامية". وركزت الإدارة الأمريكية أيضاً على إدارة التوترات التركية - الكردية، من خلال زيارة كل من وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون ومستشار الأمن القومي هربرت رايموند ماكماستر؛ إلى أنقرة مؤخراً. وفي المقابل، هناك بعض المؤشرات الملموسة على الأرض بأن واشنطن تحاول جاهدة الحدّ من النشاط الإيراني في سوريا، فضلاً عن التصريحات العامة التي أدلى بها تيلرسون، ومفادها أن استمرار الوجود العسكري الأمريكي يهدف جزئياً إلى كبح نفوذ طهران المحلي.
يستند منطق المواجهة بين إيران وإسرائيل إلى قناعة إسرائيلية بأن الاستراتيجية الأمريكية المتعلقة بإيران قاصرة، ولا تتوافر آليات فاعلة للحد من النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط عموما، وفي سوريا خصوصا. فالاستراتيجية التي وضعها فريق الأمن القومي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب للتصدي لإيران؛ تتضمن مجموعة من العناصر الأساسية تقوم على: تحييد التأثير "المزعزع للاستقرار للحكومة الإيرانية وكذلك تقييد عدوانيتها، ولا سيما دعمها للإرهاب والمسلحين"، وإعادة تنشيط التحالفات الأمريكية التقليدية والشراكات الإقليمية كـ"مصد ضد التخريب الإيراني واستعادة أكبر لاستقرار توازن القوى في المنطقة"، وحرمان النظام الإيراني، ولا سيما الحرس الثوري، من تمويل "أنشطته الخبيثة" ومعارضة أنشطة الحرس الثوري، ومواجهة تهديدات الصواريخ الباليستية والأسلحة الأخرى الموجهة ضد الولايات المتحدة وحلفائها، وحشد المجتمع الدولي لإدانة "الانتهاكات الجسيمة للحرس الثوري" لحقوق الإنسان، و"احتجازه لمواطنين أمريكيين وغيرهم من الأجانب بتهم زائفة"، وحرمان النظام الإيراني من المسارات المؤدية إلى سلاح نووي.
لا شك أن استراتيجية ترامب النظرية تتماهى مع الطرح الإسرائيلي، فقد عكفت واشنطن منذ تدخلها في المنطقة، في إطار بحثها عن حل إقليمي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، على حشد جبهة موحدة تضم إسرائيل والقوى العربية السنية في وجه إيران، عدو واشنطن وإسرائيل اللدود، الأمر الذي دفع بنيامين نتنياهو إلى تقديم اقتراح بـتبني "مقاربة إقليمية" لإنهاء صراع الشرق الأوسط، حيث أشاد بما وصفها "فرصة غير مسبوقة تتمثل في تخلي بعض الدول العربية عن اعتبار إسرائيل عدوا، بل صارت ترى فيها حليفا في مواجهة إيران و"داعش"، القوتين التوأمين في "الإسلام المتطرف" واللتين تهددان الجميع". وتتوافق الرؤية المشتركة للمشروع الأمريكي الإسرائيلي بـترتيبات "صفقة القرن"، التي تقوم على تصفية القضية الفلسطينية، وإدماج إسرائيل في المنطقة من خلال تأسيس تحالف أمريكي إسرائيلي مع بعض دول المنطقة، تحت ذريعة مواجهة الخطر المشترك المتمثل بالمنظمات "الإرهابية" والجمهورية "الإيرانية".
لا جدال أن إسرائيل كانت الأكثر سعادة بقدوم إدارة ترامب ورحيل أوباما، نظرا للتباين الشديد في رؤية الرجلين لإيران ودورها في المنطقة. فأوباما أنجز الاتفاق النووي مع إيران ونظر إليها كعامل استقرار، بينما ترامب لا يدع مناسبة للحديث عن الخطر الإيراني المزعزع للاستقرار. فبحسب دينيس روس: "قد لا تكون أسهم الرئيس دونالد ترامب مرتفعة للغاية في الولايات المتحدة، لكن كل من أمضى مؤخراً بعض الوقت في إسرائيل أو السعودية، كما فعلتُ أنا، يمكنه أن يشهد أن الرئيس الأمريكي هو من المفضلين في أوساط قادة هاتين الدولتين الشرق أوسطيتين". لكن المشكلة بالنسبة لإسرائيل لخصها دينيس روس في عنوان مقالة في مجلة "فورين بوليسي"؛ بأن "ما يقوله ترامب بشأن إيران هو مجرد كلام، إذ يشعر جميع أولئك الذين تحدثتُ إليهم بأن الولايات المتحدة تنازلت عن سوريا لصالح روسيا، تاركةً إسرائيل للتعامل بمفردها مع الوجود الإيراني هناك. وبطبيعة الحال، يعتقد هؤلاء أنه لو كانت الولايات المتحدة مهيأة للإشارة إلى استعدادها لوضع حدّ للتوسّع الإيراني في سوريا، فإن السلوك الروسي قد يتغيّر أيضاً. ولكن على الرغم من تركيز خطاب وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون بشأن سوريا الشهر الماضي؛ على مواجهة إيران، إلّا أنّ مسؤولي الأمن الإسرائيليين الذين تحدثتُ معهم لم يروا أي مؤشر على أن الإدارة الأمريكية ستقابل أقوالها بأفعال".
في هذا السياق، تنظر إسرائيل إلى أن الاجراءات العملية للولايات المتحدة ضد إبران في سوريا لا يمكن أن تفضي إلى الحد من نفوذها، وكان آخرها توجيه ضربة عسكرية دفاعية في 7 شباط/ فبراير 2018، حيث أطلق طابور من الوحدات التي تقودها إيران قذائف مدفعية باتجاه "قوات سوريا الديمقراطية" المدعومة من الولايات المتحدة، جنوب دير الزور، على بعد ثمانية كيلومترات من خط تجنّب المواجهة في شرق نهر الفرات الذي أنشأته واشنطن وموسكو. وبحسب مايكل آيزنشتات ومايكل نايتس، في مقالة بعنوان" تجاوز الخطوط الحمراء: ديناميكيات التصعيد في سوريا"، شملت القوة (المؤلفة من حوالي 500 جندي) مقاتلين أفغان تابعين لمليشيا "لواء فاطميون" التى يقودها "حرس الثورة الإسلامية"، وعناصر قبليين محليين عرب تم تجنيدهم مؤخراً للقتال إلى جانب مليشيا "لواء الباقر" بقيادة ضباط إيرانيين، ومقاتلين من "قوات الدفاع الوطني" التابعة لنظام الأسد، إلى جانب القوات المساعدة "صائدو الدواعش" المجهزة من روسيا، والمقاتلين العسكريين الروس الذين يشاركون في الحرب بموجب عقود الخاصين من "مجموعة فاغنر". وقد دمرت القوات الجوية والمدفعية الأمريكية القوة المهاجمة، مما أسفر عن مقتل حوالي مئة شخص، من بينهم ما يقدر بنحو ثلاثين عنصرا من "قوات الدفاع الوطني"، وأربعين سورياً آخرين، وثلاثين مقاتلاً روسياً (يشاركون في الحرب بموجب عقود)، كما دُمّرت حوالي عشرين مركبة، منها تسع دبابات.
لم تكن ضربة جنوب دير الزور الحادثة الأولى في المواجهة الأمريكية الإيرانية في سوريا ولن تكون الأخيرة، لكنها كانت الأعنف. فعلى مدى الشهور الماضية شهدت المواجهة بين أمريكا وإيران في سوريا تصعيدا محدودا ومحسوبا. ففي 18 أيار/ مايو الماضي ضربت المقاتلات الأمريكية رتلا عسكريا للمليشيات الشيعية أثناء تقدمه نحو القاعدة الأمريكية، والتي كانت تهدف إلى تطويق قوات التحالف وعزلها على الأرض. وبعد الحادثة بأيام، قامت القوات الأمريكية بإسقاط طائرة إيرانية مسلحة بدون طيار؛ قالت الولايات المتحدة إنها كانت تهاجم مقاتلين أمريكيين وآخرين من قوات المعارضة في منطقة التنف، وقد برهنت تلك التحركات والحوادث على استعداد "فيلق القدس" لمواجهة نفوذ الولايات المتحدة في سوريا، كما ظهر جليا في 19 حزيران/ يونيو الماضي عندما أعلنت القوات الأمريكية عن إسقاطها طائرة إيرانية بدون طيار بالقرب من قاعدة التنف.
لم تنقطع الرسائل والمواجهات المحدودة بين أمريكا وإيران في سوريا في مناطق أخرى، فقد ظهرت ساحة جديدة للمعركة على طول وادي نهر الفرات. ففي 18 حزيران/ يونيو الماضي، هاجمت طائرة مقاتلة سورية قوات مدعومة من الولايات المتحدة جنوب مدينة الرقة، وهي منطقة تقوم القوات السورية فيها بدعم العمليات العسكرية التي يقودها "فيلق القدس"، الأمر الذي دفع القوات الجوية الأمريكية إلى إسقاط الطائرة، وهو أمر استدعى بعث رسالة إيرانية شديدة، حيث شنت إيران هجمات بالصواريخ الباليستية على أهداف قالت أنها تابعة لتنظيم "الدولة الإسلامية" في الوادي، ومن ضمنه مدينة دير الزور، معللة ذلك بالانتقام من الهجمات التي نفذها التنظيم على طهران، لكن الحقيقة أن الهجمات الصاروخية كانت تستهدف جميع خصومها، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة وحلفاؤها.
خلاصة القول، أن أمريكا تدرك تماما صعوية ومخاطر الدخول في مواجهة شاملة مع إيران، وتعتمد استراتيجيتها على تأسيس حلف عربي إسرائيلي، لكن الجميع يدرك صعوبة تحقيق ذلك، فالدول العربية المقصودة أعجز عن القيام بتلك المغامرة، وإسرائيل لا تحتمل تلك المقامرة، وبهذا سوف تبقى المواجهة في حدود المعارك المحدودة دون أن تبلغ حد المواجهة الشاملة، لكن المؤكد أن إيران خرجت مرة أخرى أكثر قوة وأوسع نفوذا بانتظار مواجهة منتظرة قادمة لا تزال معالمها مجهولة.