بلغت المسافة الفاصلة بين عموم
التونسيين وبين
الأحزاب السياسية درجة عالية قد تكون غير مسبوقة. لا يُفهم ذلك فقط من خلال نتائج سبر الآراء التي تثبت عزوف المواطنين عن الالتحاق بالأحزاب وتؤكد تراجع الثقة فيها وفي مصداقيتها، وإنما يستنتج ذلك أيضا من خلال تراجع نسب الإقبال على المشاركة في الانتخابات. وعندما تنقطع الصلة بين الفاعلين السياسيين والمواطنين تصبح الدولة مهددة، ويفقد الحكم قاعدته الاجتماعية التي بدونها تزداد هشاشته، وتقل قدرته على تأطير الناس وإدارة الشأن العام.
بعد أن فقد المجتمع التونسي الأمل في الحكم الفردي، خاصة عندما انقلب إلى استبداد مطلق، وتحول إلى فساد مستشرٍ ينهب الملك العام ويفتح المجال واسعا أمام الثراء غير المشروع، ها هو المجتمع يصاب حاليا بخيبة أمل شديدة الوقع في النخب السياسية التي حولت الديمقراطية إلى حالة مثيرة للقلق تكاد تصبح عبثية، بعد أن كادت تفقد المعنى. فالسياسيون يعيشون بإطلاق الوعود الزائفة، ويفصلون الفعل عن النتيجة والموقف عن الجدوى.
قبل الثورة سجن الآلاف من التونسيين بتهمة الانتماء إلى أحزاب غير مرخص فيها، وكان الانتماء الحزبي قبل الثورة جريمة يعاقب عليها أصحابها. وحتى يصبح ذلك مقبولا لا بد من أن يستسيغه الحاكم بأمره، يجب تقليم أظافر أصحاب هذه الأحزاب، وأن تصبح مثل دجاج الآلات المكيفة. أما اليوم، فقد اختلف الأمر في تونس، حيث أصبح تكوين حزب لا يتطلب سوى تقديم ملف يتضمن اسم الحزب وهيئته المؤسسة وأهدافه، ولهذا تجاوز عدد الأحزاب 220 هيئة سياسية ينشد جميعها الوصول إلى السلطة من أجل تسيير المؤسسات، والتصرف في الميزانيات، والتحكم في مستقبل الملايين من الأنفس. وبذلك غابت الجدوى وضاع الهدف من التعددية الحزبية.
عندما اهتدت بعض الشعوب إلى فكرة الأحزاب، احتاجت إلى وقت طويل من أجل ترسيخ ثقافة ديمقراطية جعلت من هذه الهياكل وسيلة ناجعة لإدارة التعددية السياسية وتحقيق أفضل النتائج في مجال تنظيم المجتمع والموارد. لا يعني ذلك أن الحكم القائم على الأحزاب يخلو من مشاكل، بل هو أقدر على تحقيق مشاركة أوسع من قبل الناس في معالجة شؤونهم وحماية مصالحهم.
ما زالت التجربة الديمقراطية التونسية في أول خطواتها، وبدا واضحا أن النخبة لم تكتسب خلال السنوات القليلة التي مرة الدربة الضرورية والكافية حتى يكون أداؤها مقبولا من قبل المواطنين. فالصراعات بين العائلات السياسية والأيديولوجية لا تنتهي، كما أن الرغبة الجامحة في الوصول إلى السلطة والبقاء فيها أكثر وقت ممكن قد تسببت في استنزاف الطاقات وتجزئة المجزأ، وهو ما أفقد العمل السياسي معناه وجدواه. كما أن هذه
الصراعات الشخصية أضرت كثيرا بفكرة الصالح العام، وأضعفت الدولة، وضيعت على التونسيين فرصا عديدة في مجالات التنمية وتحقيق التراكم في الخبرة والوعي.
في اللحظة التي كان خلالها رئيس الحكومة يوسف الشاهد يتفاوض مع الرئيس الصيني ومع رجال أعمال كبار، من أجل إقناعهم بأن تونس يمكن أن تكون بلدا جيدا لتوسيع حجم الاستثمارات الصينية التي تدفقت بأحجام غير مسبوقة نحو القارة الأفريقية، كثف خصومه من داخل حزبه ومن خارجه مشاوراتهم وتحركاتهم من أجل التعجيل بالإطاحة به على إثر عودته من هذه الجولة الرسمية الهامة. وعندما يلاحظ المواطن هذه المفارقة العجيبة التي تدل على غياب الانضباط، وإعطاء الأولوية لمصلحة الحزب على حساب مصلحة الوطن، كيف سيكون رده هذا المواطن على هذا التصرف المشين؟
رغم ارتفاع نسبة التشاؤم في صفوف التونسيين، وهي نسبة تجاوزت الثمانين في المئة، إلا أن ذلك لم يؤد بهم إلى الاستقالة ولم يدفع ببعضهم إلى اليأس والانسحاب من الشأن العام أو التفكير في مغادرة الوطن. والأمثلة على ذلك عديدة، آخرها الحركة التي أنشأها أحد التونسيين تحت عنوان "تونس إلى الأمام". هي ليست حزبا، ويرفض أصحابها الارتباط بأي حزب، وتعهدوا بكونهم لا ينوون الوصول إلى السلطة، ولا تقودهم أطماع مالية. كل ما يهمهم - حسبما ما جاء في وثيقة التأسيس - الانتباه للأهداف الوطنية والأخلاقية التي وضعوها وربطوها بأوليات كبرى ذات طابع استراتيجي، ووضعوا أنفسهم تحت تصرف من يريد من الأحزاب والشخصيات التي تطرح نفسها لقيادة البلاد، من أجل إقناعها بهذا البرنامج والتعاون معها في سبيل تنفيذه.
هذه ليست سوى محاولة، ولن تكون الوحيدة التي يقدم عليها مواطنون؛ لأن تونس ليست بلدا تافها، فتاريخها ممتد في الماضي، وسبق لها أن صمدت في وجه أعاصير تعرضت لها عبر التاريخ، ومع ذلك استجمعت قواها، ووقفت من جديد، وبنت رغم صغر حجمها قوة أخذتها بعين الاعتبار إمبراطوريات كانت ذات شأن في تلك الأيام الغابرة.