الفقه الإسلامي ثري وغني بالآراء التي تعالج مشكلات الناس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والفقيه المسلم لا يقف عند رأي مشهور فيها. ومن المسائل التي اشتهر فيها رأي واحد يميل إلى التشديد: قضية خروج المرأة التي توفي عنها زوجها في فترة العدة، هل تخرج من بيتها للضرورة فقط، أم يجوز لها الخروج مطلقا وقتما تريد؟!
الرأي الأشهر
إن الرأي الأشهر والمدون في كتب الفقه المعاصر، أن تلزم المرأة بيت زوجها مدة أربعة أشهر وعشرا، لا تخرج إلا لضرورة، كذهاب لطبيب، أو لوازم بيتها المهمة، وكنت أفتي به، ولكن في النفس منه شيء، وكنت أرى أنه يحتاج لمراجعة، حول علة الأمر، وهل فيه اختلاف أم لا؟ فلم تعد الحياة الاجتماعية الآن بسيطة وبدائية كالأزمنة السابقة، تستطيع المرأة أن تبقى في بيتها ويأتيها كل ما تريد، ويزورها الناس، فالآن الناس ينشغل الابن عن والديه، وربما يمر شهر ولا يزورهما، فما بالنا بأرملة تقضي عدتها، وهي فترة طويلة أربعة أشهر وعشرا.
والعجيب أني رجعت للكتب المعاصرة التي تناولت فقه الأحوال الشخصية، فلم أجد ما يجيب إجابة شافية في الموضوع، بداية من كتاب: (الأحكام الشرعية للأحوال الشخصية) للشيخ أحمد إبراهيم، وهو من أقدم ما كتب في القرن العشرين، فقد صدر سنة 1930م، وانتهاء بآخر ما نشر للمعاصرين الفقهاء وهو كتاب: (فقه الأسرة وقضايا المرأة) لشيخنا الدكتور يوسف القرضاوي، كلها تقول نفس الكلام غالبا.
ولكن عند العودة للمصادر المهمة في الموضوع، وبخاصة كتب تفسير آيات الأحكام، رأيت كلاما مهما يفتح بابا من أبواب التيسير على المرأة التي تقضي عدتها بعد وفاة زوجها، وهو رأي يجيز لها أن تخرج وقتما تشاء، دون حرج، وليس للضرورات فقط، ورأيت الرأي ينسب لعدد من الصحابة الفقهاء، والتابعين كذلك، فقد قال به: عائشة، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وعطاء وطاووس، والحسن، فعن عروة بن الزبير، عن (عائشة رضي الله عنها. أنها كانت تفتي المتوفى عنها بالخروج في عدتها وخرجت بأختها أم كلثوم حين قتل عنها طلحة بن عبيد الله إلى مكة في عمرة).
وعن عطاء، عن ابن عباس أنه قال: إنما قال الله عز وجل: تعتد أربعة أشهر وعشرا، ولم يقل: تعتد في بيتها، فتعتد حيث شاءت، قال الله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) البقرة: 234، ولم يقل: يعتددن في بيوتهن تعتد حيث شاءت).
ويقول ابن القيم رحمه الله: (ولأصحاب هذا القول حجتان احتج بهما ابن عباس، وهي: أن الله سبحانه إنما أمرها باعتداد أربعة أشهر وعشر، ولم يأمرها بمكان معين. والثانية: قال ابن عباس: نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها، فتعتد حيث شاءت، وهو قول الله عز وجل: (غير إخراج) البقرة: 240) انظر: زاد المعاد (5/604-607). بتصرف.
وقد ذكر الخلاف والنقاش أيضا والرأي القائل بالجواز: القرطبي في تفسيره، والجصاص في تفسير آيات الأحكام، والطاهر بن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير).
جواز خروج المرأة في عدة الوفاة
تواصلت مع شيخنا القرضاوي في المسألة، وقرأت له كلام ابن القيم، وأني أفتي به الذين يتصلون بي في برنامجي (يستفتونك)، فقال: بعد ما ذكره ابن القيم، أفتي معك بمثل ما أفتيت، وأرى فيه تيسيرا على النساء في هذا الزمان. وطلب أن أعطي أرقام الصفحات والنقل لتلميذه وأحد معاونيه في مكتبه صديقنا الشيخ إسماعيل إبراهيم ليضع هذا الرأي الجديد في كتابه. وهذا شأن العالم الكبير مهما كبر شأنه وسنه، يرحب بكل جديد ولو كان على يد تلميذ صغير من تلامذته.
هذا الرأي الفقهي والذي نجيز به ـ بناء على النصوص وفهمها ـ خروج المرأة في عدة الوفاة، هو قضية من عدة قضايا تخص المرأة، تحتاج لمراجعات فقهية فيها، ومنها: قضية تعطر المرأة عند خروجها من المنزل، وقد خرجت للعمل والدراسة، ولا شك أنها في الصيف يصيبها العرق، ولو أنها لم تضع أي عطر، أو مزيل للعرق، تكون في حرج شديد، ولا أعتقد أن الفقيه المسلم المعاصر يقف أمام حرفية النصوص دون نظرة كلية لها.
وكذلك قضية المكياج للمرأة، والموقف منه، طرحت السؤالين على شيخنا القرضاوي كذلك، فقال: أفكر فيهما، وابحث أنت أيضا. وأبدى موقفا مبدئيا، لا يتسع المقام لذكره الآن، ولكن الملمح الأهم هنا: أن الحياة تموج بالأفكار، والمستجدات، التي تتطلب من الفقيه المسلم بحثا وسعيا وراءها، ليخرج برأي علمي دقيق، يجمع فيه بين فهم النص، ومراعاة الواقع، ويحل إشكالاته.
Essamt74@hotmail.com
الحشد الشعبي يقود العراق إلى نكبة جديدة!
ملاحظات أساسية حول إعادة الانتخابات في إسطنبول