تفوق تنظيم الدولة على دول عديدة في التعامل مع جائحة "كورونا"، فقد تكيّف بسرعة كبيرة مع تعمّق الأزمة الصحية التي خلقها "كوفيد-19"، وتمكن خلال فترة وجيزة من تحويل محنة الوباء إلى فرصة ومنحة، حيث اتخذ منذ البداية إجراءات مشددة وأصدر لمقاتليه إرشادات ملزمة، أتبعها بسلسلة هجمات واسعة في مختلف ولاياته المنتشرة في بلدان عدة.
ففي إحصائية التنظيم لهجماته خلال النصف الأول عام 1441 هـ، حسب صحيفته "النبأ" عدد (224)، نفذ التنظيم 1557 هجوما. وقد استثمر التنظيم حالة الفوضى والانشغال بانهيار سلاسل الإنتاج العالمي، وبعد أن استغرقت وسائل الإعلام في مناقشة جائحة "كوفيد-19" من منطلق وبائي، ثم إعادة تشغيل المحرك الاقتصادي العالمي، بدأ الاهتمام الإعلامي يستكشف اليوم "الإرهاب" في زمن جائحة "كورونا".
قبل جائحة الفيروس التاجي، كان تنظيم الدولة من أكثر التنظيمات الجهادية تطورا على صعيد تماسك الهيكلية التنظيمية والصلابة الأيديولوجية، فقد شكّل ذروة تطور غير مألوفة في نشاط الجماعات "الجهادية" العالمية، وبدت هيكليته وأيديولوجيته مبتكرة في العديد من خصائصها واستراتيجياتها. فرغم طرد تنظيم الدولة من مناطق سيطرته الحضرية المدينية في العراق وسوريا، وخسارة آخر جيب مكاني في بلدة الباغوز في محافظة دير الزور في 23 آذار/ مارس 2018 على يد قوات سوريا الديمقراطية بدعم من قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن، فإن التنظيم كان لا يزال يتمتع بقدرات قتالية وتمويلية وإعلامية كبيرة.
فقد كشفت الوقائع الميدانية عن سرعة تكيّف التنظيم مع التطورت الميدانية، وتمتعه بمرونة شديدة بالتحول من نهج المركزية إلى حالة اللامركزية، حيث تمكن من إجراء إعادة هيكلة تنظيمية على الصعيد العسكري والأمني والإداري والشرعي والإعلامي. فمع نهاية المشروع السياسي للتنظيم كدولة "خلافة"، عاد إلى حالة "المنظمة"، ورجع إلى الاعتماد على تكتيكاته القتالية التقليدية بالاعتماد على نهج الاستنزاف وحرب العصابات.
في هذا السياق، برهنت القيادة الجديدة لتنظيم الدولة عقب مقتل أبو بكر البغدادي في (27 تشرين أول/ أكتوبر 2019)، عن أن هذه القيادة بزعامة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، واسمه الحقيقي أمير محمد عبد الرحمن المولى الصلبي، لا يقل دهاء عن البغدادي وربما يتفوق عليه بامتيازات عديدة.
وقبل جائحة كورونا توالت التقييمات حول قدرات تنظيم الدولة، والتنبؤ بإمكان عودته. فقد أشار تقرير صدر عن وزارة الدفاع الأمريكية إلى أن التنظيم أعاد ترتيب صفوفه ليظهر من جديد في سوريا، مستغلاً الانسحاب الأمريكي. وأكد التقرير على أن التنظيم عزز من قدراته المسلحة في العراق، حيث قال مفتّش عام في وزارة الدفاع الأمريكيّة (البنتاغون) في تقرير صدر في 6 آب/ أغسطس الماضي إنّ التنظيم "يُعاود الظهور" في سوريا مع سحب الولايات المتحدة قوّاتها من البلاد، مؤكدا أنه "عزّز قدراته" في العراق. وأشار التقرير إلى أنه على الرغم من خسارة التنظيم "خلافته" على الأرض، إلا أنّه عزّز قدراته المسلحة في العراق واستأنف أنشطته في سوريا خلال الربع الحالي من العام. وأضاف أنّ التنظيم استطاع إعادة توحيد صفوفه ودعم عمليّات في كلا البلدين، وذلك لأسباب منها أنّ القوّات المحلّية "غير قادرة على مواصلة شنّ عمليّات طويلة الأمد، أو القيام بعمليّات عدّة في وقتٍ واحد، أو الحفاظ على الأراضي التي استعادتها".
كما تنبأ عسكريون في وزارة الدفاع الأمريكية ببعث جديد للتنظيم خلال 6-12 شهرا إذا لم يتواصل الضغط عليه ومطاردة أفراده.
حسب "مجموعة الأزمات الدولية"، فإنه "رغم الارتفاع المستمر في أعداد ضحايا كوفيد- 19، ينبغي على العالم أن يحضر نفسه لهجمات يشنها تنظيم الدولة الإسلامية، الذي يعتقد أن بوسعه استغلال الفوضى التي يسببها الوباء. إن هذا التهديد الجهادي المستمر يتطلب ذلك النوع من التعاون الدولي الذي يأمل المتشددون أن يستنزفه الفيروس". و"في حين جادل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأن البشرية تواجه عدواً مشتركاً يتمثل في كوفيد–19، ومن ثم أطلق مناشدته للتوصل إلى "وقف إطلاق نار عالمي"، أوضح تنظيم الدولة الإسلامية بأنه يرى الأمور بشكل مختلف. في افتتاحية جديدة في نشرته الأسبوعية، أبلغ التنظيم أعضاءه بأن حربه الممتدة على نطاق العالم ستستمر، حتى مع انتشار الفيروس. علاوة على ذلك، أخبرهم أن الأنظمة الأمنية الوطنية والدولية التي تساعد في كبح جماح التنظيم على وشك مواجهة أعباء تفوق طاقتها، وأن أعضاءه ينبغي أن يستغلوا ذلك إلى أقصى درجة ممكنة".
وقد أصدر التنظيم الأوامر لأعضائه في سائر أنحاء العالم بفعل ذلك تحديداً.
وقد حذر "معهد دراسات الأمن القومي" الإسرائيلي المرموق، من "عودة تنظيم الدولة مجددا للمشهد، وسيظهر ذلك في شكل عدد متزايد من الهجمات"، زاعما أن الوقت المرتقب الطويل وحالة عدم الاستقرار السياسي في الدول المختلفة، مع تركيز الحكومات على خطر الفيروس؛ سيُخفف الضغط العسكري على التنظيم. وقال إنه "في ذلك الزخم سيتمكن داعش من الحصول على أرض جديدة في أماكن مختلفة، من بينها سيناء".
كما نشرت مجلة " بوليتكو" مقالاً للمتخصص في الشؤون العسكرية والأمنية للعراق وإيران ودول الخليج، مايكل نايتس، وتحدث فيه عن أن جائحة كورونا أدت إلى توقف عمليات مكافحة الإرهاب، مما أنعش تنظيم الدولة في العراق، والذي من شأنه أن يرجح عودة الخلافة دون أي رادع. ويقول نايتس بأن دول العالم أعلنت الحظر، وتحصي موتاها وخسائرها الاقتصادية المتزايدة، ولكن في مكان ما في أقصى العراق، يتمتع إرهابيو تنظيم الدولة بحياة جديدة.
حسب رانجي علاء الدين، من مركز بروكنجز، "كثّف تنظيم الدولة الإسلامية هجماته على البلدات في شمال العراق ويحاول الاستفادة من أزمات بغداد المتراكمة التي تشمل التصعيد بين الولايات المتحدة وإيران وانخفاض أسعار النفط والاحتجاجات التي تغطّي البلاد بأسرها. ففي خلال أزمة صحّة عامة، بإمكان تنظيم الدولة الإسلامية إعادة إحياء نفسه وتوسيع نفوذه عبر تلبية حاجات المجتمعات المحلّية بطرق لم تلبّها السلطات الأخرى، على غرار الحكومة العراقية. وبحدّ أدنى، تسمح إخفاقات بغداد لتنظيم الدولة الإسلامية بوضع نفسه في موقع يجعله بديلاً عمليّاً. ومع حملة التخويف والترويع والاغتيالات المستهدِفة والابتزاز التي ينتهجها التنظيم حالياً، يعطيه الوضع الراهن بنية تحتيّة مرقّعة وسرّية لنفوذه تشكّل منصّة ينطلق منها للاستيلاء على البلدات والمدن كما فعل في يونيو 2014".
ثمة تصاعد في عمليات تنظيم الدولة في مختلف أماكن تواجده في العالم. ففي مقال بعنوان "فيروس كورونا لا يعيق الدواعش" لنيكولاي بلوتنيكوف، مدير مركز المعلومات العلمية التحليلية بمعهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، ونشر في "نيزافيسيمايا غازيتا": "ترد تقارير من العراق حول تفعيل خلايا تنظيم الدولة الإسلامية نشاطها في عدد من المحافظات الشمالية. وتجري اعتداءات على الجيش العراقي والبيشمركة الكردية، وممثلين عن السلطات المحلية في محافظات كركوك وديالى والأنبار ونينوى وصلاح الدين. تعود زيادة نشاط تنظيم الدولة إلى عدد من العوامل، ويأتي في الدرجة الأولى منها، تقليص وجود الأمريكيين وحلفائهم في التحالف الغربي في هذه المنطقة من العراق؛ وسوء التفاعل بين القوات المسلحة العراقية في محاربة التنظيم؛ ووباء فيروس كورونا".
في هذا السياق، حذرت لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي اليوم الخميس في 02 نيسان/ أبريل 2020 من استثمار تنظيم الدولة ظروف الدولة وانشغال القوات الأمنية العراقية بمواجهة وباء كورونا المستجد، وقال تقرير اللجنة إن التنظيم شن ثلاثة هجمات متتالية على الجيش وفصائل الحشد الشعبي ما أوقع قتلى وجرحى في صفوف القوات العراقية.
وأضاف التقرير أن التنظيم يستغل ظروف الوباء في حرية التحرك صوب المناطق والقرى في المدن الكبيرة شمال وغرب العراق، وأكد تقرير الأمن والدفاع البرلماني أن التنظيم يحاول استثمار وباء كورونا لتحرير سجنائه، ولذلك شددت السلطات العراقية من إجراءات حراسة السجون التي تؤوي عناصر التنظيم. وأشار تقرير لجنة البرلمان إلى أن التنظيم حاول استغلال الوباء وأجواء القلق لإعادة عناصره لدخول المدن لا سيما في الموصل غرب البلاد، خلال انشغال النازحين وخوفهم من إصابة مخيماتهم بالوباء.
وقد أعلنت وزارة الدفاع العراقية أن التنظيم كثف من هجماته خلال الأيام القليلة الماضية، وأعلنت القوات الأمنية العراقية في بيان السبت أن عشرة عناصر من قوات الحشد الشعبي قتلوا في هجوم شنه تنظيم الدولة بمحافظة صلاح الدين شمال العاصمة العراقية بغداد. وكان التنظيم قد تبنى الأسبوع الماضي هجوما انتحاريا خلف أربعة جرحى خارج مقر استخبارات محافظة كركوك في شمال بغداد.
خلاصة القول إن الاستجابة السريعة التي أظهرها تنظيم الدولة في التعامل مع جائحة "كوفيد- 19"، تشير إلى خبرة التنظيم الطويلة باستثمار الظروف الموضوعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقد أضاف إليها خبرة جديدة بالتعامل الأوضاع الصحية الاستثنائية، فلطالما كان التنظيم انعكاسا لفشل "الدولة الوطنية" وتدبير الانقسامات المذهبية والإثنية والخلافات السياسية والأيديولوجية، وسوء الحوكمة، والتوحش النيوليبرالي الرأسمالي، والتدخلات الإمبريالية الخارجية.
فقد كشف التنظيم منذ تأسيسه عن قدرة فائقة على التكيّف مع التحولات والمستجدات، وقد تمكن خلال فترة وجيزة بعد طرده من مناطق سيطرته من إعادة الهيكلة والعمل كمنظمة لا مركزية، ولا تزال جاذبيته الأيديولوجية مرتفعة، وقدراته المالية جيدة، وقدرته على استقطاب المقاتلين على الصعيد المحلي تتنامى.
وفي المقابل، لا يزال الوضع السياسي والاقتصادي والأمني في العراق وسوريا هشا، وتفتقر القوات الرسمية المحلية إلى الكفاءة والموارد اللازمة في ملاحقة عناصر التنظيم في إطار تحول التنظيم إلى نهج حرب الاستنزاف وتكتيكات حرب العصابات. ويشكل ضعف الاستقرار وتراجع عمليات إعادة الإعمار، إلى جانب سوء الحوكمة وسيادة منظومة الفساد وشيوع الاستبداد، وتفشي الطائفية، الحاضنة الكافية لعودة تنظيم الدولة. وفي منطقة رخوة تعاني من التدخلات الخارجية وصراع القوى الإقليمية والعالمية، فإن جائجة "كورونا" شكلت هدية إضافية لعودة أنشطة التنظيم.
دول آسيوية تقتدي بسوريا في مقاومة الوباء بالجنزير!