السؤال في ضوء فشل الكيان الصهيوني في
تحقيق انتصارات معتبرة أو ملموسة على أرض الميدان في
غزة هو ما هي الاستراتيجية
التي ستنتهجها الولايات المتحدة تجاه هذه الهزيمة؟
يمكن الحديث عن ثلاثة سيناريوهات ممكنة
للوضع الدولي بناء على الطوفان ونحن هنا نتحدث عن استراتيجية الولايات المتحدة
والمنظومة الغربية لا عن موقف الصين أو روسيا.
وذلك أنه من الراجح وكما ذكرنا أعلاه
أن لا تتدخل الصين في تحريك مياه آسنة يعمل أسنها لصالحها كما أن الذي وقع في
الشرق الأوسط أنهى تقريبا الحرب في أوكرانيا وسيكون من الصعب للمنظومة الغربية أن
تتدارك الوضع في روسيا بشكل استراتيجي لصالحها أو لصالح أوكرانيا على الأقل.
ـ يتمثل السيناريو الأول في سيناريو
بالمقاومة.
ـ بينما يتمثل السيناريو الثاني في
سيناريو محاولة الاستيعاب والاحتواء.
ـ أما السيناريو الثالث فهو ما نسميه
بسيناريو الفوضى.
ـ السيناريو الأول
بحسب هذا السيناريو ستسعى إلى وضع
أحداث طوفان الأقصى بين قوسين وغلق هذا الزلزال ومحاولة الاستئناف من نقطة 6 من
أكتوبر أي محاولة مواصلة مسار التطبيع من جهة ومن جهة ثانية إقامة مجموعة من
الاستراتيجيات تسعى لمنع تكرار حادث 7 من أكتوبر ومنع استثمار انتصارات المقاومة
في حربها ضد الكيان الصهيوني لتقوية الكيان الصهيوني بحيث يتجاوز تناقضاته
الداخلية ويحسن صورته لدى
الرأي العام الداخلي والدولي الغربي منه خاصة مع الضغط
على الدول العربية لتسريع خطوات التطبيع مع الكيان الصهيوني والضغط على إيران كي
لا توسع مساحة الحرب وتحييد نفوذها خاصة في اليمن والبحر العربي بحيث لا تتدخل ضد
خط الحرير الموازي الذي تسعى الولايات المتحدة والمنظومة الغربية لإنشائه وإن
بتقديم التنازلات لإيران خاصة بصدد مشروع التسلح النووي ومع ذلك يتم استهداف
الإسلام السني وكل الحركات التي يمكن وصفها بالإسلام السياسي أو الإسلام الإخواني
باعتبار أن كل تنظيم سياسي إسلامي إخواني هو صورة أخرى لحركة حماس التي يتم
تجريمها واعتبارها حركة إرهابية يجب اجتثاثها، وستكون هناك استراتيجية حصار
وتشديد الخناق على تركيا أردوغان مع سياسة شبيه لها لماليزيا أنور إبراهيم إلى حين إخراجهما من المشهد السياسي وقيادة الحياة الفضاء العام كما سيتم فرض شروط سياسية
جديدة على دولة قطر وعلى قناة الجزيرة كي تدخل بيت الطاعة الخليجي بشكل أكثر وضوحا.
ذلك مع سن قوانين تجرم تعبيرات الإسلام السياسي في العالم وفي الغرب والتضييق على مكوناته المدنية مع إحياء لمشروع نهاية الألفين لما سمي حينها بالإسلام المدني
الديمقراطي، ولكن تحت لباس الديانة الإبراهيمية هذه المرة.
مع تركيز سياسات وقيود على منظومات
التواصل الاجتماعي كي تصبح محل ضبط أشد يمكن ترويج القيم المضادة لهذا المسار
ويروج للقيم الداعمة له.
ـ السيناريو الثاني:
يتمثل في اعتبار أن العودة للحظة التي
سبقت 7 من أكتوبر أمر مستحيل وبالتالي الشك في قدرة الكيان الصهيوني على الحفاظ
على المصالح الغربية وعلى رأسها مصالح الولايات المتحدة وهذا يعني فتح ثغرة ضمن
الاستراتيجية الدولية تعتبر التطبيع مسارا غير ذي جدوى وهذا لا يعني التخلي عن
الكيان الصهيوني وإنما اعتبار أن مسار التطبيع بما هو مسار يسمح بمحاصرة الصين
بالتعويل أولا وأخيرا على الكيان الصهيوني كقاعدة صلبة تدور حولها وتمر من خلالها
المصالح الغربية أمر غير ممكن ما يقتضي بداية البحث عن بدائل أخرى مع العمل على
الوصول لحل للقضية
الفلسطينية إما من خلال حل الدولتين أو من خلال حل الدولة
الواحدة على شاكلة ما وقع في جنوب أفريقيا. وضمن هذا السيناريو يترشح دور مهم لكل من تركيا ومعها دولة قطر ما يعني فسح مجال للإسلام السياسي في
صورته الديمقراطية كي يكون له دور ضمن المصالح الغربية، وهذا يعني أن الأجندة
الديمقراطية أو أن الديمقراطية في العالم العربي التي تتواجد في بعض دوله كيانات
سياسية ديمقراطية غير معادية للغرب أو ينظروا لها على هذا الأساس يعتبر وجود هذه
أو هؤلاء الفاعلين أمرا إيجابيا ضمن الاستراتيجية الغربية بما يجعل الإسلام مخاطبا
من قبل المنظومة الغربية وبما يجعل الحديث مع حماس أو صورة المصور لها أمرا مطلوبا.
وهذا يقتضي إبعاد دولة إسرائيل عن
مساحة الصراع الاستراتيجي الدولي والتعويل على الدول ذات الثقل الإقليمي في العالم
العربي والإسلامي والعالم السني بما يحافظ على التوازن مع إيران.
يسمح هذا السيناريو للمنظومة الغربية
بتحييد الشرق الأوسط وتجنب التورط في وحل حرب لا يعلم لها مخرجا حقيقيا ويحد من
مساحة الصراع داخله ويتناسق مع مساعي الإدارة الأمريكية في مساعيها لحل الدولتين
بغض النظر عن جدواه وفعاليته.
السيناريو الثالث:
هو السيناريو الذي يقول إن المنظومة
الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة ستكون عاجزة عن فرض استراتيجية واضحة ضمن
مسار الحرب ما يعني أن الكيان الصهيوني سيتعنت في علاقته بحلفائه الاستراتيجيين
وخاصة الولايات المتحدة وسيرفض البدء أو الانطلاق في أي عملية سياسية نتيجة عن
الحرب في غزة وسيسعى لتحقيق مكاسب وهذا يعني أنه سيسارع خلال الأسابيع القادمة
لارتكاب مجموعة أكبر من الجرائم تزيد من توريط المنظومة الغربية معه وهذا يعني أن
العالم سيدخل في مرحلة هشاشة تعجز فيها المنظومة الغربية عن فرض أجندة واضحة في
المنطقة وفي العالم بحيث تدخل المنظومة الدولية في حالة فوضى تحاول الولايات
المتحدة ضمنها ترقيع الفراغات التي تنتج بسبب التناقضات عن حالة الفوضى وفراغ
السلطة.
ربما يكون الأوان قد آن للتفكير في الإسلام كحليف يجب التعامل معه لا كعدو أو موضوع يمكن الاعتداء عليه. لا يمكن الترجيح في هذا حتى نرى تقدم الأحداث وتطورها ويبقى من المهم أن نفكر للإسلام من حيث استراتيجياته في المرحلة القادمة.
وهذا يعني تواصل الحرب في أوكرانيا
وتواصل التدخل الغربي فيها وتواصل الأزمة في الشرق الأوسط وفي فلسطين بالذات دون
حل ولا رؤية سياسية لأي منهما، وتعطل مشاريع التنمية المطروحة غربيا أي غياب ثقة شركاء الولايات المتحدة في إنفاذ مشاريعها السياسية والاقتصادية.
وهذا سيؤدي إلى تعطيل وإيقاف عملي
لمشروع الممر التجاري بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا بما أن الهند ستراجع
حساباتها وربما تلتفت شرقا.
كما يمكن أن تتراجع المملكة العربية
السعودية عن حماسها في دعم هذه المشاريع وتضع جزءا أكبر من بيضها في سلة الصين دون
التخلي عن الهند وهو ما سيرجح سيناريو مزيد التوتر بين المملكة والإمارات خاصة في
ملف اليمن وكذلك التوتر بين الإمارات ومصر بخصوص ملف السودان، وهذا سيؤدي للتقارب
بين الدولة المصرية والمملكة العربية السعودية على حساب الإمارات مع فتور في
العلاقة مع الكيان.
ويقتضي هذا الارتخاء في السياسة
الغربية وتعدد جبهات الصراع مع العجز عن تحريك السوق وصناعة التنمية وتعمق الأزمات
الاجتماعية في عدد من الدول العربية منها مصر واليمن والأردن والسودان وتونس وربما
معها الجزائر والمغرب ما يفسح المجال لحالات انفلات تشبه ما وقع خلال الألفين
وعشرة إلا أن الحراك الاجتماعي من المرجح أن يكون عنيفا هذه المرة بما أنه سيأتي
في جزء منه بسبب اليأس من القيم الغربية في الديمقراطية والعدالة وبسبب ظلم
المنظومة الغربية للحق الفلسطيني.
وهذا سيناريو يقتضي أو يقضي بفسح
الفرصة للصين لتوسيع نفوذها وكذلك توفير فرصة لروسيا كذلك لتوسيع نفوذها ومعهم
إيران لأن هذه الدول أي كل من الصين وروسيا وإيران هي الدول التي لها مشروع واضح تدافع عنه مقابل ذلك فإن الدول المنضوية ضمن المنظومة الغربية وخاصة بعد
أحداث 7 من أكتوبر لا يبدو أن لها دورا إلا منع القوة الجديدة في العالم من البروز.
ما هي احتمالات رجحان أي من هذه
السيناريوهات؟
السؤال الذي نود التعاطي معه الآن
متعلق بمزيد التفصيل في كل سيناريو من حيث إمكانية وقوعه ومن حيث رجحانه أو عدم
رجحانه.
مع تطور الأحداث في غزة ووضوح عجز
الكيان الصهيوني عن تحقيق انتصار عسكري ميداني على حساب المقاومة ومع تطور وضع
الرأي العام الشعبي خاصة في الدول الغربية ومع هزيمة الكيان الصهيوني وحلفائه في
الحرب الإعلامية وعجزه عن إخفاء جرائمه التي يرتكبها كل يوم في غزة بدا من الواضح
أن مواصلة الحرب سيكون لها ثمن مرتفع جدا على حساب الكيان الصهيوني من حيث
صورته كدولة ديمقراطية متحضرة في صحراء متوحشة وكذلك من حيث أثره على السلطة
المعنوية للولايات المتحدة وخاصة أثر ذلك على أجيال الشباب الغربي وفي جزء في نخبه
الأمر الذي ينذر بزلازل سياسية في الدول الغربية ربما تقصف بالنخب السياسية فيها
أو تضعفها بالإضافة إلى أن العجز والضعف الذي بانت أو أبانت عليه قدرة الكيان
الصهيوني في إدارة الحرب وفي منع وقوعها. كل هذا يطرح أسئلة جدية بخصوص مدى القدرة
في المضي قدما في الاستثمارات الضخمة التي يجب وضعها في مشروع التطبيع بما هو
مشروع يفسح المجال لبناء خط تجاري مواز لخط الحرير الذي بشرت به الصين الأمر الذي
سيجعل كلا من الهند بالإضافة للدول المتضررة من هذا الخط الموازي مثل الصين أساسا
وإيران وتركيا ومصر كل هذه الدول تسمح لها هذه الحرب بفرصة التدخل من أجل طرح
إعادة التفكير في المشروع الأمريكي ولا يستبعد أن تدخل المملكة العربية السعودية
في هذه الدينامية.
كل هذه التناقضات ستعطل مسار التطبيع
ليس موقفا من الكيان الصهيوني وإنما دفاعا عن مصالح هذه الدول، كما أن المنظومة
والنخب الغربية نفسها ستحتاج لإعادة التفكير في مدى القدرة على إنفاذ هذا المشروع
على حساب الشعب الفلسطيني. فقد بينت المقاومة الفلسطينية أن حصار غزة الذي دام
الآن أكثر من 17 سنة وأن خنق الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يؤدي إلى إنهاء القضية
كما بين أنه ليس من مصلحة الدولة المصرية وإن كان السيسي على رأسها أن تستقبل مئات
الآلاف أو مليوني فلسطيني على أراضيها من أجل إفراغ غزة كل ذلك كي تتمكن الصهيونية
من تحقيق ما يسمى بإسرائيل الكبرى. كل هذه المتغيرات تقول إن وضع السابع من أكتوبر
بين قوسين والانطلاق من لحظة 6 من أكتوبر في اتجاه مواصلة مسار التطبيع يبدو أمرا
غير ممكن إن لم نقل مستحيلا.
وإن ما يزيد في عدم رجحان هذا
السيناريو مساعي صاحب القرار الأمريكي إلى العمل على الوصول إلى إيقاف الحرب
وتقليل خسائر مواصلتها.
ولكن بالطبع موازين القوة ومخرجات
الحرب يمكن أن تؤدي إما للإبقاء على وضع حماس ضمن قائمة الإرهاب دون التوسع في
تجريم كل ما هو سياسي أو الجناح السياسي لحماس أو الحركات الإسلامية التي تنتمي
لنفس العائلة وهو ما يجعلنا نتجه صوب السيناريو الثاني أي أن أحداث 7 من أكتوبر
تفسح بفرصة للإسلام السياسي أو الإسلام الديمقراطي من خلال أو على أرضية القضية
الفلسطينية وهو ما يعني أن قضية الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي مرتبطة
بقضية التحرير أي تحرير للقضية الفلسطينية وهو الشعار المناقض للشعار الذي قامت
عليه المنظومة العربية قبل مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي قاده "بيريز"
أي شرعية التحرير على حساب شرعية الحرية والديمقراطية بحيث تدخل المنطقة العربية
والعالم الإسلامي في مرحلة شرعية الديمقراطية على أساس شرعية التحرير.
يواجه هذا السيناريو مجموعة من العقبات
أولها أن المملكة العربية السعودية بصفتها الدولة الإقليمية التي بقيت واقفة بينما
انهارت الدول التي حولها مثل سوريا العراق ومصر. ربما تقوم المملكة العربية
السعودية ومعها مصر ثم الإمارات بالضغط ضد المضي في هذا السيناريو وتمتلك السعودية
من وسائل الضغط والإغراءات الاقتصادية ما يسمح لها بالضغط على حليفها الأمريكي كي
لا يمضي في اتجاه التعامل مع الإسلام بأي وجه من وجوهه بصفته إسلاما سياسيا أو
إسلاما ديمقراطيا أو إسلاما حمساويا أي إسلام مقاوما كي لا يتم التعامل معه وكي لا
يتم التخلي عن تجريمه وبالطبع تجد هذه الدول حليفا لها وهو جزء من المنظومة
العربية والكيان الصهيوني واللوبيات التابعة له وهذا ما يرجح أن السيناريو الثالث
أي سيناريو العجز عن فرض أي استراتيجية بما أن موازين القوة التقليدية والنافذة
ترفض التعاطي مع الإسلام بصفته مشاركا في الحياة العامة وترفض الديمقراطية داخل
المنظومة العربية بما هي آلية تهدد منظومة الاستبداد التي قامت على أساسها الدولة
القطرية بما أن الديمقراطية هي آلية للتعبير عن إرادة الشعوب الحرة وهو ما يهدد
طموحات المنظومة الغربية من حيث حاجتها للولوج مباشرة للثروات في المنطقة. هذا
مقابل التيارات الجديدة الصاعدة والتي تعبر عن نفسها من خلال دعمها للقضية
الفلسطينية والتي تقتضي الاعتراف بالإسلام والديمقراطية وبحق الشعب الفلسطيني ومن
ورائه الشعوب العربية والمسلمة في الحرية وفي التعبير الحر عن إرادتها لأن هذه
المنظومة الصاعدة ما زالت منظومة غير متشكلة بعد وغير مؤسسة وغير مدعومة من مؤسسات
صلبة. بحيث لا يمكن الاطمئنان لوجودها اليوم ولقدرتها على التعبير بما هي إرادة
معارضة للسياسات الرسمية التي تنتهجها الدول الغربية ما يعني أنها لما تتحول لقوة
ضمن البيروقراطية الحاكمة وضمن النخب السياسية المهيمنة في المنظومة الغربية.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار الضعف الذي
تمر به الدول المتضررة من إستراتيجية التطبيع الذي هو العنوان السياسي لخط الحرير
الموازي الذي تريد الولايات المتحدة بناءه على حساب الصين والضعف المقصود به الضعف
الذي تمر به تركيا ومن جهة أخرى الضعف الذي تعاني منه الدولة المصرية تحت قيادة
السيسي حيث خسرت مصر السودان بما هي دولة مستقرة تمثل عمقا استراتيجيا لها.
بالإضافة للدور الذي قامت به إسرائيل ضد مصر في موضوع سد النهضة وزد على ذلك فإن
الخط التجاري الذي يبرمج لوضعه من الهند في اتجاه أوروبا يهمش مصر ويجعل قناة
السويس التي هي شريان الاقتصاد المصري قناة غير ذات جدوى وزد على ذلك فإن السياسة
التي تنتهجها المملكة العربية السعودية هي كذلك تضعف من دورها لأنها تصنع نخبة
سياسية حاكمة في غربة كاملة عن الحالة الشعبية والثقافة الخليجية من حيث معاداتها
للدين ومن حيث تبشيرها بليبرالية متوحشة بل بديانة جديدة لشعوب المنطقة وهو الأمر
الذي يتوقع أن ينتج ردود فعل عنيفة خلال السنوات القادمة خاصة في شعوب محافظة
دينيا.. إن هذا الضعف يجعل من الصعوبة بمكان ترجيح سيناريو الدفاع عن الديمقراطية
أو الدفاع عن الإسلام ويرشح سيناريو الرضوخ لمسار التطبيع وهذا يعني أن الذي سيرجح
بين السيناريو الأول والسيناريو الثاني هما عاملان أساسيان:
العامل الأول هو الرأي العام الشعبي والمتمثل
في الرأي العام العربي والإسلامي وقدرة الشعوب العربية والإسلامية على الدفاع عن
حقوقها ومصالحها وقدرة الشعب الفلسطيني على مواصلة مقاومته للاحتلال الصهيوني.
ومع الرأي العام العربي والإسلامي فإنه
ولأول مرة يتسع هذا المجال لرأي عام دولي وإنساني يلتقي مع المسلمين ومع
الفلسطينيين في الدفاع عن قيم الإنسانية عامة من مثل قيمة الحرية وقيمة العدالة
وقيم الخير ضد الجريمة والكذب والافتراء الذي تورطت فيه المنظومة الغربية.
إن مشاهد الظلم والقهر الذي يعيشه
الضمير الإنساني والمسلم كل يوم وهو يشاهد دماء الأبرياء الفلسطينيين وهي تنتهك
وأرواحهم وهي تزهق كل يوم مع تواصل لا يمكن أن لا يكون له أثر بليغ في الضمير
الإنساني والإسلامي خلال العقد القادم.
كما أن صورة البطولة التي صنعتها
المقاومة الفلسطينية تحيي لدى الشعوب المسلمة والعربية يقينا بإمكانية تحقيق النصر
خاصة بعد خيبات الربيع العربي وبعد الانقلاب الذي قبر آخر تجربة لديمقراطية قدمت
كل التنازلات من أجل الحفاظ على التعايش والسلم الأهليين في تونس.
بحيث ما عاد ممكنا تصديق مسلك آخر
للتحرر إلا من خلال طريق المقاومة وهذا لا شك سيكون له أثره لا فقط على شباب
العالم العربي والإسلامي، بل على نخبه السياسية بكل أطيافها.
أما العامل الثاني فيتمثل في حجم
التناقضات التي ينتجها مسار التطبيع ومع الخط المرسوم للخط التجاري المزمع إنجازه.
إذ من البين أن هذا الخط يهمش دولا ذات
ثقل إقليمي معتبر بداية من الباكستان وإيران وتركيا ومصر ومعها سلطنة عمان
والأردن، وزد على حجم التناقضات المتزايدة بين المملكة العربية السعودية والإمارات
العربية المتحدة. والتناقضات بين مصر والإمارات كذلك. كل هذه عوامل ستكون كوابح
جدية بدأت تتحرك قبل السابع من أكتوبر وستجد فيه حجة قوية للانفلات من التزاماته
السياسية والاقتصادية.
وأخيرا من المهم أن نلاحظ أن التجارب
بينت أن الحرب مع الإسلام في أي إطار كانت وبأي تعبيرة كان يصعب إن لم نقل لا يمكن
تحقيق النصر فيها للطرف المعتدي فحتى الحرب مع داعش (هذا الكيان المصطنع) لم تنتصر
فيها الولايات المتحدة، بل انتهت بتوسع النفوذ الروسي في سوريا والإيراني في
العراق.
والسؤال هل تقدم الولايات المتحدة ومن
ورائها المنظومة الغربية على حرب واسعة مع الإسلام في أبسط تعبيراته وأقلها تعقيدا
وأكثرها مباشرة واعتدالا من حيث الفكر والقيم واتساعا من حيث الجمهور لا فقط داخل
المسلمين حول المعمورة، بل كذلك على الامتداد الإنساني فالقضية الفلسطينية أصبحت
اليوم رافعة وخافضة لا فقط للنخب السياسية العربية والإسلامية بل كذلك للنخب حول
العالم ومعهم للشعوب. فقد انتهت لأداة تعرية أو تعبئة لمن يقف ضدها ولمن يتبناها
ويحملها.
ولذلك فإن على صاحب القرار الغربي
والعربي والإسلامي أن يفكر لأكثر من مرة قبل الإقدام على خوض مثل هذه الحرب.
وربما يكون الأوان قد آن للتفكير في
الإسلام كحليف يجب التعامل معه لا كعدو أو موضوع يمكن الاعتداء عليه. لا يمكن
الترجيح في هذا حتى نرى تقدم الأحداث وتطورها ويبقى من المهم أن نفكر للإسلام من
حيث استراتيجياته في المرحلة القادمة.
استراتيجيات المسلمين:
ما هي الاستراتيجيات الممكنة المطروحة
على قوى التحرر في العالم العربي والإسلامي؟
ليس معلوما كيف سيكون سلوك المسلمين في
العالم تجاه هذا الطوفان وكيف ستكون ارتداداته على ضمير الأمة ونخبها وشبابها.
يبين تاريخ الأمة أنها لا تسكن عندما
تتعرض للاعتداء، والسؤال هو ما هي طبيعة الطاقة التي ستنفجر في أعماقها أو كيف
سيتم افتعال تفجير هذه الطاقة وتوجيهها في غير وجهتها كما وقع في العديد من
المناسبات.
الأكيد هو أن هذا الحدث يختزن طاقة
كبيرة داخل الأمة وبين أجيالها بما في ذلك الأجيال الصاعدة منها وأن حدث الأقصى في
غزة قد غرس غرسا أعماق المزاج الشعبي للأمة وللإنسانية.
واضح أن الإسلام ما فتئ يقاوم موجة بعد موجة وكانت آخر موجاته في موجة الربيع العربي حيث قدم الإسلام للإنسانية ولأول مرة نموذجا للثورة مغايرا للنموذج الغربي نموذج الثورات السلمية.
لا يمكن الحديث في ما لا يمكن توقعه
ولكن بإمكاننا وضع صورة عما يجب أن يكون بحيث تجتمع نخب الأمة والصادقين من
أبناء البشرية في توجيه هذه الطاقة لما فيه الخير الجماعي والعام.
من خلال التحليل الذي قدمناه تبين أن
ملف الإسلام يطرح من جديد على الفضاء العام لا فقط على مستوى العالم العربي
والإسلامي، بل على المستوى الدولي.
وقد تعاملت المنظومة الدولية مع
الإسلام والمسلمين من منطلق الطرف الذي تم الإنتصار عليه والذي كان من المفروض أن
يقبل بهزيمة أوقع فيها منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
واضح أن الإسلام ما فتئ يقاوم موجة بعد
موجة وكانت آخر موجاته في موجة الربيع العربي حيث قدم الإسلام للإنسانية ولأول مرة
نموذجا للثورة مغايرا للنموذج الغربي نموذج الثورات السلمية. التي تم وقفها أولا في
سوريا ثم الانقلاب عليها في مصر واليمن وليبيا والمغرب والسودان وأخيرا في تونس.
ولكن ومع ارتكاسة موجة الثورات العربية أمام الثورات المضادة فإن العالم الإسلامي
تمكن من التقدم في ثلاث مساحات إذ صمدت تركيا أمام الاستهداف ونجح الإسلام في
ماليزيا وقبل ذلك تمكن الأفغان من تحرير أرضهم وفتح أفق نحو المستقبل.
ومع ما يقع في غزة وتعري المنظومة
الغربية عن القيم الإنسانية والعدالة والقانون فإنه أصبح من الصعب إقناع نخب
العالم الإسلامي وشعوبه بأن الغرب يمكن أن يكون نموذجا يتبع أو شريكا يبنى معه أو
حليفا يعتمد عليه.
ولا شك أن هناك أصواتا تعلو الآن في سب
هذا الغرب والدعوة للبحث عن بدائل له أو العمل على قيم ترفض كل هذا الغرب
"الكافر" وترى في إسلام مهيمن ومقاتل لكل هذا "الطاغوت" حلا
وحيدا.
لا شك أن التطرف ينتج تطرفا مقابلا
وأنه وأمام التطرف الصهيوني المدعوم بتيارات اليمين المسيحي الشعبوي المتطرف تجد
الأصوات الراديكالية من داخل الإسلام صدى لها وآذانا تستمع ونواصي تهتز بالموافقة.
على أن الإسلام العنيف الذي عبر عن
نفسه خلال التسعينات وبداية الألفين فشل فشلا ذريعا كفكرة وكمشروع وانتهى لتقسيم
دول وفرار شعوب من الشأن العام وتيئيسها من الإسلام. بل إن هذا الصنف من المسلمين
كانوا وسيلة المخابرات المحلية والدولية في ضرب الاستقرار في دول العالم الإسلامي
واستهداف الإسلام ذاته.
ولذلك فإن الرد الذي سيقدم خدمة
استراتيجية للكيان الصهيوني ومن يواليه سيكون في مثل هذا النمط من الردود هذا إذا
لم تسع هذه الدول إلى المسارعة باصطناع مجموعات عنيفة تملأ الفراغ وتسهلك طاقة
المسلمين في عمل تخريبي لا يؤدي إلا لتكريس الهزيمة والتمكين للكيان الصهيوني
والأنظمة المستبدة مع ضرب منظومة الدولة في العالم العربي والإسلامي والاستقرار
فيه.
ولذلك فإن الحليف الاستراتيجي لمسار
التطبيع والصهيونية في العالم هو في الحقيقة كل التيارات الشعبوية والعنيفة مسلمة
كانت أو مسيحية أو بوذية أو يهودية.
السيناريو الثاني: يمكن أن يفكر
المسلمون في التعويل استراتيجيا على المنظومة المنافسة للمنظومة الليبيرالية
الغربية. وهذا يحتمل أمرين التوجه مباشرة في اتجاه الصين وربما روسيا معها. أو
العمل على الاندماج ضمن ما يسمى بالجنوب العالمي Global
South.
رغم الإغراء الذي في فكرة التوجه نحو
الصين وروسيا أو الصين منفردة فإن هذا الحل يحمل في داخله العديد من المخاطر
أولها أن كلا من هاتين القوتين تعملان من أجل مصلحتهما الضيقة. زد على ذلك فإننا لم
نر في هذه الدول ولا شعوبها تعاطفا معتبرا مع القضية الفلسطينية ولا امتناعا عن
التعامل مع الكيان الصهيوني زد على ذلك تورط روسيا في سوريا وعلى حساب الشعب السوري
وتورط الصين في اضطهاد الأقليات المسلمة لديها. ولذلك فإن كلا من الصين لا يمثلان
بديلا أحسن من المنظومة الغربية التي في بعض دولها مناصر جدي للقضية الفلسطينية
وحتى في دولها الداعمة للصهيونية مؤسسات مناصرة للحق الفلسطيني والإنساني.
أما عن فكر الجنوب العالمي فهي فكرة
وإن بدت مغرية بما أنها تجمع دول الجنوب التي تتعرض عادة لاضطهاد الدول الكبرى
والغنية إلا أن هذا الجنوب يحتوي كذلك على دول مثل الصين والهند وكل واحد منها
ينتمي لشق مناقض للآخر كما أن جزءا من دول الجنوب يحتاج هو ذاته للتحرر بنفس
الطريقة التي يحتاج الإسلام فيها للتحرر. إن شعار الجنوب الدولي شعار جميل ليس له
بعد مقومات القيام بذاته مستقل عن حدوده الشمالية ولا مقومات بناء شبكة مصالح مع
جيرانه من الجنوب دون المرور بالشمال أو بالحدود التي يهيمن عليها الشمال.
تحدي المقاومة وفرصة الإسلام..
الديمقراطية والحرية
بقدر ما يمثل انكشاف الوجه المتوحش
للمنظومة الغربية وفقر قيمها بقدر ما يمثل ذلك فرصة للإسلام والمسلمين في تقديم
أنفسهم مرة أخرى كحل للإنسانية بما هم معبرين عن دين جاء رحمة للعالمين وللناس
كافة برهم وفاجرهم.
وإنما بيان معدن القيم عندما يفتن
أصحابها وقد عبرت المقاومة في فلسطين عن نقاوة معدن الإسلام وإنسانيته من حيث
تعامل المقاومة مع من تم أسرهم ومن حيث صدقهم في ما يحبرون والتزامهم بما يعدون مع
قوتهم وثباتهم وجرأتهم وإقدامهم على الموت طلبا للحياة.
يحتاج المسلمون لتنظيم جهدهم ضمن الكيانات المنظمة ابتداء من أهمية وجود دول ترفع هذه القيم وتعبر عنها ما أمكن وهذه الدول سيكون منها ما هو من ضمن العالم الإسلامي من مثل دولة قطر وتركيا وربما تلتحق بها ماليزيا.
كما بينت المقاومة أن الإيمان يمكن
ترجمته كعمل مبدع فقد استطاعت المقاومة تسخير الحجر والماء والتراب حتى ابتكرت
قدرات عسكرية فاقت بها أعتى قوة عسكرية على الأرض بما لديها من مدد وبما جعلها
الله أكثر نفيرا.
إن لحظة طوفان الأقصى هي لحظة من لحظات
الإسلام بامتياز مثلما كانت لحظة الربيع العربي وهذه اللحظات تهز العالم عندما
تحدث وتغير معالمه الجغرافية والفكرية وتسرع أحداثه في اتجاهات جديدة ولا راد لهذه
الاتجاهات وإن تولدت عنها موجات مضادة إلا أن هذه الاتجاهات وإن تغلبت عليها
الموجات المضادة فإنها لا تغلبها، وانظر الثورة الفرنسية وكم من موجة مضادة
واجهتها فإن أوربا لم تستقر حتى تحولت كل أنظمتها.
وإن كشفت الثروات العربية للمسلمين
والعرب حقهم في الديمقراطية وحق الإسلام في المشاركة في قيادة الفضاء العام فإن
طوفان الأقصى كشف أن الديمقراطية غير ممكنة بعيدا عن مسار الحرية والتحرير.
لم يكن من السهل للمسلمين خلال نضالهم
لأكثر من قرن أن يفتك الحق في الحرية من المحتل أولا ومن افتكاك الحق في
الديمقراطية من نخبه ثانيا.
لقد بينت معركة طوفان الأقصى أن
الفلسطيني يناضل من أجل الحق الإنساني في حدوده الدنيا وأن أرقى أداة للدفاع عن
هذا الحق ينتجها الإسلام.
ولذلك فإن هناك فرصة لتقديم الإسلام
كطرف مساهم في رأب مرض القيم الذي تعاني منه الإنسانية.
وذلك أن الإسلام وهو يدافع عن قيم الحق
والحرية القانون والمساواة يدافع عنها بما هي قيم كونية فعلا، غير منحصر في لون
ولا جنس ولا دين ولا جغرافية.
وهذا يعني أنه ليس أمام المسلمين إلا
النظر في العالم في من وقف معهم وشاركهم قيمهم الإنسانية هذه بما هي قيم الفطرة
والإسلام واعتبارهم شركاء لهم في معركة التحرر أولا وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
وهذا يعني أنه ليس هناك حلول سريعة
للأزمة التي تعاني منها الإنسانية وللظلم الذي يعاني منه مستضعفو العام ومن بينهم
المسلمون.
وفي إطار هذه القيم الإنسانية العامة
يحتاج المسلمون لتنظيم جهدهم ضمن الكيانات المنظمة ابتداء من أهمية وجود دول ترفع
هذه القيم وتعبر عنها ما أمكن وهذه الدول سيكون منها ما هو من ضمن العالم الإسلامي
من مثل دولة قطر وتركيا وربما تلتحق بها ماليزيا. ودول تشارك الإسلام والمسلمين
قيمهم من مثل البرازيل وربما اسبانيا ومع هذه الدول فلا شك أن هناك منظمات مدنية
ومكونات مجتمع مدني وشبكات الإعلام والمؤثرين ورجال الأعمال الأحرار.
"وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ
وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"
*وزير سابق وكاتب وتونسي
إقرأ أيضا: طوفان الأقصى والعدوان على غزة.. الحدث والمآلات الاستراتيجية (1 من 2)