لا تخلو كتب التاريخ
المصرية من الحديث عن بذخ وإسراف الخديوي إسماعيل (1830- 1895)، الذي أودى في البلاد إلى السقوط ببراثن الاحتلال، وكان سببا في خضوع الاقتصاد المصري لسيطرة الدائنين بتعيين وزير إنجليزي لمراقبة الواردات المصرية وآخر فرنسي لمراقبة المصروفات الحكومية.
ومنذ انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، ولأكثر من 10 سنوات، يسير رئيس النظام عبد الفتاح
السيسي، على ذات النهج في الإنفاق، الذي أوصله إلى الاستدانة الخارجية، وتكبيل مصر واقتصادها وشعبها وأجيالها القادمة بأكبر حجم ديون وفوائد في التاريخ، وجعلها رهن السيطرة والتدخل الأجنبي في أي وقت، بحسب متحدثين لـ"عربي21".
أحدث الأرقام وفقا لبيانات البنك المركزي المصري تشير إلى حجم تأثير كارثة
الديون على مصر، حيث كشف التقرير الرسمي أن مدفوعات خدمة ديون مصر الخارجية بلغت في 10 سنوات نحو 132.7 مليار دولار، ما بين أقساط وفوائد.
وهو الرقم المهول الذي تم اقتطاعه من الموازنة العامة لبلد هو الأكثر سكانا في إقليم الشرق الأوسط والوطن العربي، وتسبب في وضع أكثر من 106 ملايين نسمة بالداخل في أسوأ الأحوال التي مرت بتاريخ مصر الحديث والمعاصر، بحسب مراقبين.
بل إن وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني، أشارت في أحدث تقاريرها عن الاقتصاد المصري، وفي معرض تعليقها على صفقة "رأس الحكمة"، التي جرت بين مصر والإمارات 23 شباط/ فبراير الماضي، إلى أنها ستعزز سيولة النقد الأجنبي في البلاد.
لكن الوكالة التي خفضت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، تصنيف مصر الائتماني على المدى الطويل إلى "بي سالب" (B-) هبوطا من "بي" (B)، قالت في تقريرها الجديد إن الاقتصاد المصري سيواجه ظروفا صعبة في العامين الماليين 2024 و2025 في ظل ارتفاع معدلات التضخم وضعف النمو.
وتوقعت "فيتش" أن تكون التحديات المالية على الاقتصاد المصري ضاغطة، إذ وصل الدين الحكومي العام إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى حوالي 95 بالمئة في السنة المالية 2023، وتوقع أن تتجاوز الفائدة 50 بالمئة من الإيرادات الحكومية في السنة المالية 2025، وهو مستوى مرتفع مقارنة بباقي الدول التي تغطيها الوكالة، بحسب التقرير.
وتؤكد البيانات الرسمية تضاعف إجمالي الديون الخارجية المستحقة على مصر خلال السنوات العشر الأخيرة، حيث بلغ إجمالي الدين الخارجي بنهاية الربع الأول من العام الماضي نحو 165.4 مليار دولار، فيما تمثل الديون المقومة بالدولار أكثر من ثلثي هذا الرقم، الذي يعادل 40.3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
"ذات السياسات والأخطاء"
بل إن المخاوف تتفاقم مع استمرار سياسات حكومات السيسي، الذي يواصل نفس أساليب الإنفاق الترفي وتوريط مصر في ديون جديدة، على مشروعات أكد خبراء اقتصاد وسياسيون مصريون كثيرا عدم جدواها الاقتصادية.
وبرغم أن مصر تعد ثاني أكبر مدين لصندوق النقد الدولي بعد الأرجنتين، إلا أن نظام السيسي، يواصل عقد الاتفاقيات مع صندوق النقد الدولي، والمحتمل الإعلان عن الأخير منها بنحو 12 مليار دولار، خلال أيام.
الأمر الذي يعني وفق خبراء حصول السيسي، على ورقة إشادة دولية يمكنه بها الاقتراض مجددا واستقبال الأموال الساخنة مرة أخرى، وبالتالي زيادة ديون مصر، وزيادة العبء على الموازنة العامة المصرية، وزيادة أمد الديون المقررة على الأجيال القادمة.
وقادت سياسات الاقتراض الخارجي إلى تنفيذ ما يسمى ببرامج الإصلاح الاقتصادي التي يحددها صندوق النقد الدولي أكبر مؤسسة دولية مقرضة للاقتصاديات الناشئة والدول النامية.
ومن تلك السياسات، توجيهات بتخارج الدولة المصرية من العديد من القطاعات الاقتصادية لصالح القطاع الخاص، ما تبعه التفريط وبيع وطرح أصول سيادية وأخرى عامة أمام مستثمرين استراتيجيين وفي البورصة المحلية تمثلت في 35 شركة لها تأثيرها ووزنها وتاريخها بالسوق المصرية.
كما أن تلك السياسات قادت إلى كارثة أخرى وهي مبادلة الديون الخارجية بأصول مصرية، نتيجة لعجز حكومة السيسي عن الوفاء بالتزامات خدمة الدين من فوائد وأقساط ومتأخرات، مع أزمة شح الدولار والعملات الصعبة التي ضربت السوق المصرية منذ الربع الأول من العام 2022، وهروب أكثر من 20 مليار دولار من الأموال الساخنة من السوق المحلية.
وأثيرت أنباء عن مناقشات جرت في 2022، حول مبادلة الصين وفرنسا وألمانيا ديونها لدى القاهرة بأصول مصرية استراتيجية، فيما تبقى مخاوف المصريين قائمة على أصول مثل الموانئ والمطارات والأراضي الاستراتيجية والتي تمس الأمن القومي المصري، إلى جانب ما يثار عن قناة السويس وحديث التفريط بأصولها.
آخر صفقات التفريط التي أثارت غضب المصريين كان توقيع الإمارات عقد شراكة وتطوير لمساحة 170 مليون متر مربع من أفضل مناطق مصر السياحية بالساحل الشمالي الغربي فيما يعرف بصفقة "رأس الحكمة"، والتي تحصل منها مصر على 35 مليار دولار، بينها 11 مليارا مبادلة ودائع إماراتية لدى البنك المركزي المصري.
"أرقام مفزعة"
وفي كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أكد البنك المركزي المصري أن إجمالي الالتزامات الخارجية بما في ذلك الأقساط وفوائد الديون سجلت نحو 42.3 مليار دولار خلال العام 2024، بينها نحو 32.8 مليار دولار ديون متوسطة وطويلة الأجل، ونحو 9.5 مليارات دولار أخرى من أقساط الديون والفوائد قصيرة الأجل.
الكاتب الصحفي عماد الدين حسين، وفي مقاله المنشور بموقع "الشروق" المحلي، 5 آب/ أغسطس الماضي، أكد أن وضع الديون في مصر شديد الخطورة، مشيرا إلى أن "حجم ديوننا يساوي تقريبا حجم كل ما ننتجه"، ناقلا عن المتحدثين بـ"الحوار الوطني"، الذي جرى العام الماضي بدعوة من السيسي، أرقاما مفزعة.
بينها ما ذكره، المقرر المساعد للمحور الاقتصادي عبد الفتاح الجبالي، من أن إجمالي الدين العام الداخلي والخارجي بلغ 113 بالمئة من الناتج المحلي في حزيران/ يونيو الماضي.
وأيضا تأكيد مقرر الجلسة النائب طلعت خليل، وصول حجم الدين الخارجي إلى 165.3 مليار دولار، والدين المحلي إلى 6.68 تريليونات جنيه نقلا عن بيانات وزارات التخطيط.
وأن الدين المحلي الداخلي قفز بنسبة 109 بالمئة بزيادة 2.497، تريليون من 2016 إلى 2022، فيما قفز الدين الخارجي بنسبة 614 بالمئة ليصل إلى 2.526 تريليون جنيه بنفس الفترة.
وخلال ذات الجلسة من الحوار الوطني، قال وكيل لجنة الخطة والموازنة بالبرلمان المصري مصطفى سالم، إن إجمالي الديون الداخلية والخارجية بلغت حوالي 9.4 تريليونات جنيه بنسبة 95.9 نهاية آذار/ مارس الماضي من إجمالي الناتج القومي البالغ 9.8 تريليونات جنيه.
وبحسب بيانات البنك المركزي في آيار/ مايو الماضي، تبلغ نسبة أعباء الدين المقرر سدادها إلى الإيرادات المتاحة "ضرائب ومنح وإيرادات أخرى" 113 بالمئة وهي تبلغ 15.6 بالمئة من حصيلة الضرائب وفقا لتقرير لجنة الخطة والموازنة للعام المالي الجاري.
"رهن التدخل الأجنبي"
وفي رؤيته، لحجم ما طال مصر وشعبها واقتصادها من أضرار جراء ديون عهد السيسي، قال السياسي المصري خالد الشريف، إن "السيسي كبل مصر بالديون والقروض، وجعلها رهن شروط صندوق النقد الدولي، والذي ما دخل بلدا إلا وخرب اقتصادها، وقضى على سيادتها الوطنية".
القيادي في حزب "البناء والتنمية"، أضاف لـ"عربي21"، أن "السيسي من بداية حكمه وهو يسعى لتدمير مصر؛ بل وفرط في سيادتها وأرضها وأقام مشروعات لا تُجدي ولا تُفيد المواطن دون دراسة أو تفكير استراتيجي"، ملمحا إلى أن ما دشنه السيسي من مشروعات لا تعوض خسائر مصر من الديون.
"ومثال ذلك، حفر تفريعة قناة السويس (2015)، والتي لم تعد بأي فائدة على المجرى الملاحي الهام عالميا ومحليا، والذي يعاني من انخفاض حركة الملاحة ومرور السفن في ظل حرب غزة، والركود التجاري الاقتصادي الذي تعاني منه التجارة العالمية"، متسائلا: "أي عاقل يقول إنها لم تعد بأي فائدة على البلاد"، بحسب الشريف.
وتابع: "والمشروع الثاني: العاصمة الإدارية الجديدة، والتي لا تفيد المواطن، ومصر التي تعاني أزمة اقتصادية ليست في حاجة لها، ولكن السيسي يريد تخليد اسمه فقط حتى وإن كان على حساب المصريين".
وأكد أن من تأثير تلك السياسات أنه "كبل الأجيال الحالية والقادمة في الديون وجعل البلاد رهينة للتدخل الأجنبي".
وحول كيفية وقف هذه الأزمات أو حلها جزئيا، يرى الشريف، أن "الحل في رحيل هذه السلطة الغاشمة التي ضيعت البلاد وأفشلت كل مناحي الحياة".
وختم مؤكدا أن "رحيل السيسي ضرورة لإنقاذ مصر، وأول سطر بعد رحيله يكون بعدم الاعتراف بتلك القروض ولا بتلك الاتفاقيات التي وقعها السيسي، دون موافقة الشعب عليها".
"بدايات تنبىء عن مآلات"
وفي حديثه لـ"عربي21"، قال الكاتب المصري المعارض أحمد حسن بكر: "لا بد أن نعود لبدايات النظام، لنعرف لماذا وصل الحال بمصر وشعبها بكافة الأصعدة لما وصلت إليه؟".
ولفت إلى أنه عقب الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب الراحل محمد مرسي، وعزله وسجنه حتى وفاته بظروف لم تتكشف أبعادها بعد، جرت مجازر بشعة بحق معارضيه كالحرس الجمهوري، وماسبيرو، ورابعة والنهضة، وزج بآلاف المعارضين بالسجون والمعتقلات، ثم تهديده لأي مصري تراوده نفسه للترشح لمنصب الرئاسة، والتأكيد نصا: (هشيله من على وش الأرض).
بكر، أكد أنه "من هذه المقدمة اتضح أن رأس نظام الحكم رسم الملامح الرئيسة لنظام حكمه، كنظام حكم عسكري ديكتاتوري دموي".
ولفت إلى أنه "عندما أراد رسم ملامح نظام حكمه الاقتصادي، وزيادة موارد الدولة، والتخفيف من أزمة البطالة، وجدناه يطالب الحكومة، ورؤساء البنوك (بالفكة) أي كسور الجنيه، من تعاملات المواطنين مع الجهاز المصرفي، وعن بطالة الشباب، رأى أن الشباب الجامعي يمكنهم العمل كسائقي سيارات نصف نقل، لنقل منتجات المزارع للأسواق".
وعلق بالقول: "هكذا أفصح النظام عن انعدام رؤيته، وجهله بأبجديات المالية والاقتصاد"، موضحا أنه "لكي يضمن تنفيذ سياساته ورؤاه، كان لا بد وأن يضمن عدم المحاسبة، والمراجعة، فكان التنكيل، والإهانة، ثم الإقالة والسجن لرئيس الجهاز المركزي للمحاسبات هشام جنينة، عندما تحدث عن تقديرات الجهاز لتكلفة الفساد بمصر".
وأضاف: "لم يكتف بكل هذا، بل أطلق للجيش اليد الطولى بالاستحواذ والاحتكار لمعظم الأنشطة الاقتصادية، دون دفع ضرائب، وأجور، أو مراجعة أوجه الصرف والإنفاق، وفوق كل هذا منح الجيش مساحات شاسعة من الأراضي، بل وانتزع أملاكا خاصة مسجلة بأسماء مواطنين ليعطيها للجيش بالقوة، لتباع لاحقا".
وأشار الكاتب المصري أيضا إلى غياب دراسات الجدوى الاقتصادية، مؤكدا أنه "ولأن النظام الحاكم يرى نفسه مبعوث العناية الاقتصادية، ضرب بدراسات الجدوى عرض الحائط، وأخذ يردد: (ففهمناها سليمان)، وكأنه نبي أعطاه الله من العلم اللدني، كما أكد أن الله وحده سيحاسبه، وليس الشعب".
ولفت إلى أنه "لهذا بدد المليارات بإنفاقها على مشاريع نفذها دون جدوى، ودون دراسات جدوى، كتفريعة قناة السويس، والعاصمة الإدارية، وعشرات الكباري، وأكبر جامع وأكبر كنيسة، وطائراته وقصوره الرئاسية".
وأوضح أنه "على الجانب الآخر أغلق وهدم عشرات المصانع المنتجة وسواها بالأرض، وشرد عمالها، كمصانع الغزل والنسيج والكيماويات، والصباغة، والحرير الصناعي بكفر الدوار، والإسكندرية، ومصانع الحديد والصلب بحلوان، وبعض مصانع السكر بالصعيد، بقائمة تطول".
"ضياع قيمة الجنيه"
وقال بكر: "بعد كل هذا كان طبيعيا حدوث ندرة في احتياطيات البنك المركزي المصري من العملة الصعبة، التي أنفقها على استيراد معدات هندسية، لحفر تفريعة القناة، ولهدم بيوت ومساجد الشعب، بحجة البناء المخالف، وظلت قيمة الجنيه أمام الدولار تتهاوى، والأسعار ترتفع، والفقر يزداد، وطابور البطالة يمتد بطول وعرض الوطن".
وتابع: "لم يجد النظام، بعد أن وضع البلاد على حافة الإفلاس، وبعد أن رفضت دول الخليج تقديم المزيد من المساعدات إلا مقابل أصول وأرض مصر، إلا اللجوء إلى صندوق النقد للاقتراض مهما كانت شروطه المدمرة للمجتمع والاقتصاد".
وأضاف: "تراكمت الديون، وعجزت موارد الدولة عن الوفاء بفوائد الديون لا الأقساط، فكان عليه إعلان بيع أرض وأصول مصر بمزاد علني، بدراهم معدودة وبقرارات ديكتاتورية، وكان قد تحسب لهذا، فغير بالقانون حتى لا يجوز الطعن مستقبلا على عقود البيع، وهكذا وصلت مصر تحت حكم السيسي لما نراه ونسمعه، ويراه ويرصده العالم".
"انتكاسات لا إنجازات"
ويرى الكاتب المصري أن "ما تحقق بعهد السيسي انتكاسات اقتصادية لا إنجازات زادت الفقر، ورفعت الأسعار، ودمرت قيمة العملة الوطنية، ورفعت معدلات البطالة والتضخم لأرقام غير مسبوقة بتاريخ مصر، والقارة الأفريقية، والمنطقة العربية".
وأشار إلى إجماع "الخبراء على أن الإسراف في الاقتراض، وإنفاق القروض على مشروعات غير إنتاجية، ودون أولوية اقتصادية، بالإضافة لمغارات علي بابا، المسماة بالصناديق السيادية، وتحيا مصر وغيرها، كانت من أهم أسباب انهيار الاقتصاد، وتدهور أحوال المصريين".
ويرى بكر، أن "رحيل النظام بداية الحل"، قائلا إن "كان هناك من يفكر بإنقاذ ما تبقى من مصر، ويحفظ للأجيال القادمة بعض مقومات الحياة، فليطالب برحيل نظام السيسي، ومحاسبة من أفسد وأهدر مقدرات وأموال الوطن، بل ويطالب باسترجاع ما تم التنازل عنه وبيعه دون موافقة الشعب، وبما أضر بالأمن القومي المصري".
كما يرى أنه "بعد الرحيل وتولي نظام مدني للحكم، لا بد أن تكون الكلمة لخبراء الاقتصاد الوطنيين، ليضعوا وصفات العلاج والإنقاذ، لأنه "لو استمر هذا النظام بسياساته الفاشلة والفاسدة، فحتما ستتفكك الدولة اجتماعيا، وستضعف أكثر وأكثر سياسيا، واقتصاديا، وحتى عسكريا، وسنرى الانفلات الأمني والأخلاقي بالشوارع بسبب الفقر والبطالة، ونصبح دولة فاشلة مفككة".