على مدى ثلاثة أيام عاشت فرنسا حالة من الصدمة والخوف والذهول، عقب
هجمات باريس الأربعاء 7 كانون ثاني/ يناير، انتهت يوم الجمعة 9 كانون ثاني/ يناير بالقضاء على ثلاثة إرهابيين مفترضين وهم: سعيد ورشيد كواشي، وإميدي كوليبالي، وقد خلفت الهجمات 17 قتيلا و20 جريحا، فبعد يومين من المطاردة وعدة ساعات من عملية احتجاز رهائن، قتل الشقيقان سعيد وشريف كواشي المتهمين بتنفيذ الهجوم الدامي على أسبوعية "شارلي إيبدو"، خلال هجوم لقوات الأمن على مطبعة ببلدة دمارتان في شمال شرق باريس، وتزامنا مع عملية الاقتحام بدمارتان، انتهت عملية احتجاز الرهائن في متجر للأطعمة اليهودية في فانسان شرق العاصمة باريس، بمقتل الإرهابي المفترض أميدي كوليبالي وأربعة من الرهائن على الأقل.
لا شك بأن مقتل منفذي هجمات باريس يفسح المجال لأنصار نظرية المؤامرة بالتشكيك بالرواية الفرنسية، إلا أنني اعتقد بأن المتهمين على صلات بالجهادية العالمية، وقد تبنت القاعدة في جزيرة العرب العملية في شريط صوتي للشيخ حارث النظاري صادر عن مؤسسة الملاحم التابعة للتنظيم بعنوان: " أفلحت الوجوه:كلمة حول الغزوة المباركة في باريس"، الأمر الذي يتطابق مع قاله أحد الأخوين في اتصال مع أحد المحطات الإخبارية، ويؤكد المعلومات الاستخبارية التي ذكرت أن سعيد كواشي زار اليمن عام 2011 وتلقى تدريبا لدى تنظيم لقاعدة، وقابل القيادي البارز في التنظيم أنور العولقي الذي قتل في أيلول/ سبتمبر 2011 بطائرة أمريكية بدون، وبحسب مصادر حكومية أمريكية فإن سعيد كواشي وشقيقه شريف وضعا في اثنين من قواعد البيانات الأمنية الأمريكية وهما قاعدة بيانات شديدة السرية لمكافحة الإرهاب تحتوي على معلومات بشان 1.2 مليون مشتبه به محتمل والثانية قائمة أصغر كثيرا "لحظر الطيران" يحتفظ بها مركز مراقبة الإرهابيين، أما أميدي كوليبالي الذي نفذ عملية احتجاز الرهائن في متجر للأطعمة اليهودية في فانسان شرق العاصمة باريس، فقد أكد في اتصال مع أحد المحطات انتمائه لتنظيم "الدولة الإسلامية"، إلا أن التنظيم لم يؤكد الرواية، ولكن التاريخ الشخصي لكوليبالي تشير إلى ميوله الحهادية وصلاته بالأخوين كواشي.
لعل الأسئلة الأبرز التي تطرحها هجمات باريس هي: لماذا يتم الربط آليا بين منفذي الهجمات والإسلام؟، حيث تبدأ هجمات مضادة على المساجد وذوي البشرة الملونة، وهل يعني انتماء الإرهابيين المفترضين للديانة الإسلامية وصم الإسلام بالإرهاب؟ ولماذا لا تطرح الأسئلة الصحيحة المتعلقة بالأسباب الموضوعية المتعلقة بموضوعة العنف السياسي؟، أم أن العقل الجمعي للغرب مرتهن في فهم الإسلام للمؤسسة الاستشراقية، التي تساوي بين الإسلام والإرهاب والخطاب الصهيوني والحقيقة، كما بيّن إدوارد سعيد والذي ندد بالمراجع الغربية التي تخترع إسلاماً لا علاقة له بالإسلام، حيث يتحول "الإرهاب" إلى مفهوم ذاتي غير موضوعي ومفروض وغير مفترض، ذلك أن سلطة القوة الانتقائية هي من تحدد هوية الإرهابي وكينونته، أما ظاهرة "الإرهاب" فإنها تقوم على ثلاثة أركان أساسية؛ وهي: السياسات الإمبريالية والأنظمة السلطوية والألعاب الهوياتية، وإذا نظرنا إلى الممارسات الغربية في المنطقة فهي تقوم على نزعة توسعية إمبريالية عبر الاحتلالات والتدخلات العسكرية المباشرة، وتدعم الأنظمة السلطوية وتسندها بقوتها المادية والرمزية، وترعى الانقسامات الهوياتية الإثنية العرقية والدينية المذهبية وتؤجج الصراعات الطائفية.
لا تبدو عملية الربط بين الإسلام والإرهاب موضوعية، وإنما تشير إلى استراتيجية للهيمنة ترتبط بالتجربة التاريخية الصراعية بين الشرق والغرب، والتي باتت راسخة في العقل الغربي باعتبار الإسلام ينطوي على عنف بنيوي، فقد سارعت التقارير الإخبارية التي صدرت عقب تفجير أوكلاهوما سيتي في الولايات المتحدة في 19 نيسان/ إيريل 1995، والذي قام به تيموثي ماكفي وأسفرت عن مقتل 168 شخصا، إلى ربطه بالإرهاب الإسلامي، وتبرع "الخبراء" بالادعاء أن الهجمات تحمل بصمات الإرهاب "الشرق أوسطي" و"الإسلامي"، وعندما كشفت هوية ماكفي كمنفذ للعملية، لم يربط الإعلام الأميركي "مسيحيته" بالهجمات، بذات الطريقة التي أدين بها "الإسلام" عقب الهجوم، بل جرى التعمية على هويته الدينية والإيديولوجية، وتم التركيز على حالة الاحباط النفسية المرتبطة بخدمته العسكرية وميوله وشكواه السياسية باعتبارها الأسباب الجذرية وراء العنف، وبما أن المسيحية هي الديانة الأوسع انتشاراً في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، فقد تفهم معظم الأميركيين والأوروبيين وجود نوع من المسيحية التي يدّعيها ماكفي تستند إلى تفسير متطرف ومسيّس لا علاقة لها بالتيار المسيحي الرئيس في الغرب.
وعندما نفذ أندريس بيرنغ بريفيك هجوما على مبان حكومية في وسط مدينة أوسلو، وعلى المخيم الصيفي لحزب العمال، في 22 تموز/ يوليو 2011 والتي أسفرت عن مقتل 85 شخصا وإصابة المئات، سارعت التقارير الإخبارية على ربط الهجمات بالإرهاب الإسلامي، وعلى الرغم من أن بريفيك مسيحي متطرف كان يصف نفسه بأنه "صليبي يقف في وجه مد إسلامي وأنه أصولي مسيحي معاد للإسلام والمهاجرين"، إلا أن وسائل الإعلام لم تصفه بــ"الإرهابي" وجرت التعمية على مسيحيته كما حدث مع ماكفي واعتبر فعله فرديا ويرتبط بتفسير متطرف للمسيحية يناهض التيار المسيحي الرئيس في الغرب.
في هجمات باريس وقبلها في لندن ومدريد ونيويورك وواشنطن، الأمر يختلف تماما حين يتعلق الأمر بمنفذي هجمات من الأقليات الإسلامية، ولا يتطابق التحليل مع حالة ماكفي وبريفيك المسيحيين، إذ تختفي المسافة الفاصلة بين الإسلام كتيار أساس وطائفة من أهل الإسلام تتوافر على فهم وتفسير مغاير، وتذهب التفسيرات الغربية إلى المطابقة بين الإسلام والإرهاب، وترتفع الأصوات الغربية التي تطالب المسلمين بالتبرؤ من "الإرهاب" والعنف، وعلى الرغم من استجابة الدول العربية والإسلامية والمؤسسات الدينية الإسلامية الرسمية والشعبية لتلك المطالب، إلا أنها تبقى في دائرة الاتهام والشك ولا تفلح بياناتها ومواقفها في تغيير موقف الغرب، فإدانة المؤسسات الإسلامية في فرنسا لهجمات باريس أمثال: "المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية" ، و"اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا"، و"اتحاد المساجد في فرنسا" ، ودعواتهم إلى التظاهر واستنكار "الإرهاب" لا تحدث فارقا في إعادة النظر وتحسين صورة المسلمين.
لا يزال الغرب يتعامل مع الإسلام من منظور استشراقي ينطوي على متخيل عنصري، فقد شكلت العقلية الغربية متخيلا جمعيا انتظم جملة من التصورات والأوهام الخاطئة حول العرب والمسلمين، وهي لا تزال تتحكم في بناء نظرتها إلى شعوب المنطقة وثقافتها ومؤسساتها، الأمر الذي يعكس حالة التشوش وعدم الانسجام الذي طبع سلوكها وسياستها نحو الشرق الأوسط، إذ تختلط وتتشابك المصالح المادية والاستراتيجية بالأهواء والرغبات و يؤكد البروفسور جاك شاهين وهو من أبرز الباحثين في موضوع صورة العرب في الولايات المتحدة على رسوخ الصور المقولبة والنمطية التي تساوي الإنسان العربي والمسلم بالإرهابي والمتعصب، الرؤية الاستشراقية للعالم الإسلامي لم تسمح للغرب بالنظر إلى الشرق كذات مفكرة أو كتعبير عن إرادة تطلب الخلاص وتسعى للتحرر من الهيمنة، وفي كل محاولة تجري من قبل العالم الإسلامي للإعلان عن اختلافه ورغبته بالسيادة على مقوماته، وتحصين عناصر هويته، تظهر في اللا وعي الغربي كل الصور السلبية التي نسجتها المخيلة الاستشراقية الغربية عن الإنسان المسلم، ويجري التعامل معه كعدو متمرد، ويصبح العالم الإسلامي مصدرا للقلق والهوس والفوبيا، ويبقي المتخيل الجمعي الغربي في حالة من الاستنفار,
في كل أزمة مع العالم الإسلامي نرى أحكاما مسبقة، ومواقف مرعبة وصور غريبة، وتبرز عبارات العداء، وكأن الغرب لم يفهم أو يستوعب أي شيء من التجربة الاستعمارية القاسية، حيث ما زال يواصل سياسة مضطربة وفوضوية ضيقة الأفق، تزكيها تدخلات خرقاء ومخجلة، فالنزعة المناهضة للعرب والمسلمين بحسب تيري هانتش تصاعدت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث حلّت هذه النزعة محل معاداة السامية، واستبدل باليهودي العربي والمسلم، باعتبارهما عناصر غير مرغوب فيها، مثل المهاجرين في أوروبا .
يمكن القول أن مقولة الغرب فيها تجسيد لخطاب نرجسي مغلق على ذاته يطمح إلى تكريس الانفصال والقطيعة عن باقي العالم، ويقوم على مكونات تمييزية هشة بين التقليدين الآري والسامي على مستوى اللغة والعقل، وبين المجتمعات السحرية والمجتمعات العقلانية الحديثة، وبين الدول القومية ذات العمق التاريخي والرسالة الإنسانية والمجتمعات البدائية المتخلفة، وهي ذات الرؤية الاستشراقية الاقصائية التمييزية التي عملت على صناعة وصياغة وهم الخطر الإسلامي وبلورت خطاب الكراهية والعداء للإسلام بعيدا عن الرطانات البلاغية العلموية الاخلاقوية، وينبغي على فرنسا أن تلتفت إلى الأسباب الموضوعية التي أدت إلى هجمات باريس، وهي أسباب تتعلق بواقع الهوية والاندماج والاقصاء، وواقع النزعة التدخلية الإمبريالية، وتعيد النظر في سياساتها الداخلية والخارجية، وتكف عن سياسة ترهيب الإسلام.