في الوقت الذي تبدو الصورة فيه صراعاً مريراً بين نظام
الأسد وتنظيم الدولة، والجيش الحر، للسيطرة على مناطق أوسع في
سوريا، تبدو المراهنة على أن الرابح الأول "إسرائيل" واضحة للعيان.
فالتعاون بين نظام الأسد وتنظيم الدولة اليوم بدأ يأخذ شكلا علنياً، ولم لا؟ فالحرب اليوم أعلنت عالمياً وبشكل واضح ضد أي وجود سني معتدل في المنطقة، ووجد نظام الأسد أن المجتمع الدولي يشاركه في معركته، سواء أراد له أن يكون على رأس السلطة في سوريا أم رفض وجوده، إلا أنه لن ينهيه على الأقل في الفترة الحالية.
تجلّى له ذلك بعد خمس سنوات من صراعه للبقاء، استنفذ خلالها قوته العسكرية وحاضنته الشعبية، وخسر معها تدريجياً ولاءات قيادات كان يعتمد عليها في إدارة عصبته، فواقع حال الصراع في الشرق الأوسط عموماً وفي سوريا خصوصاً، يظهر تخوفاً كبيراً من المجتمع الدولي، من ظهور قوة سنية معتدلة في الشرق الأوسط، تقارب أو تتشابه مع النظام الحاكم في تركيا.
وهو بحد ذاته أمر مرعب للوبي الصهيوني: أن توجد قوة دينية سنية معتدلة في الشرق الأوسط، لأنهم يدركون بأنها ستكون حاضنه مرضية وجاذبة لغالبية المجتمعات العربية، بمن عليها من طوائف عرقية ودينية، وستحقق توازناً في المنطقة، بالإضافة إلى أنها ستتمكن من النهوض سريعاً بالشرق الأوسط وإعادة بنائه وإحياء حضارته في فترة سريعة جداً "قياساً بالتجربة التركية".
ونحن لا نرمي الكلام جزافاً، فعلى الرغم من أن الثورات العربية انطلقت من أجل الحرية و الكرامة والعدالة الإنسانية وتحقيق الديمقراطية، إلا أن أحداً منا لا يستطع القفز فوق الحقيقة التي تقول: إن أغلب شعوب الشرق الأوسط ذات خلفية إسلامية معتدلة، و أي ممارسات ديمقراطية حقيقية، ستقود إلى حكم سني معتدل، وأقول معتدلاً وليس متطرفاً لأن التطرف والتشدد في المنطقة قبل الصراع لم يشكل إلا كسوراً لا تجبر.
لم يكن النظام عابثاً في بداية الثورة السورية، عندما لعب على ورقة الإسلاميين الإرهابيين والمتشددين، الذين يسعون إلى قلب نظامه، فهو أرسل رسالة واضحة للعالم أن المسلمين قاموا من غفوتهم.
أكثر من 70 % من الشعب السوري مسلم سني معتدل، و هم من خرجوا مع إخوتهم من مختلف الأقليات الدينية لاستعادة حقهم في حياة إنسانية كريمة و اليوم يوصفون بالإرهاب و التشدد ، ربما تثير تصريحات الأسد و أبواقه مخاوف لدى الشعوب الأوروبية، المغيبة عن حقيقة واقع المجتمعات العربية البسيطة و المعتدلة في نمط حياتها.
إلا أن هذه المخاوف لا يمكن أن تتسرب إلى داخل المجتمع السوري حتى السذج منهم، فكيف للسوريين على سبيل المثال أن يقتنعوا بأن جارهم أو زميلهم في العمل أو أحد المقربين لهم، تحول فجأة إلى إرهابي متطرف متشدد لمجرد أنه حمل السلاح ضد نظام، حاول اغتيال إنسانيته و انتهاك حرمات بيته ومسجده ومعتقده، بعد أن ضيّق الخناق على رقبته و صعّب له الحصول على لقمة عيشه !
كيف يمكن لابن الساحل أن يخاف من الأحرار في جبال الساحل، و هم في أغلبهم من جيرانه أو رفاق دربه، وكيف يمكن للدمشقي أن يقتنع بأن ابن الغوطة أو دوما إرهابي! و أن أهله في جوبر و القابون قتلة! و كيف يمكن لأهالي سوريا من ساحلها إلى داخلها أن يؤمنوا بأن أهالي الرقة التي استباح حرمتها كل من نظام الأسد و تنظيم الدولة و قوات التحالف، قد تحولوا في ليلة و ضحاها إلى رعية لدى الخليفة !
ومع ذلك، فالسوري اليوم يعتقد بأنه أمام عدو واحد وهو، نظام الأسد و حليفته
إيران و معهما تنظيم الدولة، لأنهم عصبة واحدة تعمل بتنسيق عال ضمن نهج واحد وآلية واحدة وهدف واحد ، وهو" تدمير الحضارة في سوريا و الشرق الأوسط عموماً و الحفاظ على أمن إسرائيل".
و لا نتعجب عندما يمنع تنظيم الدولة مرور المواد الإغاثية و الطبية، بحجة الضغط على سكان المناطق التي تحت سيطرته للانضمام و الانتساب إلى صفوفه ، فيما يسمح بمرور أكثر من مئة و خمس وثمانين شاحنة محملة بالقمح من محافظة الحسكة إلى مدينة طرطوس أهم المدن الساحلية التي تتبع نظام الأسد .
و لا نستغرب عندما يغذي نظام الأسد قواعد التنظيم بالكهرباء في حين يقطعها عن المناطق التي تحت سيطرته بحجة التقنين .
هذا من بين العديد من الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية، واتفاقيات الإدارة المشتركة بين نظام الأسد وتنظيم الدولة للعديد من الثروات السورية .
فكيف يمكن بعد هذا أن نستغرب عندما يقصف النظام المدنين و الأبرياء في الرقة و دير الزور و الحسكة و غيرها من المناطق التي تحت سيطرة التنظيم، دون أن يصيب و لو خطأ موقعاً عسكرياً واحداً للتنظيم ( اللهم إلا بعض الجنود من الطرفين الذين تستغل قياداتهم أراوحهم من أجل ملء المادة الإعلامية بقصص حرب وهمية بين الأسد و التنظيم، بأن يذاع أصيب إرهابي من قوات التنظيم على يد قواتنا البواسل، ويقابله إعلان عن نفوق مرتد خائن من قوات الأسد على يد التنظيم).
استمرار الصراع على هذا الشكل يلبي مصالح تل أبيب التي تستفيد من إطالة أمد الصراع في سوريا والشرق الأوسط عموماً، ولكنها و إن التقت مع مصالح الأنظمة الاستبدادية و القمعية لإلهاء الشعوب في صراعات داخلية و تفتيت قوتها وتحويل الشعوب العربية عن القدس كقضية مركزية وأولوية، إلا أنها لن تلتقي إطلاقاً إذا ما نمت قدرات هذه الأنظمة و تعاظمت قوتها، و لهذا السبب تحديداً نشهد قصفاً إسرائيلياً لمخازن أسلحة، و منشآت عسكرية سورية بين الحين و الآخر، و تعقيدات و تحفظات ومماطلة في الملف النووي الإيراني.
إسرائيل تعلم بأن الأسد لم يعد قادراً على ضمان سيطرته على الحدود معها ، فهو لم يعد الشرطي الأمين الحامي للحدود، وفي حال استلمت المعارضة السورية السلطة فلن تعود سوريا جارة مريحة وخصوصاً أن اسرائيل لن تتوقف عن حربها الاستنزافية المستفزة للمقاومة الفلسطينية، وبالتالي لا يمكنها ضمان ردات فعل الحكومة الجديدة في سوريا، التي كما رجحنا بأنها ستكون إسلامية معتدلة في حال كانت الانتخابات ديمقراطية عادلة ،أما بالنسبة لتنظيم الدولة ، فحددت مهامه على ما يبدو ما بعد الحدود مع إسرائيل، و أما ما يريده المجتمع الدولي لسوريا، فهو حكومة شبيهة بحكومة الانقلاب في مصر أو حكومة حفتر القادمة في ليبيا ، لتبقى وتستمر أي مقاومة شعبية إسلامية في البلاد العربية مخنوقة في قوائم التطرف والتشدد والإرهاب.