في ديوان آل جرار في واد برقين غرب مدينة جنين جلس الأستاذ الشاعر صالح محمد جرار (أبو محمد) الذي تقترب سنوات عمره من التسعين يتقبل التعازي بزوجته الحاجة رجاء جرار (أم محمد) وهو يصابر ألم فراقها وتنهمر من عينيه الدموع مع نشيج يحاول إخفاءه، فيما غاب عن العزاء ابني الفقيدة اللذين لم يتمكنا من إلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليها، بسبب أن أحدهما مقيد في سجون الاحتلال، بينما الآخر مقيد في الغربة بعيداً عن
فلسطين.
وكانت رجاء جرار (أم محمد) قد فارقت الحياة ووريت الثرى بعد صلاة يوم الجمعة الخامس من شباط/ فبراير الحالي، بغياب ابنيها محمد الذي يعمل في كندا، وإسلام المحكوم بعدة مؤبدات في سجون الاحتلال الاسرائيلي.
ذرية بعضها من بعض
وتمثل عائلة صالح جرار في مدينة جنين شمالي الضفة الغربية نموذجاً للعديد من العائلات الفلسطينية التي تقارع الاحتلال الإسرائيلي يوميا، في الوقت الذي تسجل فيه الكثير من الابداعات، حيث أن الشاعر التسعيني صالح محمد جرار درس العديد من الأجيال من أبناء فلسطين، ممن بلغ بعضهم اليوم الستين والسبعين من العمر، وقد اقترن بقريبته رجاء (أم محمد) ولكن الله شاء ألا يرزقا بالذرية إلا بعد سنوات طويلة من العلاج الممزوج بالتوكل على الله والصبر والاحتساب.
وأنعم الله على صالح ورجاء بالذرية فرزقهم الله بولدهم البكر (محمد) الذي تفوق في دراسته وأكمل دراسة الطب في الولايات المتحدة ويعمل في كندا، ثم بابنتهم الوحيدة (نسرين- أم عمر) التي تعمل في التربية والتعليم بعد أن حصلت على شهادة الماجستير، أما الثالث فهو (إسلام) الذي هو فخر وصبر وأمل وألم لأبويه.
من المسجد الكبير إلى الجامعة
وبحسب المعلومات المتوافرة عن عائلة جرار فإن الابن الأصغر إسلام (44 عاما) التزم بأداء الصلاة في مساجد فلسطين وحضور حلقات العلم في مسجد جنين الكبير، قبل أن ينضم إلى الحركات السياسية الفلسطينية ويصبح واحداً من الناشطين في صفوفها.
وأنهى إسلام الثانوية العامة ليلتحق سريعاً بكلية العلوم والتكنولوجيا التابعة لجامعة القدس في بلدة أبو ديس على مرمى حجر من المسجد الأقصى، ومنذ اليوم الأول لدراسته انتظم في صفوف الكتلة الإسلامية واختار تخصص برمجة الكمبيوتر.
ونتيجة لأنشطته الطلابية تعرض إسلام لاعتقالات متكررة؛ ليبدأ والده الشاعر وأمه الصابرة رحلة ألم وصبر متجددة، فالابن الذي تأخر مجيئه ومجيء أخيه وأخته سنوات طويلة، وكان الوالدان يعدان الأيام حتى يكبر ويكمل دراسته ويتزوج أصبح زائرا دائما لمراكز تحقيق الاحتلال المختلفة ولسجن النقب الصحراوي لفترات متقطعة من شهور الاعتقال الإداري.
وبعد اتفاق أوسلو أصبح إسلام نزيلا في سجون السلطة منذ عام 1996 حيث كان اعتقاله الأول لمدة 6 شهور وتلته اعتقالات أخرى لبضعة شهور، والاعتقالات أخرت تخرجه سنوات عدة.
التخرج والعمل...وفلسطين
وتقول عائلة جرار إن الابن إسلام تخرج بعد سنوات من الجامعة في أبو ديس، وحصل على وظيفة معلم في مدرسة حكومية، وافتتح في جنين مركزا لبرمجة وصيانة أجهزة الكمبيوتر وإعطاء الدورات التعليمية المختلفة في الكمبيوتر واللغة الإنجليزية وغير ذلك، وأخذ أبو محمد وأم محمد يعدان العدة لتزويجه بعد هذه السنوات من المعاناة، إلا أن فلسطين ظلت في عقل وقلب إسلام، بحسب ما يقول مصدر في العائلة تحدث لــ"
عربي21".
ويشير المصدر إلى أنه مع انفجار انتفاضة الأقصى انفجرت براكين الغضب داخل إسلام، ومع أنه كان كتوماً قليل الكلام، ولا يحب الظهور على وسائل الإعلام، إلا أنه انتظم في صفوف الانتفاضة الفلسطينية لمقارعة الاحتلال في الضفة الغربية، وسرعان ما أصبح منزل إسلام هدفا لمداهمات الاحتلال الذين كانوا يقولون لوالده الصابر المحتسب: ابنك مخرب كبير!
وفي السادس والعشرين من آب/ أغسطس 2002 داهمت قوات كبيرة من جيش الاحتلال مخيم جنين وحاصرت منزلا كان إسلام يختبئ فيه حيث تم اعتقاله وحكم عليه بالسجن تسعة مؤبدات.
ولكن الحكم لم يكن نهاية معاناة إسلام وذويه، فقد منعوا من الزيارة لفترات طويلة، ولم يسمح لهم بمعانقته أو التقاط صورة معه إلا بعد 11 عاما بعد تدخلات وضغوطات كثيرة، كما أنه تعرض للعزل الانفرادي سنوات طويلة، بحسب ما يؤكد المصدر العائلي الذي روى القصة لـ"
عربي21".
وتمثل وفاة والدة إسلام واحدة من اللحظات الفارقة في تاريخه النضالي، حيث يُجمع
الأسرى والمعتقلون دوماً على أن فقدان عزيز يمثل المحنة الأصعب والأكبر التي يواجهونها خلال سنوات الاعتقال.
وحين تم تشييع جثمان أم محمد في جنين كان المئات من الفلسطينيين المشاركين في الجنازة والعزاء يدعون الله بأن يمن على صالح جرار (أبو محمد) بأن يرى ابنه محرراً قبل أن يلحق برفيقة دربه التي ماتت وهي تحلم بأن تعانق إسلام وهو محرراً.